تتشابه غالبية المناطق الريفية و النائية التابعة لولاية قسنطينة في طريقة قضاء سكانها للعطل الصيفية ، فالمشهد واحد مع تغير في جغرافيا المكان وأسماء البشر، ففي ظل الغياب التام لمرافق الترفيه و الاستجمام، تبقى الوسيلة الوحيدة لمواجهة لفحات الحر و أوقات الفراغ الطويلة هي ملازمة المنازل و الجلوس أمام شاشات التلفزيون و الهاتف المحمول طيلة ساعات الصباح و السمر لساعات متأخرة من الليل، للعب الدومينو أو الورق، أما الذهاب لشاطئ البحر فهو حلم منشود للكثيرين منهم باستثناء ميسوري الحال،  ما يدفع الكثير من الأطفال و المراهقين  إلى المجازفة و السباحة في الأحواض و الينابيع المائية رغم خطرها.

النصر، تنقلت إلى أكثر من بلدية بإقليم الولاية، أين وقفنا على واقع مرير و معاناة حقيقية لسكان هذه المناطق التي أضحت شبيهة بمدن الأشباح نهارا خاصة في ساعات الذروة أين يفضل السكان ملازمة منازلهم، لتدب الحياة نوعا ما في شوارعها مع بداية نسمات المساء، و غالبا ما يكون التجمع إما في المقهى أو في المسجد فيما يفضل البعض الطبيعة و الجلوس تحت الأشجار .
قرية الصفصافة ببلدية بني حميدان المقهى أو المنزل خياران لا ثالث لهما
جولتنا قادتنا أولا إلى قرية الصفصافة ببلدية بني حميدان الواقعة شمال غرب قسنطينة،  كانت الساعة تشير إلى تمام الحادية عشر صباحا، عندما وصلنا  و كان أول ما شد  انتباهنا هو ذلك الصمت الرهيب المخيم على المكان، واصلنا المسير عبر الطريق الرئيسي الذي يقسم المنطقة إلى نصفين بداية من الطريق الوطني رقم 27 وصولا إلى المدينة الأثرية تيديس و مرورا بالقرية،  المحير هو أننا لم نلتق  بأي شخص في هذا المسار،  إلى أن عثرنا على مقهى قيل لنا، بأنه الوحيد المتواجد بالمنطقة و هو مقصد كل  المواطنين و على مدار السنة، لاحظنا بالقرب منه،  وجود عدد من الرجال يتجاذبون أطراف الحديث، فاقتربنا منهم و سألناهم عن تفاصيل أيام الصيف في القرية، فكان رد أحدهم سريعا و مباشرا  دون تفكير قال: «صيفنا كشتائنا بقرية الصفصافة  فهنا تنتهي الحياة» ، فيما علق آخر، بأن المقهى هو الفضاء الوحيد الذي يجمع الرجال و الشباب، فلا يوجد ملعب جواري و لا قاعات للانترنت بسبب ضعف التدفق و حتى تغطية شبكات الاتصال تعرف تذبذبا كبيرا، وهو ما يحرم الكثيرين من الإبحار عبر مختلف مواقع التواصل الاجتماعي ، و هو ما لمسناه حقيقة بعدما تعذر علينا فتح الفيسبوك، و قال صاحب المقهى أنه يحاول بقدر الإمكان توفير خدمات إضافية كلما سمحت له الفرصة، خدمة لسكان المنطقة التي حرمت نهائيا من فضاءات الترفيه ، مؤكدا أن القرية تنام باكرا مباشرة بعد صلاة العشاء ، و مع احتدام مشكل النقل فإن التوجه إلى مناطق مجاورة و حتى البلدية الأم  من أجل  الترفيه عن النفس غير ممكن إلا لأصحاب السيارات، لذلك غالبا ما يكون الخيار الأخير و الحتمي هو البقاء في المقهى أو العودة إلى البيت.
الآبار و المنابع المائية تستقطب أطفال القرية
لم يجد بعض الأطفال الذين التقيناهم خلال جولتنا، سوى أحد الآبار الموجودة وسط القرية للاغتسال و الارتواء من الحر  فيما أكد أحدهم،  أنه غالبا ما يقصد رفقة أقرانه الينابيع القريبة للعب، بعد ملء ما تيسر من القارورات  و أخذها لمنازلهم في ظل وجود مشكل في تدفق كمية المياه الكافية بالقناة الرئيسية، الأمر الذي خلف أزمة عطش في المنطقة   و في سؤال لنا حول مدى وعيهم بخطورة السباحة بهذه الأماكن، رفضوا الرد علينا و اكتفوا بالقول، بأنهم محرومون حتى من الرحلات  البحرية التي تخصصها البلديات مجانا لأطفال القرى ضمن المخطط الأزرق، و مع مشكل النقل و عجز عائلاتهم على تحمل مصاريف الذهاب إلى الشاطئ فإن الحل الوحيد أمامهم هو العوم في المياه الراكدة بعيدا عن رقابة أهاليهم .
