ترجي قالمة .. أيقونة الشرق وصاحب أول لقب قاري للكرة الجزائرية
تعود اليوم، ذكرى تتويج أول فريق جزائري بلقب قاري، لأن هذا الانجاز كان قد تحقق يوم 29 ماي 1955، بملعب «مارسال ساردون» بمدينة الدار البيضاء المغربية، حيث بصم الترجي الرياضي الإسلامي القالمي على أول تتويج للكرة الجزائرية على الصعيد الإقليمي، من خلال انتزاعه كأس شمال إفريقيا، على حساب «الواك»، وهي المنافسة التي كان المستعمر الفرنسي يشرف على تنظيمها، لكنها توقفت بعد سنة واحدة فقط من ذلك، لتبقى الذاكرة التاريخية تحتفظ بما حققه أبطال، كانوا قد اتخذوا من الممارسة الكروية كأسلوب للتشهير بالثورة الجزائرية، ومحاولة إعطائها صدى عالميا، رغم أن التنقيب في أعماق تاريخ الكرة الجزائرية كفيل بنفض الغبار عن أندية عريقة، صنعت مجدا كبيرا، لكنها تعاني حاليا في الأقسام السفلى، أو أصبحت في خبر كان بسبب مشكل الامكانيات المادية.
روبورتاج : صالح فرطـــاس
كان الترجي القالمي من أبرز النوادي الرياضية، التي خطفت الأضواء إبّان الحقبة الاستعمارية، لأن الفريق رأى النور يوم 4 أفريل 1924 بمبادرة من بعض أبناء المدينة، في صورة محمد الصالح براهم وصالح بوتصفيرة، والذين عملوا على استغلال تعلّق الشبان برياضة كرة القدم لتحريك المجتمع، والترويج لمخطط الثورة التحريرية، خاصة وأن الأعضاء المسيرين كانوا منخرطين في حزب نجم شمال إفريقيا، والرقابة الاستعمارية أجبرتهم على تأسيس فوج كشفي حمل إسم «النجوم»، فكانت النتائج الميدانية لهذا المشروع إيجابية، لأن «الترجي» قدم 42 عنصرا من إجمالي تركيبته، سواء لاعبين أو مسيرين أو أعضاء مؤسسين، كشهداء سقطوا في ساحة الفداء، بعضهم في مجازر 8 ماي 1945، والبعض الآخر خلال الثورة المجيدة، وهي الحصيلة التي كانت وراء تغيير اللون الرسمي للفريق من الأزرق إلى الأسود، حزنا على الضحايا، ولو أن الترجي توقف عن النشاط الكروي بعد فترة وجيزة من تحقيقه إنجاز الدار البيضاء، بعدما تفرغت أغلب عناصره لمعركة «السلاح»، مؤدية واجبها في معركة «النضال» الكروي.
رحلة المجد انطلقت من الخروب ودامت 4 أيام
انطلقت رحلة بحث الكرة الجزائرية، عن أول لقب إقليمي في تاريخها من محطة الخروب، على متن القطار باتجاه مدينة الدار البيضاء المغربية، في سفرية دامت 4 أيام، وكان الوفد القالمي يقوده رئيس النادي محمد كرميش، في وجود بعض أعضاء الطاقم المسير، أمثال علاوة سعيدي، عبد الكريم سيريدي، بلقاسم بن فطوم، علاوة سيافة، محمد مدور وصالح خليفة، بينما كان التعداد يتشكل من مجموعة من الشبان، متشبعة بالروح الوطنية، بقيادة عبد الحميد عبدة، الذي كان يلعب دور القائد والمدرب في آن واحد، إلى جانب كل من عبد الحميد بلحواس، بشير بن سعادة، أحمد الشريف سيريدي، علي بن طبولة، عبد العزيز حساني، محمد الصالح شرفي، محمد العربي مرزوقي، بوجمعة محمد، سليمان عبدة، رشيد سعيدي، عمر بارة، مصطفى شماني، بوجمعة خليل، شرفي عبد المجيد،  سيريدي الهاشمي وبن جودي بوجمعة، والسفرية كانت بنية إيصال صوت الثورة الجزائرية إلى الخارج، خاصة وأن فريق ترجي قالمة كان قد فقد 6 من عناصره، والذين سقطوا كشهداء في مجازر 8 ماي 1945، ويتعلق الأمر بالعضو المؤسس عمر عبدة وإبنيه علي وإسماعيل عبدة، إضافة إلى مبروك ورتسي، حميدة سيريدي والطيب سلايمية، فضلا عن التحاق الكثير من اللاعبين، الذين كانوا قد تقمصوا ألوانه بصفوف جيش التحرير الوطني، في صورة حسان حرشة، سويداني بوجمعة، عبد الرحمان طابوش، عياش إسماعيل، مصطفى سيريدي، حمر العين، رياش وغيرهم.
