إذا كانت المعلومات حول اجتماع لجنة 22 معروفة، فإن الاتصالات التي أجراها مراد ديدوش مع كل من يوسف زيغود وعمار بن عودة ولخضر بن طبال قبل الالتحاق بمكان الاجتماع بقيت غامضة. وفي هذا الإطار تفيد شهادة لخضر بن طبال بالظروف التي تنقل فيها برفقة مراد ديدوش ويوسف زيغود وعمار بن عودة إلى مدينة الجزائر. كانت البداية بمجيئ مراد ديدوش في بداية شهر جوان 1954 للاتصال بالملاحقين في إطار المنظمة الخاصة وتحديدا يوسف زيغود الذي كان يختفي في دواوير الصوادق والكرمات والغرازلة و امسونة، ولخضر بن طبال الذي كان متواجدا في طرفانة عند عائلة بوشامة منذ شتاء 1954. وكان اتصال مراد ديدوش عن طريق اسطبل البشير والد محمد الصالح ميهوبي «بلميهوب» أحد قدماء المنظمة الخاصة بالسمندو وعضو مكتب قسمة حركة انتصار الحريات الديمقراطية، ومن هناك يرسل المناضل محمود الثعالبي إلى مشتة الطرحة بدوار الصوادق عند بولعراس بوشريحة «الشيخ» أحد قدماء المنظمة الخاصة أيضا، حيث يتكفل بالاتصال بيوسف زيغود في المناطق التي يختفي فيها، ثم أرسله هذا الأخير أيضا لتبليغ لخضر بن طبال في ملجئه بمشتة طرفانة. وبما أن مراد ديدوش وجد عمار بن عودة القائد السابق للمنظمة الخاصة بعنابة قد عاد من منطقة القبائل حيث كان متواجدا عند أعمر أوعمران لأسباب تأديبية بحسب شهادة لخضر بن طبال، فقد كلفه أيضا بالتهيؤ رفقة المجموعة للذهاب إلى مدينة الجزائر لحضور اجتماع قادة المنظمة الخاصة الملاحقين أمنيا، وهذا بعد أن شرح لهم وضعية الحزب وانقسامه وقرار قدماء المنظمة الخاصة تفجير الثورة.
عـــــــلاوة عمـــــــــــــارة
عاد مراد ديدوش ثانية إلى السمندو ليضرب موعدا مع الثلاثة بمحطة قطار الخروب بعد أن أرسل بولعراس بوشريحة «الشيخ» لتبليغ لخضر بن طبال بالموعد، ومن محطة الخروب انتقلوا سوية على متن القطار ووصلوا إلى مدينة الجزائر. نقل مراد ديدوش المناضلين الثلاثة إلى منزل إلياس دريش قبل ثلاثة أيام من موعد الاجتماع، والذي خرج بالنتائج المعروفة التي لا داعي لتكرارها هنا. عاد الثلاثة إلى مدينة قسنطينة دون مراد ديدوش الذي بقي في مدينة الجزائر، ومنها انتقل إلى فرنسا قبل أن تطأ قدماه مدينة بارن السويسرية برفقة محمد بوضياف ومصطفى بن بولعيد ومحمد العربي بن مهيدي ورابح بيطاط الذين كانوا يتنقلون بوثائق مزورة وبأسماء مستعارة.
مراد ديدوش في سويسرا
تتحدث الوثائق الخاصة بالبشير شيهاني»سي مسعود» التي استولت عليها القوات الاستعمارية في 26 سبتمبر 1955 بالجرف وبعض الشهادات ومنها شهادة أحمد بن بلة وفتحي الذيب الضابط المكلف بالملف الجزائري في الاستخبارات المصرية عن اجتماع انعقد في بارن بسويسرا. وتحدث أحمد بن بلة الذي كان يتنقل باسم مستعار (مسعود مزياني) مرارا عن اجتماع قيادي جرى بسويسرا، تقرر فيه الشروع في تحضير تفجير الثورة، وهذا في خريف 1954. وبالنسبة للضابط فتحي الذيب، فهو يعترف بأن اتصال أحمد بن بلة به كان عن طريق محمد خيضر -ممثل حركة انتصار الحريات الديمقراطية في مكتب المغرب العربي بالقاهرة- وكان بعدما قرر أعضاء المنظمة الخاصة المرور إلى الخيار الثوري وشرح له الخطة والامكانات، وفيما يخص اجتماع بيرن فيقول أن بلة سافر إلى سويسرا ولم يعد منها إلا في 9 أكتوبر 1954 وأن اجتماع بيرن جمع كلا من أحمد بن بلة ومصطفى بن بولعيد ومراد ديدوش وبلقاسم كريم ومحمد العربي بن مهيدي ومحمد بوضياف ورابح بيطاط، حيث وضعوا خطط تفجير الثورة والتزود بالسلاح على ضوء الوعود المصرية بالمساعدة، وترك الأمر لمحمد بوضياف عملية التنسيق مع قادة المناطق لتحديد موعد تفجير الثورة.