و قالت ملاك صاحبة الثماني سنوات، أنها تقضي عطلة الصيف بين اللعب أمام المنزل مع صديقاتها و مساعدة والدتها أحيانا في أشغال التنظيف، أو الذهاب عند أقاربها و هو حال كل قريناتها من بنات الصفصافة، و أضافت بكل براءة، بأنها تحلم أن تستفيد  القرية من فضاءات للعب لتكون متنفسا خلال العطل و تحديدا في فصل الصيف.
مير بني حميدان محسن الطاهر: نسعى لتدارك النقائص تماشيا في حدود ميزانية البلدية


أقر رئيس المجلس الشعبي البلدي لبني حميدان،  محسن الطاهر،  بوجود عجز في جانب الترفيه بالمنطقة، مؤكدا أن الوضع لا يقتصر على قرية الصفصافة فقط، بل هو حال كل القرى و المشاتي القريبة البالغ عددها 18، و أرجع ذلك إلى غياب التنمية بالبلدية ككل، ما انعكس سلبا على الوضع العام و صعب من حياة المواطنين، بداية بمشكل غياب النقل في البلدية التي لا تحوز سوى على خمس حافلات فقط تشتغل على الخطوط الرئيسية، في حين أن النقل ما بين القرى غير متوفر بتاتا، و بالتالي فإن التنقل خارج إقليم الإقامة من أجل الترفيه عن النفس يعد أمرا صعب المنال، مضيفا بأنه يعمل على جرد غالبية مشاكل السكان، منذ تم تنصيبه على رأس البلدية مؤخرا، وذلك من خلال عقد اجتماعات دورية مع ممثلي كل القرى و المشاتي لمعرفة النقائص و إيجاد الحلول التي تتماشى و الميزانيات المتوفرة، خاصة ما تعلق بمرافق التسلية كالملاعب الجوارية و المسابح و فضاءات الراحة.
قرية قصر النعجة بزيغوت يوسف مواهب رياضية واعدة تحلم بملعب جواري
غادرنا بني حميدان، و كانت الوجهة صوب دائرة زيغوت يوسف و تحديدا قرية عين النعجة المتواجدة بأعلى نقطة في المنطقة، الصورة لم تتغير كثيرا عن سابقتها رغم بعض الفوارق في الخصوصيات.
كانت الساعة تشير إلى حدود الثانية بعد الزوال، حرارة تلامس الأربعين درجة مئوية و سكون رهيب يلف المكان، طرقات خالية باستثناء بعض التجمعات  الصغيرة للشباب أمام محلات بيع المواد الغذائية أو تحت ظل بعض الأشجار، اقتربنا من أحدهم لسؤاله عن كيفية قضائه للعطلة الصيفية  فقال، أن الصورة أبلغ تعبيرا عن حال القرية و قاطنيها  مضيفا، بأن غالبية الشباب يتوجهون في الصباح إلى البلدية الأم من أجل ممارسة كرة القدم، فالقرية  التي يقارب عدد سكانها 1500 نسمة، تحوز حسبه، على مواهب كروية كبيرة و بها أزيد من خمس فرق ، لكنها لا تتوفر على ملعب  جواري   واحد ، ما  يضطر الشباب دائما، إلى استئجار حافلة  للتنقل و دفع تكاليف استغلال الملعب الجواري التابع للبلدية خلال كل مواجهة كروية، وهي نفقات يتشارك فيها الجميع.
كما أكد  شباب آخرون أنهم يقضون وقت فراغهم في اللعب داخل محلات  «البابي فوت «، في ظل أزمة البطالة الحادة التي تعرفها الدائرة ككل، كما ينظمون رحلات بحرية  بين الفترة و الأخرى فيما بينهم، إذ يقومون باستئجار حافلات صغيرة و التوجه نحو شواطئ سكيكدة القريبة، أما كبار السن من الشيوخ، فإن  الجلوس لتجاذب أطراف الحديث و تذكر ماضي القرية الثوري  هو حالهم  اليومي، خاصة و أن اسمها مرتبط بمهندس هجومات 20 أوت 1955 البطل الشهيد زيغوت يوسف.
