ثـــــــورة نــوفمبــــر لم تبـــــح بكل أســـــــرارها

في ذكراها الرابعة والستين ما تزال ثورة أول نوفمبر المجيدة بحاجة إلى كتابات وكتابات، و قراءات متجددة، وبحوث وتحريات و تقص دقيق ومتواصل  لإظهار الكثير من جوانبها التي بقيت في الظل إلى يومنا هذا، وللوقوف على البعد الإنساني لها، وعلى الجهد والتضحيات الكبيرة التي قدمها الشعب الجزائري بجميع فئاته
 من أجل الحرية والاستقلال.
على الرغم من مرور 64 سنة على اندلاع ثورة أول نوفمبر الكبيرة وعلى الرغم من البحوث والدراسات والأفلام التاريخية والوثائقية التي أنجزت حولها إلا أنها لم تكشف بعد عن كل أسرارها، ولم يتم ربما حتى اليوم الكشف حتى عن نصف التضحيات و المجهود الذي قام به الشعب الجزائري طيلة سبع سنوات ونصف من أجل استرجاع حريته.
ويظهر اليوم ما كتبه الجزائريون حول ثورتهم  من كتب عامة وبحوث تاريخية ودراسات أكاديمية و مذكرات شخصية وشهادات ضئيل وضئيل جدا، مقارنة بزخم الأحداث التي عرفتها البلاد بين سنتي 1954 و 1962، من جهة، وضئيل جدا مقارنة بما كتبته المدرسة الفرنسية نفسها حول ما تسميه هي بحرب الجزائر.
وفي الحقيقة فإن ما أنتج من أفلام سينمائية طويلة حول الثورة المجيدة في خلال الخمسين سنة الماضية لا يتعدى بضع عشرات على الرغم من قوة وشهرة البعض منها، وهي قليلة إلا أنها لم تتطرق إلى مختلف البطولات التي قام بها جيش التحرير والشعب، ونفس الشيء بالنسبة للأفلام الوثائقية والريبورتاجات والشهادات التاريخية للفاعلين، مع الإشارة في هذا الجانب أن وزارة المجاهدين عمدت في السنوات الأخيرة إلى تخصيص ميزانية كبيرة لتسجيل شهادات المجاهدين في كل ولايات الوطن.
 أما بالنسبة للمذكرات الشخصية الخاصة بالجنود والضباط وكبار القادة العسكريين، والسياسيين، و أعمدة دبلوماسية الثورة، والمتعاونين معها والذين التحقوا بها من دول أخرى والذين قدموا مساعدات مادية  لها وغيرها فإنا لا تكاد تذكر، فنحن اليوم لا نجد إلا عددا محدودا من المذكرات يمكن عده بسهولة،  ومن حقنا أن نتساءل أين هي مذكرات عقداء الثورة الذين يعدون بالعشرات؟ أين هي مذكرات الضباط، أين هي مذكرات الجنود؟ مع العلم أنه في دول أخرى تعتبر مذكرات الجنود مهمة جدا في كتابة التاريخ لأن الجندي الذي قد يبدو بسيطا يعايش هو أيضا أحداثا مهمة في مسيرته الحربية يمكن أن تشكل مادة خام للمؤرخين في مرحلة كتابة التاريخ.  ثم أين هي مذكرات القادة السياسيين؟ وهم أيضا بالعشرات ولماذا لم ننجز أفلاما عن هؤلاء القادة، أو وثائقيات حول مسيرتهم وشهاداتهم، فضلا عن الأحداث والمعارك الكبرى التي خاضها حرب التحرير الوطني، فلحد الآن على سبيل المثال لم يتم إنجاز فيلم واحد فقط عن معركة الجرف الشهيرة.
يقول الدكتور مصطفة نويصر أستاذ التاريخ الحديث بجامعة الجزائر في هذا الصدد " إذا قمنا بعملية إحصائية لما أنتجناه منذ الاستقلال إلى اليوم مقارنة بما أنتجته المدرسة الفرنسية من آلاف الكتب ومئات المذكرات للضباط والجند والفاعلين، والدراسات الأكاديمية والكتب العامة فإننا لا نصل إلى نسبة 5 من المائة مما وقع خلال الثورة التحريرية".