يبدو أن المعلومة المفصلة بخصوص اجتماع الثمانية ببرن السويسرية في جويلية1954  والذي اعتبرته الأجهزة الاستعمارية بمثابة التأسيس الفعلي لجبهة التحرير الوطني هو الوراد في تكملة النشرية الاستخباراتية للمكتب الثاني الصادرة في أفريل1957 والمبنية أساسا على استنطاق القادة الخمسة المختطفين في حادثة الطائرة في 22أكتوبر 1956. وهنا نلاحظ أن الثمانية هم أولا الذين اعتبرتهم السلطات الاستعمارية بمثابة القادة الخمسة للجنة الثورية للوحدة والعمل (CRUA)وهم محمد بوضياف ومصطفى بن بولعيد ومراد ديدوش ومحمد العربي بن مهيدي ورابح بيطاط إضافة إلى مندوبي الحزب في القاهرة الثلاثي أحمد بن بلة ومحمد خيضر والحسين آيت أحمد، وهؤلاء هم من قرروا الشروع في تأسيس جيش التحرير الوطني عمليا في سبتمبر1954 بعدما وضعوا الخطط المفصلة للعملية.
وتتفق هذه الرواية مع ما ورد في محضر استنطاق مصطفى بن بولعيد في الفترة الممتدة من 11 إلى 24 فيفري 1955من أن بداية وضع أسس جيش التحرير الوطني على الأرض في سرية تامة كانت بعد عودته من طرابلس في 5 سبتمبر 1954 بعدما التقى بأحمد بن بلة وبشير قاضي وآخرين فيما كان قد شارك في جويلية في اجتماع سويسرا، وهي تتقاطع مع ما جاء في محضر الاستماع إلى أقوال عاجل عجول المؤرخ في28 ديسمبر 1956بعد تسليم نفسه للسلطات الاستعمارية.
المؤكد أن الجهات الفرنسية المختصة كانت على علم بتنقل أحمد بن بلة باسمه المستعار «مسعود مزياني» وسجلت زيارته لسويسرا عدة مرات، كما سجلت تنقله جوا من القاهرة إلى طرابلس بنفس الاسم.
مراد ديدوش باسمين مستعارين
اتخذ مراد ديدوش احتياطات أمنية واسعة من خلال اخفاء اسمه الحقيقي حتى لدى قادة النواحي. فلخضر بن طبال مثلا يعترف أنه لم يكن على علم هو ويوسف زيغود بالاسم الحقيقي لمراد ديدوش الذي كانوا يعرفونه باسم سي عبد القادر منذ 1948 في فترة المنظمة الخاصة، في حين كان لا يُعرف بهذا الاسم المستعار في القسمات التابعة لدائرة سكيكدة الحزبية كما سنرى لأنه اتخذ اسما آخر مستعارا وهو سي مسعود حيث لم يذكره أي من القادة إلا المجاهد محمد قديد والشهيد مصطفى بن بولعيد في محضر استنطاقه.
بدأت التحضيرات للثورة المسلحة بالنسبة للشمال القسنطيني في نواحي محددة تتبع قسمات السمندو و الحروش و ميلة و عنابة وسوق اهراس، وذلك اعتمادا على قدماء المنظمة الخاصة ومناضلي القسمات الموالين للجنة الثورية للوحدة والعمل، حيث بدأت التحضيرات الميدانية والتدريبات في أوت1954 قبل أن تنتقل إلى مرحلة متقدمة بداية من سبتمبر من نفس السنة.