النصر، وتزامنا مع الذكرى 64 لهذا الانجاز إرتأت تسليط الضوء على «الملحمة» من خلال التقرب من الثنائي عبد المجيد شرفي وكذا عبد الحميد رقيني.

عبد المجيد شرفي أصغر لاعب ساهم في الإنجاز
أحتفظ بكامل تفاصيل الإنجاز وحزين للترجي
تحدث عبد المجيد شرفي، الذي يشتهر في الشارع القالمي بتسمية «مجيّد»، للنصر بعيون دامعة، وأكد بأن العودة بعجلة الزمن إلى الماضي البعيد تزيد من تأثره، باستعادة ذكريات لا يمكن أن ينساها، كما أنني ـ على حد قوله ـ «أتحسر كثيرا على الوضع الذي آل إليه الفريق الذي ضحينا من أجله، ومن خلاله الكرة الجزائرية بصفة عامة، ولا يوجد أي مجال للمقارنة بين الجيلين، لأننا تنقلنا إلى المغرب بهدف النضال، لكن بغطاء رياضي، وكنت أصغر لاعب في الفريق، إلى درجة أن صاحب المطعم، كان قد منحني وجبة على أساس أنني مرافق لأحد المسيرين، ولست كلاعب، ومع ذلك فقد تحدينا كل العقبات، ونجحنا في الوصول إلى المبتغى، وإهداء الجزائر أول لقب قاري، بالتتويج بكأس شمال إفريقيا، وهي المنافسة التي كانت تجمع بين أبطال مختلف الرابطات الإقليمية».
وأوضح شرفي في معرض حديثه، بأن التفكير في رفع الراية الوطنية وجعلها ترفرف عاليا في سماء «كازا» بالأراضي المغربية، كان العامل الذي زاد في تسليح المجموعة بإرادة فولاذية في تلك المباراة، لأننا ـ كما استطرد ـ « كنا أقوى فريق في ذلك الموسم، وقد توجنا بلقب البطولة في رابطة قسنطينة الجهوية، بعد تلقي هزيمة واحدة على مدار موسم كامل، مما منحنا تأشيرة التأهل للمشاركة في منافسة كاس شمال إفريقيا، والتنافس على اللقب الإقليمي مع أبطال باقي المناطق، من بينها غالية الجزائر، الذي فزنا عليه في نصف النهائي، إضافة إلى سبورتينغ بلعباس، الترجي التونسي والوداد البيضاوي المغربي، وترجي قالمة كان الفريق الوحيد الذي يضم لاعبين كلهم جزائريين».
وخلص شرفي إلى التأكيد، على أن ذلك الانجاز حتى وإن مرت عليه أزيد من ستة عقود من الزمن إلا أنه ـ حسب تصريحه ـ « يبقى وكأنه حدث أمس، لأنني شخصيا احتفظ بكامل تفاصيله، وذاكرتي لا يمكن أن تنسى جيلا، كتب أسماءه في تاريخ الثورة الجزائرية بفضل سلاح كرة القدم، ومحطة الدار البيضاء المغربية تبقى تاريخية، كما أن ذكريات الاستقبال المميز الذي حظينا به في الخروب أثناء العودة تبقى راسخة، لأنها تدل على تمسك الجزائريين بالثورة في تلك الفترة، ونجاحنا في إيصال الصوت إلى الخارج جعلنا محل إشادة وتنويه».