ويضيف المتحدث" خلال الثلاثين سنة الأولى التي تلت الاستقلال كانت كتابة  تاريخ الثورة مقننة، أي كتابة رسمية تخضع لظروف تلك الحقبة، وقد تكفل بجزء من هذه المهمة المعهد الوطني للدراسات التاريخية الذي أنشئ سنة 1975 حيث حاولت من خلاله الدولة كتابة تاريخ الثورة، لكن الكتابات الأخرى خارج هذا الإطار بدأت تظهر مع بداية التعددية حيث بدا التاريخ يتحرر نوعا ما إن صح التعبير".ويخلص المتحدث إلى أنه نستطيع القول بأننا لم نقدم شيئا مقارنة بما حدث بين سنتي 1954 و 1962 رغم أهمية وعظمة ثورة أول نوفمبر الخالدة.وعلى الرغم من تعدد المعاهد والمخابر والجامعات في الجزائر في السنوات الأخيرة، وتوفير وسائل البحث إلى حد ما فإن جوانب عدة من تاريخ ثورتنا المجيدة لا تزال مخفية ولم ينفض عنها الغبار إلى اليوم، و ما تزال مساحات واسعة منها عذراء تماما لم تطلها يد الباحثين والمنقبين عن التاريخ والمفتشين عن الأحداث. ومن هذا المنطلق يبقى أحسن احتفاء بثورة أول نوفمبر المظفرة بالنسبة للأجيال الجديدة هو كتابة تاريخها بكل تفاصيله وتدوينه وقراءته قراءة صحيحة، ونقله للأجيال القادمة بكل موضوعية وحياد، أما بالنسبة لما بقي من المجاهدين والمشاركين فيها فإن أفضل ما سيقومون به قبل رحيلهم هو تمكين الباحثين من الأجيال الجديدة من الوصول إلى كل المعلومات والأحداث التي شهدتها الثورة دون حسابات أو خوف أو توجس.                   إلياس -ب

اعتراف ماكرون بالتعذيب خطوة أولى أو ذر للرماد في العيون؟
 الجزائر لن تتنازل عن مطالبة فرنسا بالتوبة والاعتذار عن جرائمها
تتمسك الجزائر بمطلب اعتراف الفرنسيين بالذنب والإقرار بالجرائم المرتكبة في حق الجزائريين طيلة الحقبة الاستعمارية، ويؤكد مسؤولون أن إقامة علاقات «جيدة» بين البلدين مرهون بتسوية ملف الذاكرة، ويرى كثيرون أن تصريحات الرئيس الفرنسي ماكرون مؤخرا بشأن التعذيب خطوة في الاتجاه الصحيح يتوجب أن تتبعها خطوات أخرى، بالمقابل يراهن عدد كبير من السياسيين في فرنسا على عامل الزمن لطي صفحات الذاكرة مع الجزائر، ويردد بعضهم أن رحيل جيل الثورة بالجزائر كفيل بتجاوز واجب الاعتراف والإقرار بالذنب. 
يجمع السياسيون والمؤرخون في الجزائر على ضرورة تسوية ملف الذاكرة مع فرنسا، ويؤكد المسؤولون وصناع القرار في الجزائر، بان إقامة علاقات جيدة مع فرنسا يمر عبر طي هذا الملف، ويؤكدون على أن هذا المطلب لا تراجع عنه، كونه مطلب شعبي قبل أن يكون مطلبا رسميا، حيث أكد رئيس الجمهورية السيد عبد العزيز بوتفليقة، في الرسالة التي وجهها للجزائريين بمناسبة عيد الاستقلال، العام الماضي، أن الشعب الجزائر ما زال مصرّا على اعتراف فرنسا بجرائمها الاستعمارية في الجزائر.
ويرفض الجانب الجزائري إخراج هذا المطلب المشروع من سياقه التاريخي، وقال بوتفليقة في رسالته «ليس في هذا التذكير بالماضي أي دعوة إلى البغضاء والكراهية، حتى وإن ظل شعبنا مصرا على مطالبة مستعمر الأمس بالاعتراف بما اقترفه في حقه من شرٍّ ونكال». وتابع «من خلال استذكار الماضي وما تكبدناه فيه من مآس، تحت وطأة الاحتلال الفرنسي، إنما نمارس حقنا في حفظ الذاكرة وفاء لأسلافنا الذين قاوموا فاستشهد منهم الملايين وسجن منهم مئات الآلاف أو أخرجوا من ديارهم، بينما جرد ملايين آخرون من أراضيهم وممتلكاته».