هذه المعطيات نجدها في التقرير الذي أعدته شرطة استعلامات حكومة الاحتلال بتاريخ 26أفريل1955، حيث يشير إلى أن الانقسام الذي حدث بين أتباع رئيس الحزب مصالي الحاج من جهة وحسين لحول ومعه أعضاء اللجنة المركزية من جهة ثانية، نتج عنه ظهور تيار ثالث محايد بداية من مارس 1954 تحت اسم اللجنة الثورية للوحدة والعمل (CRUA)، وهذا التيار يدعو للحياد، و بدا جادا في دفع الحزب موحدا نحو الكفاح المسلح ضد المستعمر الفرنسي، وقد عبر هذا التيار من خلال نشرية داخلية «الوطني/Le Patriote» التي كانت تتابعها الأجهزة الأمنية عن كتب منذ صدور عددها الأول وإلى غاية العدد السادس. لكن التقرير يتحدث عن توقف اللجنة الثورية للوحدة والعمل عن الظهور في جويلية1954 وهي الفترة التي شهدت على الأرجح ميلاد جبهة التحرير الوطني بدفع من القادة وهم محمد بوضياف ورابح بيطاط والعربي بن مهيدي ومراد ديدوش ومصطفى بن بولعيد بالإضافة إلى مندوبي الحزب بالقاهرة وهم محمد خيضر وأحمد بن بلة وحسين آيت أحمد.
ويضيف التقرير بأن هذه الجبهة الجديدة بدأت في سبتمبر 1954 بوضع أسس «جيش التحرير الوطني»، الذي هو تنظيم عسكري فعلي هدفه تحرير التراب الجزائري، ووضع تحت قيادة هذه الجبهة، ويتلقى أوامره بداية من هجمات أول نوفمبر 1954 من قادته في القاهرة وهم محمد خيضر وأحمد بن بلة وحسين آيت أحمد ومحمد بوضياف، حيث انفردوا بتأييد وتوجيه عمليات جيش التحرير الوطني، قبل توسعة اللجنة لجميع مختلف التيارات الوطنية الجزائرية بالقاهرة في 10 جانفي1955، بمبادرة من الأمين العام لجامعة الدول العربية.
السمندو و الحروش وميلة وسوق أهراس: القسمات التي انطلقت
منها الثورة
قدم مراد ديدوش إلى السمندو و الحروش في جويلية1954 وعقد لقاءات تحضيرية مع قادة النواحي حيث لم يجد مشاكل تذكر مع المنخرطين في الخيار الثوري في القسمتين بعدما انحاز كل من محمد الصالح ميهوبي «بلمهيوب» وعبد الرشيد مصباح عضوا مكتب قسمة السمندو ومحمد قديد و بلقاسم بن غرس الله عضوا قسمة الحروش إلى الخيار الثوري بعد اتخاذ هاتين القسمتين لموقف الحياد في الصراع ثم ميول غالبية أعضائها إلى المركزيين بعد قرار مشاركتهم في مؤتمر العاصمة في 14-15 أوت 1954.
أما فيما يخص نظام مدينة قسنطينة، فقد برزت فيها اختلافات بين قادتها في اللجنة الثورية للوحدة والعمل (CRUA) ومحمد بوضياف. وفي هذا الإطار يقدم لنا محضر استجواب عبد الباقي بكوش عضو المنظمة الخاصة بعنابة -الذي سبق وأن فر مع يوسف زيغود وعمار بن عودة وسليمان بركات من سجن عنابة- عند القاء القبض عليه في 29 جوان 1954 بالجامع الكبير بمدينة قسنطينة بحيثيات هامة عن بداية نشاط مراد ديدوش بالشمال القسنطيني في إطار تحضيرات الثورة. ففي شهر جوان 1954 وتحديدا يوم أحد، انعقد اجتماع لقدماء المنظمة الخاصة المنضوين تحت لواء اللجنة الثورية للوحدة والعمل بمنزل حمادة حداد «يوسف» الواقع بسيدي بزار بقلب المركز التاريخي لمدينة قسنطينة، ترأسه شخص من مدينة الجزائر في إشارة إلى مراد ديدوش، وحضره عن مدينة قسنطينة السعيد بوعلي مسؤول اللجنة الثورية للوحدة والعمل بقسنطينة برفقة حمادة حداد «يوسف» وسليمان ملاح وعن مدينة عنابة مسؤولها عبد الله فاضل برفقة عبد الباقي بكوش وعن سوق اهراس مختار باجي. كان الهدف من الاجتماع هو دعوة قدماء المنظمة الخاصة لالتزام الحياد ضمن إطار تنظيمي جديد هو اللجنة الثورية للوحدة والعمل، لكن دون الخروج بموقف موحد نتيجة ظهور بوادر خلافات في الموقف من مصالي خصوصا وأن عبد الباقي بكوش كان من أنصاره برفقة عدد من قدماء المنظمة الخاصة في قسمات قالمة وسوق اهراس وعنابة وغيرها، حيث اتصل بعد هذا الاجتماع مباشرة بهؤلاء المناضلين لدعوتهم لرفض الخروج عن سلطة زعيم الحزب. والملاحظ هنا أنه لم يتم بعد الشروع في التحضير المادي للثورة، وإنما دعوة فقط لالتزام الحياد في الصراع الدائر داخل الحزب وعدم المشاركة في اجتماع المصاليين في 15 جويلية1954أو المركزيين في أوت 1954، وهذا حفاظا على وحدة الحزب والتوجه إلى الخيار الثوري.