ولعّل من أهم ما وقف عليه شرفي في التكريمات، التي أقيمت على شرف الترجي القالمي بعد ذلك الانجاز المباراة «الاحتفالية»، التي أصرت إدارة مولودية الجزائر على تنظيمها من أجل تكريم الفريق، وكان ذلك يوم 12 جوان 1955 بملعب «سانت أوجان» – بولوغين حاليا-، حيث أقيم لقاء استعراضي بحضور جمهور غفير، وقد كانت تلك المواجهة مسبوقة بمباراة افتتاحية نشطها رائد القبة وشبيبة تيزي وزو، الأمر الذي جعله يتحسر كثيرا على الوضعية الراهنة لترجي قالمة، والذي غاب كلية عن الساحة الكروية الوطنية، بسقوطه إلى الدرجة الرابعة.

المجاهد عبد الحميد رقيــني أحد صناع الملحمة
روّجنا للثورة الجزائرية بكرة القدم
المجاهد عبد الحميد رقيني استهل حديثه للنصر، بذكريات الرحلة التي انطلقت من الخروب على متن القطار، وصرح قائلا في هذا الشأن: «الوصول إلى مدينة الدار البيضاء كان بعد رحلة دامت 4 أيام، وقد كنا مجبرين على الاكتفاء بتناول «الكسرة» والتمر، لكن عند وصولنا إلى «كازا» حظينا باستقبال من طرف وفد رسمي مغربي، عمل على تسخير سيارات الأجرة، للتكفل بنقلنا من محطة القطار إلى فندق «سبلانديد» بوسط المدينة، وهي الخطوة التي مكنتنا من التشهير للثورة الجزائرية، لأن الجميع في الدار البيضاء، كان يتساءل عن الموقع الجغرافي لمدينة قالمة، خاصة و أن الوفد كان قد حظي بزيارة مناضلين كانوا في المنفى، في صورة حسان بوخروبة، محمد بوجاهم وصالح بوتصفيرة، مما زادنا إصرارا وعزيمة على ضرورة الفوز، ليس للفريق، وإنما للثورة».
وقال رقيني في معرض حديثه، بأن كل المعطيات كانت تصب في رصيد الوداد البيضاوي المغربي للتتويج بالكأس، لأنه كان يضم لاعبين أقوياء من مزدوجي الجنسية، يتقدمهم النجم بن مبارك، وكذا شتوكي، دريسي وعبد السلام، لكننا ـ كما أردف ـ « وضعنا القضية الجزائرية صوب أعيننا، ودخلنا أرضية الميدان بعقلية المجاهد الفعلي، وهدفنا رفع العلم الوطني، رغم أن المنافس كان يحظى بمساندة جماهيرية كبيرة، والهدف الأول الذي سجلناه بفضل محمد العربي مرزوقي، زادنا ثقة في النفس والامكانيات، والاحتكام إلى الوقت الإضافي أجبرني على مواجهة التعب والإرهاق الشديد جراء السفر الطويل، فكان هدف الانتصار الذي وقعه عمر بارة كافيا، لجعل رئيس النادي محمد كرميش، يصعد إلى المنصة في نهاية المقابلة لاستلام الكأس، وذلك هو المسعى من رحلتنا إلى المغرب».
وأوضح رقيني بأن الفريق القالمي، قضى ليلة التتويج بمدينة الدار البيضاء في فندق «سبلانديد»، ولو أن الأجواء في لم تكن ـ حسب قوله  ـ «مستقرة، بسبب المظاهرات الشعبية، لتكون العودة على متن القطار في اليوم الموالي، وعند وصولنا إلى محطة «آغا» بالجزائر العاصمة، تلقينا دعوة من إدارة مولودية الجزائر لإقامة مقابلة ودية تندرج في إطار الاحتفالات بتتويجنا القاري، لكننا فضلنا تأجيل تلبية الدعوة، لأننا كنا متشوقين للعودة إلى مدينة قالمة، وعليه فقد واصلنا الرحلة على متن القطار، ليكون الوصول إلى محطة الخروب يوم 4 جوان 1955، في حدود الساعة 14سا25، أين وجدنا في استقبالنا وفدا يتشكل من بعض أعضاء المكتب التنفيذي لرابطة قسنطينة الجهوية، في صورة الدكتور بن شريف، لفقون، دردور ورئيس الرابطة بوسكيت، بالإضافة إلى رئيس «الموك» في تلك الفترة بلموفق وكذا مسيرين من فريقي شباب قسنطينة وجمعية الخروب، وهذا في حضرة الشيخ محمد الطاهر الفرقاني، وجمع غفير من الأنصار، وقد عاد الفريق إلى قالمة في موكب بهيج، وبعدها تم تجميع اللاعبين في مقهى سيافة بوسط المدينة، أين نشط الحاج الفرقاني رفقة ريمون حفلا فنيا احتفالا بهذا الإنجاز».