وفي نظر المؤرخين تعد الجرائم التي ارتكبها الاستعمار الفرنسي في الجزائر، من أكبر وأفظع الجرائم التي سجلها التاريخ الحديث والتي تعرضت للسطو والمصادرة، والتي تم اختطافها رسميا من التداول الإعلامي، ومن النقاش التاريخي الأكاديمي، بل حتى صور تلك الجرائم والوثائق والأرشيف تعرضت للسطو وتم التستر عليها أو على جزء كبير منها، في محاولة لطمس آثار تلك الجرائم ومحو آثارها إلى الأبد.
ولعقود طويلة، مارست السلطات الفرنسية سياسة التغييب الرسمي الممنهج، والتضليل التاريخي والإعلامي للحقيقة خلال الحقبة الاستعمارية، والجرائم التي ارتكبتها بحق مواطنين عزل، ومنعت لسنوات المؤرخين والأكاديميين من دراسة وفتح الأرشيف لمعرفة تفاصيل تلك المجازر. واعتمدت أيضاً على طمس الحقيقة لعقود عبر إسقاط جميع التحقيقات القضائية التي حاولت تسليط الضوء على بعض المجازر المرتكبة في حق الجزائريين.
ويقول كتاب ومؤرخون، أن الدولة الفرنسية وجدت «صعوبات وحرجا» للاعتراف بالجرائم التي اقترفتها في حق الشعب الجزائري إبان الحقبة الاستعمارية و ذلك لكون بعض المسؤولين الفرنسيين الذي كانوا ضالعين في جرائم خلال حرب التحرير أصبحوا قادة مسؤولين في هرم الدولة الفرنسية بعد استقلال الجزائر. وهو ما اثبته الواقع حيث تنكرت فرنسا لوجهها الاستعماري القبيح طيلة تلك السنوات، قبل أن يأتي الاعتراف الرسمي من قبل الرئيس ماكرون الذي اقر بان فرنسا أرست نظاما قمعيا مارس التعذيب في حق الجزائريين.
وفي الحقيقة ما قاله ماكرون لم يكن سرًا دفينًا، فعشرات الكتب التي ألفت عن الجزائر تحدثت عن التعذيب، وتضمنت اعترافات من ضباط خدموا في الجزائر إبان الحرب. لكنها المرة الأولى التي يكذّب فيها رئيس للجمهورية الروايات الرسمية لحقيقة ممارسات القوات الفرنسية في المستعمرة السابقة، التي حكمتها فرنسا طيلة 130 عامًا.
ماكرون يقر بالتعذيب... ماذا بعد؟
فبعد عقود عدّة من الانتظار، جاء الاعتراف وتجرّأ الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون على قول ما لم يقله سابقوه في قصر الإليزيه، فقد أقرّ الرئيس الشاب الذي لم يعش الحقبة الاستعمارية، بأن بلاده مارست التعذيب خلال سنوات الحرب في الجزائر، وجاء هذا الاعتراف خلال زيارة قام بها ماكرون إلى منزل موريس أودان الذي قُتل سنة 1957، حيث سلم لزوجته جوزيت (87 سنة) وولديها بيانًا أكد فيه «أن فرنسا أقامت خلال حرب الجزائر نظاما أستخدم فيه التعذيب وأدى خصوصًا إلى وفاة موريس اودان»، ووعد ماكرون كذلك بـ»فتح الأرشيف المتعلق بقضايا اختفاء مدنيين وعسكريين من فرنسيين وجزائريين» خلال الحرب التي لا تزال أحد الملفات الأكثر إثارة للجدل في تاريخ فرنسا الحديث ونظراً لما لذلك من أثر على العلاقات الوثيقة والمعقدة القائمة بين فرنسا والجزائر.