وكمثال عن انقسام الحزب في دوائر «ولاية» قسنطينة، تشكل ثلاث كتل في مدينة عنابة: تزعم التيار المصالي محمد بعداش وتيار المركزيين عمار منصوري، أما عبد الله فاضل كان مسؤولا للتيار الثالث أو الحيادي المعروف باللجنة الثورية للوحدة والعمل. أدى هذا الانقسام إلى حدوث مناوشات كبيرة بين متزعمي هذه الكتل خصوصا بمدينتي عنابة وسكيكدة، لكن لم يكن الأمر كذلك في قسمة السمندو و الحروش بصفة عامة. وفي بلدة الخروب، يشير تقرير استخباراتي مؤرخ في 3 سبتمبر 1954 إلى المناوشات بين أعضاء القسمة الذين مالوا في أغلبهم إلى مصالي الذي كان يريد الدخول في العمل المسلح على عكس المركزيين. ونفس المعلومات يقدمها التقرير الشهري لدائرة سكيكدة الخاص بنوفمبر 1954، الذي يتحدث عن أغلبية موالية لحسين لحول في قلب مدينة سكيكدة مقابل أغلبية مصالية في ضواحيها، وبأن هذه الأخيرة رحبت بهجمات أول نوفمبر مقابل تحفظ الأولى عليها. وفي نفس الوضعية عرفتها قسمة قسنطينة حيث اندلعت مشادات بين المصاليين والمركزيين خصوصا أثناء زيارة حسين لحول للمدينة.
تحضيرات بالسمندو وتحويل سي عمار بوضرسة إلى قيادة التنظيم الثوري بناحية الحروش
وتتفق المعطيات السابقة مع الشهادة الدقيقة المنشورة حول تحضير الثورة بناحية السمندو التي أدلى بها مسؤول النظام بالحروش المجاهد محمد قديد. أما المعلومات الأخرى المتوفرة فهي شهادة العربي حمودي «بوبغل» عضو اللجنة الثورية للوحدة والعمل بناحية السمندو وأحد مرافقي يوسف زيغود بالإضافة إلى بعض المعلومات التي انتزعتها القوات الاستعمارية من أسرى المنظمة بعد إلقاء القبض عليهم خصوصا عبد الرشيد مصباح. تفيد شهادتي لخضر بن طبال ومحمد قديد ببداية تحضيرات الثورة في بداية جويلية1954 باسم اللجنة الثورية للوحدة والعمل بقيادة مراد ديدوش الذي لم يتلق أي صعوبة تذكر نتيجة معرفته بقدماء المنظمة الخاصة خصوصا في ناحيتي السمندو والحروش، بل تذهب المعلومات المتوفرة إلى تأكيد قضائه معظم وقته باسطبل»بلميهوب» الواقع في قلب بلدة السمندو خلال الأشهر الأربعة السابقة للثورة لتكثيف اتصالاته مع مختلف القسمات.