لا إنارة في القرية، ناموا باكرا
أكد عدد كبير ممن تحدثنا إليهم أن القرية تعاني منذ مدة من مشكل الإنارة العمومية، إذ يعمها الظلام الدامس مساء ما يعيق التنقل داخلها أو الذهاب إلى المناطق المجاوزة، لذا يكتفي السكان بالجلوس أمام منازلهم للسهر قليلا، بالمقابل تنام القرية باكرا لصعوبة المشي بين الأزقة و الطرقات ليلا  كما أخبرنا أحد الشاب، بأن غالبية السكان يحملون معهم مصابيح يدوية لتسهيل المشي في الظلمة، وهي مشكلة تطرح   في القرية وبحدة صيفا لأن الحرارة تمنع الكثيرين من البقاء داخل منازلهم.

وقد اشتكى سكان قصر النعجة، من غياب خطوط الهاتف الثابت بالقرية التي لا يعرف أهلها ليومنا هذا ثقافة استخدامه رغم أنه سائر نحو الاندثار، هذا إلى جانب حرمانهم من خدمة الانترنت في المنازل، إذ تقتصر على الهواتف المحمولة، غير أن ضعف التغطية لمختلف الشبكات  يقف عائقا أمامهم للاستفادة من هذه التكنولوجيا.
حاولنا الحصول على تفسيرات، من رئيس المجلس الشعبي البلدي لبلدية زيغوت يوسف غير أنه تعذر علينا ذلك .
كحالشة كبار بعين عبيد الدومينو لعبة الجميع
من الشمال الغربي إلى جنوب شرق قسنطينة، كانت وجهتنا  هذه المرة دائرة عين عبيد،  وصلنا في حدود الساعة الرابعة و النصف مساء إلى قرية كحالشة كبار، و رغم أن درجات الحرارة بدأت في الانخفاض نوعا ما، إلا أن الحركية كادت تكون منعدمة و اقتصرت فقط على المقهى الموجود عند مدخل القرية و الذي كان يعج برجال يلعبون جميعهم الدومينو، كانت أصواتهم تتعالى عند الفوز أو الخسارة في مشهد يعمه الانسجام، اقتربنا من طاولة معينة و سألنا أحدهم عن يوميات  الصيف في المنطقة، فرد مباشرة، أقضيه بين العمل صباحا و لعب الدومينو مساء ككل رجال القرية، أما صاحب المكان الذي كان منشغلا بتوزيع الطلبيات من قهوة وشاي و مختلف أنواع العصائر و المشروبات الغازية على الزبائن   فأخبرنا، بأنه يفتح أبواب المقهى الوحيد بالقرية كل يوم في حدود العاشرة صباحا، حيث يكون الإقبال ضعيفا إلى غاية الرابعة مساء، بعدها يبدأ العدد في التزايد مع عودة البعض من العمل بأحد المصانع التي تشتهر بها المنطقة ، أو رجوع من يتوجهون إلى البلدية الأم صباحا، لقضاء حاجاتهم أو الترفيه عن أنفسهم في ظل غياب البدائل في الكحالشة، و يستمر نفس الروتين اليومي بشكل متكرر إلى غاية منتصف الليل أين يقوم بغلق المكان بعد مغادرة آخر الزبائن، و الذين لا متنفس لهم غير شاشة التلفزيون المعلقة على أحد الجدران و التي تتداول يوميا أخبار السياسة و الرياضة.
الرعي مهنة ممتعة صيفا رغم صعوبتها
يمارس الكثير من شباب القرية مهنة الرعي، كون المنطقة فلاحية ورعوية بامتياز، و من بين هؤلاء متمدرسون يساعدون أهاليهم في العطل الصيفية  في رعاية المواشي، و هنالك من يعتبرونها نشاطا ممتعا رغم  التركيز  الذي تتطلبه  و الجلوس طوال ساعات النهار تحت أشعة الشمس الحارقة لمراقبة الأغنام، و الحرص على كل التفاصيل من اختيار منطقة الرعي التي تتوفر على الكلأ الكافي، إلى متابعة حركة القطيع بحرص  كي لا ينقص منه رأس غنم أو ماعز و هو وضع يشمل حتى بعض التلميذ الذين لم يتعدوا الطور الثانوي و الذين يساعدون ذويهم خلال العطلة في تربية الحيوانات نظرا لغياب بديل ترفيهي آخر.