ويقول محللون، أن ماكرون تجاوز بهذا الاعتراف إحدى أبرز المسائل المحظورة في الرواية الرسمية للأحداث التاريخية في فرنسا، ويعتبر خطوة تاريخية فهي المرة الأولى التي تعترف فيها فرنسا كسلطة بأن هناك نظام تعذيب من قبل عسكريين فرنسيين خلال حرب التحرير في الجزائر. وقال المؤرخ بنجامين ستورا أن اعتراف فرنسا بخطف وقتل موريس أودان خطوة مهمة في اعتراف فرنسا بجرائم التعذيب في الجزائر. ورغم أهمية هذا الاعتراف، فإنه يبقى في نظر الكثيرين غير كاف، خاصة بالنسبة للجزائريين الذين يريدون اعتذار رسميا من فرنسا عن جرائمها التي امتدت لأكثر من 130 سنة، لا تزال تلقي بظلالها على العلاقات بين البلدين حتى اليوم. و في الوقت الذي اعتبر البعض أن اعتراف فرنسا بتعذيب وقتل موريس أودان مقدمة لاعتراف فرنسا بجرائمها في الجزائر، قال آخرون أن فرنسا تمارس العنصرية، لأنها استثنت موريس، لأنه فرنسي عن الملايين من ضحايا حرب الجزائر الذين قضوا تحت التعذيب. واعتبر وزير المجاهدين طيب زيتوني خطوة إقدام فرنسا بالاعتراف بجريمة قتل المناضل و صديق الثورة الجزائرية موريس اودان، بالخطوة الايجابية التي من شأنها تشكيل صفحة جديدة و ايجابية في تاريخ العلاقات بين البلدين. وأضاف زيتوني أنه “حان الوقت لفرنسا أن تعالج كل الملفات العالقة الخاصة بالذاكرة بكل جدية و ايجابية”. لكن الملاحَظ أن كل الرؤساء الفرنسيين يقفون عند حاجز الاعتراف، ويرفضون تماماً الحديث عن الاعتذار. وضمن هذه الرؤية، حاول ماكرون، خلال زيارته الأخيرة للجزائر في ديسمبر الماضي، إيجاد مقاربة جديدة للنظر إلى التاريخ المشترك بين فرنسا والجزائر، عبر اللعب على عامل الزمن، حيث دعا الجيل الجديد في البلدين إلى عدم البقاء في الماضي، والالتفات إلى معالجة مشاكل المستقبل، عندما واجهه شباب جزائريون بمسألة الاعتذار. ويؤكد مؤرخون أن المطلوب للانتقال من حالة الاعتراف إلى الاعتذار هو الضغط أكثر على الفرنسيين للوصول إلى هذا الحق الشرعي، لكن الاعتراف في حدّ ذاته هو إقرار بالذنب يترتّب عليه الحق في التعويض. ويعتقد كثيرون أن تكرار اعتراف فرنسا بعدد من الجرائم مؤشر إيجابي، إلا أن ذلك لن يؤدي حتماً إلى إغلاق ملف الذاكرة الأليمة بين البلدين بالنظر إلى بقاء أغلبها عالقاً.
ع سمير

شكلت وسيلة دعاية عجزت أمامها فرنسا


الشعر الملحون.. البندقية الثانية التي رافقت ملحمة ثورة التحرير  
رافق  و واكب الشعر الفصيح والملحون ثورة الفاتح من نوفمبر 1954، وكان بمثابة البندقية الثانية التي أطلقها المجاهدون في وجه الاستعمار الفرنسي، بحيث كانت تلك الأهازيج الشعبية وسيلة من وسائل الإعلام التي سخرتها الثورة الجزائرية لتبليغ ماهيتها وأهدافها، وكثيرا ما استخدمها قائلوها لتأكيد مباركتهم للثورة وولائهم للوطن، وإبطال مفعول الحملات المسعورة التي يشنها المستعمر وأذنابه لإطفاء جذوة الثورة، غير أن تلك القصائد التي رددها المجاهدون بالجبال والمواطنون بعيدا عن أعين فرنسا بدأت تتلاشى وتتآكل، وذلك لرحيل قائليها والتغافل عن جمع هذا الإرث الثقافي الذي تعرضت أجزاء منه للزوال وخاصة بولاية تبسة.