نسق مراد ديدوش تحركاته في البلدة مع محمد الصالح ميهوبي»بلميهوب» وعبد الرشيد مصباح ومحمد حرواقة «يوسف بن جدو» أعضاء المنظمة الخاصة بالبلدة الذين كانوا غير متابعين أمنيا، ثم مع المناضلين في دوار الصوادق ومشتة الكرمات ومشاتي دواوير السفرجلة والدواوير الشرقية حيث كان يتواجد يوسف زيغود برفقة 11 مناضلا مطاردا، منهم بلقاسم ﭬرين من الأوراس وأحمد الشايب وصالح الشايب من بلاد القبائل (سيدي علي بوناب) الذين أرجعهم مراد ديدوش إلى بلاد القبائل والأوراس بعد حادث اقدام الأول على قتل المناضل السابق (ق. ع.) الذي كان يشتغل أيضا وقافا للمشتة بتهمة الاستهزاء بأحد المناضلين، وهذا في 15 أوت 1954. يفيد التقرير الذي أجرته الشرطة القضائية بقسنطينة بتاريخ 17 من نفس الشهر بإقدام شخص لم تتعرف على اسمه مرفوقا بعمر نعاس بإطلاق ثلاثة أعيرة نارية على هذا الشخص مما استدعى نقله إلى المستشفى من طرف بعض جيرانه، حيث استجوبته الشرطة قبل وفاته وأعطى لها حيثيات القضية دون الخوض في التفاصيل، لكن في التحقيق الذي أجرته الشرطة مرفوقة بالجندرمة حامت شكوك حول خلفيات التصفية، بينما أرجعتها في الأول إلى أسباب شخصية مرتبطة بعمل عمر نعاس خماسا لدى (ع. ق)، ذهبت في اتجاه ترجيح الفرضية السياسية وخلفية تواجد مناضلين فارين في دوار الصوادق لا يتنقلون إلا في الليل، خصوصا وأنها اعتبرت مشتة بومعيزة في دوار الصوادق مركزا نشطا لحزب الشعب الجزائري- حركة انتصار الحريات الديمقراطية وأن انسحاب (ع.ق) من نشاط الحزب كان وراء اتهامه بالخيانة. كادت هذه الحادثة أن تجهز على تحضيرات الثورة في قسمة السمندو خصوصا بعد اندلاع خلاف بين بلقاسم ﭬرين وابراهيم ريكوح الذي عارض العملية، وهو ما دفع بمراد ديدوش  إلى الإسراع في إرسال المناضلين الثلاثة إلى مناطقهم الأصلية واختفاء عمر نعاس عن الأنظار. وتجدر الإشارة إلى أن بلقاسم ﭬرين من منتسبي ثوار الأوراس الذين تطلق عليهم سلطات الاحتلال عبارة لصوص الشرف (Bandits d’honneur)، وتكفل به نظام السمندو بعد عودته من تونس حيث شارك برفقة عاجل عجول مع الفلاقة التونسيين. كانت السلطات الاستعمارية على علم بتردد مطلوبين لديها على مشتة بومعيزة منهم ابراهيم ريكوح الفار من سجن عنابة وهذا بإشراف الطاهر بوشامة مسؤول النظام الحزبي بالمشتة، وعلى اثر الحادثة خلصت الشرطة الاستعمارية إلى أن القتيل (ع. ق.) كان مناضلا في الحزب الاستقلالي ثم قطع صلته به، حيث أُتهم بتبليغ معلومات إلى السلطات الأمنية في بلدة السمندو. وحاول مفتش الشرطة كاميلكايول(Camille Cayol)، متابعة التحقيق لكنه لم يعثر على عمر نعاس والطاهر بوشامة اثر تنقله إلى مشتةبومعيزة.
كانت الدواوير الشرقية التابعة لقسمات السمندو و الحروش والخروب محل متابعة الأجهزة الاستعلاماتية الفرنسية خلال صيف 1954 حيث لاحظ رئيس بلدية الخروب خصوصا التنقلات الليلية للمناضل الخروبي البارز محمد العربي بن عبد القادر إلى مشتة طرفانة برفقة مناضل آخر من قسنطينة لم تتعرف عليه وتساءلت عن مغزى ذلك، لكن دون أن تتمكن من التعرف على تواجد لخضر بن طُبال الذي كان يقوم بتدريبه برفقة مناضلي قسمة الخروب في تلك الفترة.
وزع يوسف زيغود «سي أحمد» الأفواج على مشاتي خندق عسلة وأولاد حبابة ودوار امسونة بالتوميات بالتنسيق مع أفواج الحروش، مما جعله المسؤول العسكري للأفواج الأولى التي تشكلت في الدواوير التابعة للسمندو و الحروش. كان هذا المناخ ملائما لقائد المنطقة مراد ديدوش الذي جعل من ناحيتي السمندو و الحروش أرضية انطلاق عملياته التنظيمية والتعبوية، وجرت عدة لقاءات تحضيرية في عدة مشاتي وفي بلدة السمندو في اسطبل البشير ميهوبي «بلميهوب» بصفة رئيسية وفي منزل بولعراس بوشريحة بمشتة الطرحة (دوار الصوادق) وبحسب المجاهد محمد قديد أيضا في دواري الخرفان وامسونة التابعة لبلدية الحروشوفي دار عمار بوضرسة الواقعة في مشتةشرشار بدوار الصوادق في صيف 1954 وفي دار علاوة بوضرسة الواقعة في أعالي مشتة الكرمات بدوار الخرفان في سبتمبر 1954.