بطولات 42 شهيدا تحفظ تاريخ «السرب الأسود»
الانجاز التاريخي لترجي قالمة في الأراضي المغربية، جعل الاستعمار الفرنسي يشدد من الرقابة على اللاعبين والمسيرين، ليكون رد فعل إدارة النادي بالاستجابة لنداء المقاطعة، الذي دعت إليه جبهة التحرير الوطني سنة 1956، وذلك برفض المشاركة في المنافسات الرياضية، التي كان تشرف على تنظيمها السلطات الفرنسية، فكانت الاستجابة في القاعدة الشرقية من الكثير من الأندية، على غرار إتحاد سطيف، شبيبة سكيكدة، مولودية وشباب قسنطينة، شباب باتنة، جمعية مدينة عنابة وشباب جيجل، ولو أن بعض العناصر من الفريق القالمي إرتأت التحوّل إلى مدينة هيليوبوليس وتأسيس فريق آخر، بينما قررت الأغلبية الإلتحاق بالنضال من أجل تحرير البلاد، خاصة وأن المستعمر الفرنسي، كان قد دشّن ملعب بلدي بوسط مدينة قالمة يوم 31 أكتوبر 1954، من خلال تنظيم مباراة الترجي القالمي والجمعية الرياضية لمدينة عنابة، والتي انتهت بالتعادل بهدف لمثله، لكن اندلاع ثورة التحرير المجيدة بعد 24 ساعة فقط من ذلك، دفع بالسلطات الفرنسية إلى تحويل هذا المرفق الرياضي، إلى مخيمات لإقامة «اللفيف» الأجنبي.
إلى ذلك، فقد شنت قوات المستعمر حملة إعتقالات واسعة، مسّت العديد من لاعبي الترجي القالمي، أمثال محمد الشريف سيريدي، رقيني، سيافة، عبد الحميد لحيول ومحمد بوعديلة، والذين تم الزج بهم في زنزانات سجن القصبة بولاية عنابة، في مركز التصفية والإنتقاء، قبل تقديمهم أمام محكمة قالمة، حيث تقرر نفي البعض والإفراج بصفة مؤقتة عن البعض الآخر، وإبقائهم تحت المراقبة.
وعن تسمية « السرب الأسود « التي أصبح الترجي يشتهر بها حاليا، فإنها كانت ثمرة اجتهاد أعمدة الساحة الإعلامية بالولاية المرحوم «إيصالحي»، والذي إستمدها من عنوان فيلم أمريكي عرض سنة 1940، بإسقاط النتائج العريضة التي كان يسجلها الفريق في بطولة شرق البلاد، التي نظمت مباشرة بعد الاستقلال على محتوى الفيلم، خاصة عنوانه، الذي يتماشى والفعالية الكبيرة، لأن الترجي كان يكتسح منافسيه بنتائج ثقيلة، تفوق في معظم الأحيان 10 أهداف، لكن عجلة الزمن واصلت السير وإنجازات «السرب الأسود» توقفت، بعدما كان قد كتب إسمه بأحرف من دم 42 شهيدا، إبان الحقبة الإستعمارية، وتتويج بكأس شمال إفريقيا كأول لقب في تاريخ الكرة الجزائرية في فترة الثورة التحريرية.

الرجوع إلى الأعلى