كتابة الشعر الملحون والأغنية البدوية الممجدين للثورة والمجاهدين لم تأت بإيعاز من قادة الثورة والجبهة، وإنما ولدت تلك القصائد من رحم المعاناة وحب الوطن والأمل في الخلاص والإنعتاق، فانفجرت قريحة عدد من المجاهدين طواعية بأعذب الأشعار والأهازيج الجزائرية، ولم تتخلف النسوة عن الركب، فجاءت أشعارهن ممجدة للتضحيات ومسجلة بفخر تضحيات الشهداء والمجاهدين، وفي هذا الجو إنخرط فرسان الكلمة وفحول الأغنية الشعبية في هذا النوع الإبداعي الذي ساهم المناخ الثوري آنذاك في زيادة الطلب عليه، وصارت المجالس والتجمعات مقصدا للشعراء لتبليغ ما جادت به قرائحهم والترويج لإبداعاتهم وتبليغ مواقفهم من الثورة، والعمل على إستنهاض همم الناس، الأمر الذي حول الشعر الملحون إلى ظاهرة شعرية مخالفة لما دأب عليه الجزائريون، وبدأ الشعر الملحون يتحرر رويدا رويدا من التبعية للتصوف ومقارعة النكبات الاقتصادية والاجتماعية، ويتحول إلى راصد لأهوال الثورة وشاهد عيان على بطولة المجاهدين، وموثق بإمتياز لجرائم المستعمر .
 "جزائرنا " .. رائعة اهتزت لها الجبال
باستثناء رائعة جزائرنا التي كتب كلماتها إبن مدينة الشريعة محمد الشبوكي ورددها المجاهدون في الجبال وتغنى بها العرب كذلك، فإن باقي القصائد والشعر الملحون ظل يتداول على نطاق ضيق خشية وصوله إلى الآذان الفرنسية، وفي هذا الصدد تقول الحاجة فاطمة بأن تلك القصائد كانت تتلى بعيدا عن أعين فرنسا وأذنابها، وذلك خشية التعذيب والتنكيل بهم، غير أنه مع مرور السنوات وتسجيل الإنتصارات المتتالية للثورة بدأت تلك القصائد تصل إلى غالبية الناس، بعدما كانت العملية محصورة في نطاق الموالين للقضية الوطنية، واستغرب عدد من المجاهدين إهمال هذا الإرث التاريخي والثقافي رغم مرور كل هذه العقود، مشيرين إلى أن غالبية تلك الملاحم قد ضاعت من الصدور، بسبب وفاة قائليها ومردديها.
وعبر الكثير من قائلي هذا النوع من الشعر عن مواقفهم وأرائهم بخصوص ما يجري في تلك السنوات، فدونوا كلماتهم النارية كعربون وفاء لملاحم جيش التحرير، وأرخوا لإنتكاسات الجيش الفرنسي وتقهقره وهو المسنود بالحلف الأطلسي، ولعل أبرز تلك الملاحم الشعرية ملحمة «حزب الثوار» ، وهي قصيدة طويلة متناثرة هنا وهناك يفوق عدد أبياتها الـ 5000 بيت حسب عثمان سعدي وبدايتها على النحو الآتي:
حَزْبَ الْثُّوَارْ ..اللَهْ يَنْصَرْ حَزْبَ الْثْوَارْ
شُوفُوا الْتِعْدَادْ .. رَجَّالَةَ مِنْ كُلْ بلِاَدْ
تَلاَقُو لَلْجِهَادْ..عَلَى دِينَكْ يَا بُولًنَوَارْ
جاء الشعر الشعبي والملحون على وجه الخصوص مدعما للثورة والمجاهدين ومؤكدا لنكران الذات والإنصهار في القضية الوطنية، فيقول أحدهم في هذا المقطع:
حَزْبْ الثُّوَارْ... مَعَاهَمْ هَانَتْ لأَعْمَارْ
ولم يبتعد الشعر الملحون عن التراث الإجتماعي والديني، فقد ظل يغرف منه ويزيد عليه أحيانا، فيقول شاعر آخر في تأكيده على الكفاح :


« هَرُوبَكْ قُدَّامْ لَعْدَا خَايَبْ..الْرَّبْ يقْتَلْ وَالْرَّصَاصْ سَباَيَبْ»
كما واكب الشعر الملحون الثورة ودون أحداث بعضها بالتفصيل، فتطرقت تلك القصائد إلى الثوري والمجاهد في حركيته وإنتقاله وبطولاته أثناء المعركة وبعدها، فيقول أحدهم في هذا السياق:
« معركة عين الزرقاء: فِي عِينْ الزَّرْقَة.. مَا شَطَّكْ يَا نَهَارْ الفُرْقَة.. وَالْمَدْفَعْ هَدْ الْكِيفَانْ «
ولعب هذا الموروث الشفهي دورا مهما في توثيق المعارك والوقائع وكان شاهد عيان ووسيلة إعلام ثانية للثورة التحريرية، والشعراء في هذا السياق لا يستعملون كلمة معركة أو مواجهة وإنما يستعملون بدلها كلمة نهار للدلالة على هول تلك المواجهات فجاءت قصائدهم على النحو الآتي:
«معركة عين ببوش: اللَهْ يُنْصَرْ ضنْوَة لَاحْرَارْ فِي عِينْ بَبُوشْ..وَعَمَّارْ ضَايَقْ مَغْشُوشْ»
« معركة بكاريا: كِي هَدْفَتْ قُوَاتْ غَزِيَّة ..جَتْهَمْ سَبْعَة كُوبْتِيرَا..وَالكَفْرَة بَايْتَة مَنَاشِيرَا..وَدَمْهَمْ عَامَلْ غُدْرَانْ «
« معركة حاسي خليفة:يُومْ حَاسِي خَلِيفَة لَخْضَرْ دَادَاهْ وَصِيفَة..خَلاَّهَمْ جِيفَة..كُلْ شِعْبَة فِيهَا سَبِيطَارْ»
«معركة الجرف: غَنِّيتْ أَعْلِيهَا بِلاَ عِرْفْ..ذَهَبْ الْكَرْفْ .. رَاهَمْ فَازُوا لَاحْرَارْ»
«معركة الزُورَة:ِفي يُوم ْالزُّورَة الْطَّيَّارَة تَعْمَلْ دُورَة..نَاضُولْهَا شُبَّانْ ذُكُورَة..ضَرْبُوهَا طَلَع ْ الْدُّخَّانْ»
ووصف شاعر آخر معركة ام الكماكم التي تعد من كبريات معارك ثورة التحرير فأنشأ يقول:
«....نَهَيَّرْ لَكْمَاكَمْ ..كِي جَانَا الْيُوطْنَا وَلْحَاكِمْ..قَالُوا اْليُومْ اهْرَدْنَاكُمْ..جِبْنَالْكُمْ وَاحَدْ جَبَّارْ..الْيُوطْنَا رَاهَمْ كَبُّوهْ..وَالحَاكَمْ قَالُوا جِيبُوهْ..خَشْبَه فِي يِدِينْ نَجَّارْ..اللَهْ يَنْصُرْ حِزْبَ الْثُّوَارْ.....»
كما رصد الشعر الملحون التبسي بدقة تفاصيل قادة الثورة وبشروا بالاستقلال فتقول إحداهن:
بِنْ بَلَّة بَعَثْ وَصَرَّحْ..فِي عَامُو جَاتْ الْحُرِيَّة
دِيغُولْ بِالحَقْ اِسْتَعْرَفْ..وَاعْرَفْهَا ضَرْبَة هَاشْمِيَّة
هِزْ قُوَاتَكْ وَاسْتَظْهَرْ..خَلِي لَبلَادْ لَمَّالِيهَا
لَوْ كَانْ تَشْهَّدْ وَتَصَلِّي ..وَالْلَهِ مَا تُقْعَدْ فِيهَا
ودعا شاعر آخر فرنسا للرحيل عن الجزائر فقال:
يَا فَرَانْسَا رُوحِي قِيلِينَا ..فِي بَلاَدْنَا وَاشْ تَسَالِينَا...