في أوت 1954 أقدم مراد ديدوش على تحويل عمار بوضرسة الذي تربطه علاقة قوية بمناضلي الحروش إلى هذه الأخيرة، لتصبح تركيبة الهيئة القيادية للنظام الثوري كما يلي: محمد قديد عضو مكتب قسمة الحروش مسؤولا وعبد السلام بخوش «سي الساسي» من قدماء المنظمة الخاصة بمدينة قسنطينة المتواجد مع نظام الحروش منذ 29 جوان 1954 نائبا أولا وعمار بوضرسة عضو سابق في مكتب قسمة السمندو ورئيس جماعة دوار الصوادق نائبا ثانيا.
نقل لخضر بن طبال إلى ناحية ميلة
تتفق شهادات كل من لخضر بن طبال وعمار بن عودة ومحمد قديد وبومنجل بوزيتونة على قرار مراد ديدوش بنقل الأول من ناحية الخروب-عين مليلة التابعة للمنطقة الأولى-الأوراس منذ اتصال البشير حجاج بالبشير شيهاني «سي مسعود» وقرار ربطها بالأوراس بعد تفكك نظام مدينة قسنطينة، وهذا بموافقة مصطفى بن بولعيد. لكن هناك تباين في تفسير ذلك، فإذا كان لخضر بن طبال فسّر ذلك برفض مناضلي ميلة و الميلية العمل تحت قيادة مراد ديدوش ويوسف زيغود، فهذا التبرير يبدو غير منطقي، لأن يوسف زيغود لم تكن له أي علاقة مع قسمتي ميلة والميلية من جهة ومن جهة ثانية فإن سلطة مراد ديدوش كانت على كامل الشمال القسنطيني. إن السبب في ذلك بحسب التحقيقات يرجع إلى الصعوبات التي تلقاها عمار بن عودة في تعامله مع مناضلي ميلة و الميلية بسبب قضية تعود جذورها إلى بداية عام 1953 عندما كان يختفي بميلة والقرارم من جهة، ومن جهة ثانية إلى اعتقال قائدي النظام بعنابة وهما عبد الله فاضل وعبد الباقي بكوش، ولهذا كلفه مراد ديدوش بهيكلة النظام الثوري في ناحية عنابة. جاءت عملية التحويل في منتصف شهر سبتمبر بحسب لخضر بن طبال وفي نهاية شهر سبتمبر 1954 بتقدير بومنجل بوزيتونة.
الاجتماع الأخير في بلدة السمندو
بعد اجتماع لجنة الستة في مدينة الجزائر، عاد مراد ديدوش إلى بلدة السمندو للإشراف على آخر اجتماع قيادي قبل تفجير الثورة. وتتفق شهادتي لخضر بن طبال ومحمد قديد حول انعقاد عدة اجتماعات لقيادة منطقة الشمال القسنطيني في اسطبل والد محمد الصالح ميهوبي «بلميهوب» منها برمجة عقد آخر اجتماع قبل موعد أول نوفمبر 1954. ترأسه مراد ديدوش بعد رجوعه من مدينة الجزائر في 25 أكتوبر 1954 واعتماده على محمد الصالح ميهوبي»بلميهوب» في الاتصال بمسؤولي الحروش محمد قديد وعبد السلام بخوش المتواجدين في شعاب التوميات ثم قدوم بقية الأعضاء مع تسجيل تأخر وصول مختار باجي لظروف ارتبطت باستجواب الشرطة له نتيجة شرائه لخرائط. ترأس الاجتماع مراد ديدوش قائد الشمال القسنطيني وحضره قادة النواحي:يوسف زيغود ومحمد الصالح ميهوبي «بلميهوب» عن ناحية السمندو،ومحمد قديد وعبد السلام بخوش «سي الساسي» عن ناحيةالحروش، ولخضر بن طبال والعربي برجم عن ناحية ميلة، وعمار بن عودة ناحية عنابة، وأخيرا مختار باجي ناحية سوق اهراس. حيث قضى القادة ثلاثة أيام بالإسطبل قبل قرار يوسف زيغود نقلهم في آخر ليلة لظروف أمنية ارتبطت بتأخر وصول مختار باجي إلى منزل عمه ساعد زيغود وكان ذلك في يوم 28 أكتوبر 1954، وهو الاجتماع الوحيد الذي انعقد بهذا المنزل، ليكون بذلك آخر اجتماع قبل اندلاع الثورة التحريرية. تناول الاجتماع تحديد أهداف الهجمات في السمندووالحروش وميلة والقرارم وكاف بولحمام، ولم يخبر الحاضرين بتاريخ اندلاع الثورة إلا في آخر لحظة، حيث أكد لخضر بن طبال في شهادته تفاجأه بالخبر وبشعوره بلحظات اضطراب وتخوف مما تقرر الاقدام عليه قبل الوصول إلى ساعة الحسم. خلال