نائب رئيس البلدية نزار عزباوي: غياب التمويل وراء انعدام فضاءات الترفيه


بدوره أقر، نائب رئيس المجلس الشعبي البلدي لعين عبيد، السيد نزار عزباوي، بحقيقة الوضع و حرمان سكان القرية من مختلف فضاءات المتعة، علما أنه مشهد يتكرر في كل المشاتي الأخرى، مرجعا ذلك إلى غياب التمويل، لتبقى المشاريع المقدمة في كل مرة مجرد مقترحات لم تر النور إلى يومنا هذا، ما اختزل حياة سكان القرية صيفا، في طاولات الدومينو و ممارسة الفلاحة و الرعي.
المتحدث قال، بأن مصالح البلدية، تبذل مجهودات دورية لكسر الروتين من خلال تنظيم رحلات نحو المسبح الأثري سيدي مسيد مرتين في الأسبوع،  بالإضافة إلى برمجة رحلات مجانية صوب البحر تطبيقا للمخطط الأزرق، وقد تم هذه السنة حسبه، تخصيص مسابح مطاطية بعدد من قرى عين عبيد بما فيها كحالشة كبار، وجهت لكل الفئات العمرية  إلى جانب نصب شاشة عملاقة أثناء مباريات كأس أمم إفريقيا الأخيرة التي فازت بها الجزائر،  أما فيما يتعلق بالمشاريع التي ستستفيد منها المنطقة في هذا المجال، فقد أكد أن هنالك مقترحا لإنجاز مركز ثقافي تم تسجيله و الموافقة عليه، في انتظار مباشرة  الإجراءات الإدارية التي تسبق التنفيذ، كما ستستفيد القرية من مشروع ملعب جواري صغير بعدما تحصل المجلس على الموافقة، مضيفا أن تجسيد هذه البرامج على أرض الواقع ببلدية عين عبيد، سيغير من وجه المنطقة الشاحب، رغم الإمكانيات المتوفرة  في مقدمتها المقومات الفلاحية و ما حققته هذه السنة من قفزة نوعية في إنتاج الحبوب الشتوية، مع ذلك فإن قطاع الترفيه يبقى نقطة سوداء حقيقية، خصوصا في ظل عزوف المستثمرين على انجاز مشاريع كبرى في البلدية، وهو ما ساهم بشكل كبير في حرمانها من هذه الخدمات.
 الحياكة و تحضير عولة الشتاء متنفس نساء الأرياف
تتقاطع حياة نساء هذه المناطق في الكثير من التفاصيل و تحديدا في فصل الصيف، الذي تتحول فيه غالبية المنازل إلى ورشات مفتوحة  لتحضير عولة الشتاء من «كسكسي و شخشوخة  و عيش»، و غسل الصوف تحسبا لفصل الشتاء البارد الذي تشتد قسوته في الريف بسبب العزلة و ظروف العيش، ما يتطلب  تحضير كميات كبيرة من الذخيرة و الأغذية  خصوصا بالنسبة للأسر الفقيرة و المعوزة، وهي وضعية لاحظنا بأنها تغلب على نسبة كبيرة من سكان المناطق التي زرناها.
و قالت الحاجة «فاطمة»، من قرية الصفصافة ببني حميدان، بأن يومياتهن كنساء هي نفسها و لا تختلف كثيرا في الصيف كما في الشتاء، حيث ينهمكن طيلة أشهر العطلة  الصيفية في إعداد أكياس المؤونة المصنوعة من الدقيق، و غالبا ما تتضافر جهود النسوة اللائي يتجمعن كل مرة في منزل إحداهن لتحضير هذه العولة و هكذا دواليك، و رغم التطور و العصرنة إلا أن المرأة الريفية بقسنطينة، لا تزال تحافظ على هذه العادات و تورثها لبناتها.
وأما بخصوص غزل الصوف فقالت محدثتنا، أنها حرفة لا تزال القليلات فقط يحافظن عليها، فيما تنهمك  غالبية الفتيات خلال الصيف في شك الخرز و حياكة الصوف لكسب القليل من المال الذي يساعدهن على تغطية مصاريف الدخول المدرسي أو الجامعي أو مساعدة أسرهن، وهو روتين يومي و سنوي تشترك فيه كل نساء المنطقة و من كل الأعمار تقريبا، نظرا للعزلة التي يعشنها و التي فرضتها التضاريس الجغرافية و العقلية المحافظة للمجتمع المحلي، و عزلة هذه القرى و افتقارها لأدنى شروط الترفيه بما في ذلك المجمعات التجارية و الحدائق العمومية العائلية .                                       
هـ/ع

الرجوع إلى الأعلى