يَا فَرَانْسَا هِزِّي لِبْيَاسْ ..جَاتَكْ وَرْقَة مِنْ لَاوْرَاسْ..مَكْتوبْ فِيهَا قَصْ الْرَّاسْ
ويؤكد البعض ممن تحدثت مهم النصر بأن الشعر الملحون لعب دورا مفصليا في تسجيل وقائع الثورة والسجال الذي دار بين الجزائريين والمستعمر آنذاك، فكان الشاعر مؤرخا وصحفيا ناقلا لتلك الوقائع والأحداث، بل مبشرا ومحفزا للهمم ومدافعا عن القضية الوطنية، كما أكد الشعراء عروبة الجزائر وعدم تبعيتها لفرنسا، فيقول أحدهم في مقطع آخر:
قِدَّاشْ تَفَكَّرْ.. فالْجَزَايَرْعَادَتْ حَيَّة
كَانْ دَمْ الْشُّبَّانْ يُقْطَرْ.. امْبَزَع ْ فِي كُلّْ ثَنِيَّة
سَالْ عَلَى الْحَقْ ..وَمَتْبَزَّع ْ فِي كُلْ طُرُقْ
يَا خُويَا سَالْ عَلَى الْحَقْ..وَسَالْ عَلىَ جَالْ الْحُرِيَّة
فَرَانْسَا يَخْلِيكْ زَرُّوا بِيكْ..اْلجَزَايَرْ مَا هِي ليِكْ ..رَاهِي دَوْلَة عَرْبِيَّة.


مجاهدون يتحولون إلى شعراء ونساء يؤرخن لأبطال الثورة
أثرت الثورة التحريرية المباركة الشعر الملحون بولاية تبسة ، ورفعت بذلك بورصة هذا النوع من الشعر، الأمر الذي دفع بالشعراء إلى الإعلان عن مساندتهم لهذه الثورة والتغني بصانعيها، وسار في فلكهم بعض المجاهدين الذين آثروا نقل ما شاهدوه وعاينوه في مواجهاتهم المسلحة شعرا ، فكانت قصائد هؤلاء الشعراء تعبيرا صادقا عن أفكارهم ومواقفهم من الوجود الفرنسي، فدونوا تلك الملاحم البطولية بأعذب الكلمات الشعبية ، كما استنكروا الأعمال الإجرامية التي نفذها زبانية المستعمر في حق الجزائريين، من تقتيل وتعذيب وتشريد، فجاءت قصائدهم مخلدة للأحداث والمعارك وأرشيفا يمكن الرجوع إليه لمعرفة أبطال الثورة، وعلى المنوال ذاته جال فحول الأغنية البدوية العديد من المناطق، وفي رحلاتهم المكوكية سجلوا بأصواتهم صوت الثورة ورفعوه عاليا، وظل البعض منهم يتغنى بنوفمبر رغم مرور كل تلك العقود فيقول أحدهم:
« نُوفَمْبَرْ نَحْنَ جِينَاكْ.. مَا قَدَرْتْ نَنْسَاكْ.. مِنَ الـْ 54 لِلْيُومْ..»
لقد حرك هذا المرورث الشفهي مشاعر المواطنين إبان الثورة التحريرية ، كما ألهمت الثورة الشعراء والفنانين، فظلت تلك القصائد رصاصات يطلقها النساء والرجال في وجه المستعمر، وكانت بيانات تأييد لمسيرة التحرر الوطنية، ووسيلة إقناع للمشككين في نجاح هذا المسعى، كما كانت محرضا ومحفزا لكل من يستطيع حمل السلاح ومقاومة الإستعمار، وبشرت تلك الأهازيج بقرب خروج فرنسا من الجزائر وهي تجر أذيال الخيبة، كما تغنى البعض بقادة الثورة وبعض مجاهدي الولاية، وذكروهم في أشعارهم جنبا إلى جنب مع بعض المعارك، ولم يغفل الشعر الملحون فئة الشهداء، فكان لعدد منها حيزا كبيرا من الرثاء والوفاء، ولم يخف الشعراء اعتزازهم بالانتماء العربي الاسلامي وبغضهم للمتشبهين بالمستعمرين، في الوقت الذي أثرى الموروث المحلي بقصائد بالأمازيغية والشاوية.
الجموعي ساكر

يتبع

 

الرجوع إلى الأعلى