آخر اجتماع تحضيري لتفجير الثورة تمّ الاتفاق على توزيع قطع السلاح على نواحي السمندو و الحروش و ميلة، فكان نصيب الأولى 18 قطعة والثانية 8 والثالثة 11 قطعة، وهذا نظرا لتواجد المناضلين الذين دخلوا في سرية منذ تفكيك المنظمة الخاصة برفقة يوسف زيغود «سي أحمد» حيث كان هذا الأخير وبحكم مهنته قد تكفل بإصلاح وتنظيف هذه الأسلحة بالنظر لوضعيتها المزرية، وقد تمت عملية توزيع الأسلحة بحسب شهادة لخضر بن طبال بمشتة الطرحة عند بولعراس بوشريحة «الشيخ». وكما سنرى، كان عدد المجندين من ناحية السمندو هاما في النواحي المشكلة للمنطقة الثانية- الشمال القسنطيني في حدود 24 بالنسبة لناحية السمندو و15 بالنسبة لناحية الحروش مع إضافة فوج قسنطيني متكون من ستة آخرين التحقوا بجبل الوحش خلال الأسبوع الأول من شهر نوفمبر واتصالهم بعبد السلام بخوش «سي الساسي» وضمهم إلى ناحية الحروش. ففي شهادته، أكد لخضر بن طبال تجنيد 22مناضلا فقط بالنسبة للمنطقة الممتدة من ميلة إلى الميلية موزعين كما يلي: ميلة (7) ووادي القايم (5) وعزابة (3) والقرارم (3) والميلية (4)، في حين لم يكن مع عمار بن عودة إلا ثلاثة مناضلين في ناحية عنابة.
شكلت الدواوير الشرقية التابعة لناحيتي السمندو و الحروش وهي دواوير الصوادق والخرفان وامسونة و أولاد أحبابة و الغرازلة وأولاد مسعود وخندق عسلة ميدان الاعداد والتحضيرات وتخزين الأسلحة وايواء المناضلين. كان عدد المجاهدين في كامل الشمال القسنطيني الذين جرت تعبئتهم للقيام بهجمات أول نوفمبر 1954 قليلا مقارنة مع الأوراس مثلا، حيث قدرهم القائد يوسف زيغود خلال التقرير الذي قدمه إلى مؤتمر الصومام ب 100 مجاهد فقط اذا ما احتسبنا حوالي 28 مجاهدا في ناحية سوق اهراس بقيادة مختار باجي، لكن العدد الفعلي الذي جرت تهيئته كان أكبر من ذلك، وتمّ الاكتفاء بعدد محدود نظرا لقلة الأسلحة التي جلب قسم منها مراد ديدوش من الأوراس في مرحلة تحضيرات الثورة.
من اجتماع التوميات إلى نشر الثورة بسكيكدة: الأمن الاستعماري يلاحق تحركات مراد ديدوش ومحمد قديد
بعد شن هجمات أول نوفمبر 1954 في بلدة السمندو وفي منجم كاف بولحمام قرب سيدي معروف، برمج مراد ديدوش ورفاقه سلسلة ثانية من الهجمات استهدفت بلدة الحروش ومحطة قطار الطاية الواقعة قرب حمام دباغ وأيضا جسر السكة الحديدية الرابط ما بين السمندو وبيزو وهذا ليلة 8-9 نوفمبر 1954، بالتوازي مع الهجوم الناجح الذي شنه مختار باجي على منجم حمام النبايلعشية ذلك. ومن أجل اعطاء دفع للثورة، عقد مراد ديدوش اجتماعا في كاف التوميات في منتصف نوفمبر 1954 الذي كان مفصليا في تاريخ الثورة في الشمال القسنطيني، لأنه سمح بتوحيد نظام ناحيتي السمندو و الحروش تحت قيادة يوسف زيغود وانشاء ست مجموعات مهمتها نشر الثورة في كامل الناحية الوسطى بقيادة كل من رابح رمضان (Négus) وعمار بوضرسة وبلقاسم بن غرس الله ومحمد الصالح ميهوبي «بلميهوب» وعبد الرشيد مصباح وعبد السلام بخوش «سي الساسي»، وسمح لمراد ديدوش الذي كان يتنقل ببطاقة هوية مزورة ومحمد قديد مسؤول ناحية الحروش الذي كان نشاطه مجهولا لدى الأجهزة الأمنية الفرنسية بالتركيز على ربط الاتصال بعدة قسمات في دوائر قسنطينة وسكيكدة وقالمة، وتمكنا من وضع أسس نظام الثورة في عدة مناطق خصوصا في عين بوزيان وسكيكدة وقسنطينة ووادي زناتي وغيرها من المناطق. وفي هذا الإطار لا بد من التوقف عند وثيقة تاريخية هامة تؤكد ما نشره محمد قديد بشكل كامل.
الوثيقة هي عبارة عن تقرير أمضاه ضابط الاستعلامات العامة بمدينة قسنطينة رايمونموران(Raymond Maurin)في 3جانفي1955، أي بعد اعتقال القائد محمد قديد والمسؤولين المصاليين الذين فجروا الثورة في مدينة سكيكدة باسم الحركة الوطنية الجزائرية (MNA)بعد العملية المعروفة التي استهدفت العون (م. ش.) في 25ديسمبر 1954. يعطي التقرير تفاصيل مهمة عن انقسام الحزب الاستقلالي في دائرة سكيكدة الحزبية ودور المسؤولين خصوصا براهيم حشاني «سي محمود» الذي كان مسؤولا عن الدائرة في الفترة الممتدة من 4 مارس 1953 إلى 13 أوت 1954. وبالنظر لطول التقرير المتكون من 8صفحات، سأكتفي فقط بما يخص الثورة بعد اتصال سي مسعود التي هي كنية مراد ديدوش في دائرة سكيكدة الحزبية ومحمد قديد مسؤول النظام الثوري بالحروش بأعضاء القسمة الموالين لمصالي الحاج بقيادة حمادي كرومة وبالمركزيين الذين لا يذكرهم التقرير.
يؤكد التقرير عدم انتشار نظام اللجنة الثورية للوحدة والعمل (CRUA)في مدينة سكيكدة رغم أن الأرضية كانت ملائمة لتوجهاته بعد التحاق معظم المناضلين بالخط المصالي في أوت 1954، حيث لم يصل إلى المدينة إلا العدد الثاني من جريدة الوطني (Le Patriote) لسان حال اللجنة الثورية للوحدة والعمل الذي أُرسل عبر البريد إلى أحمد حمر العين. لكن في نهاية شهر نوفمبر وبداية شهر ديسمبر 1954، قدم سي مسعود الذي أعطى التقرير أوصافه خصوصا طوله (1،55م) مرفوقا بمحمد قديد، بغرض تشكيل مجموعة تتبع اللجنة الثورية للوحدة والعمل باعتبارها حزب الثورة، لكن هذا المسعى لم يكتب له النجاح، وتم تحديد موعد 28 ديسمبر 1954 للقاء الاثنين بالمسؤولين المصاليين وعلى رأسهم حمادي كرومة، وطلب سي مسعود «مراد ديدوش» منهم بالعمل ضمن إطار حزب الثورة، لكن حمادي كرومة طلب مهلة للاتصال بمسؤول الولاية المصالية في الشرق الجزائري الشيخ بلقاسم زيناي «البيضاوي» الذي دخل في السرية. لم يتم اللقاء في الموعد المحدد (28 ديسمبر 1954) في آخر لحظة بعد اعتقال حمادي كرومة والحاج بلقاسم زيناي «البيضاوي». وهنا يضيف التقرير أن سي مسعود قدمه محمد قديد -بعد القاء القبض عليه في 26 ديسمبر 1954 بسكيكدة- بأنه طالب سابق بالمدرسة الكتانية بقسنطينة وهو من عزابة يدعى مسعود حشاني، وهذه الحيلة هي التي جنبت الثورة الكارثة بإلقاء القبض على سي مسعود الحقيقي «مراد ديدوش» الذي كان مقيم في تلك الأيام في فندق ميرامار لصاحبه الهادي بوقنور الواقع في بلدة اسطورة غرب مدينة سكيكدة حيث كان موعد لقائهما بعد عودته من مهمته بالبويرة هو 31 ديسمبر 1955، حيث بقي مراد ديدوش في الفندق إلى غاية خروجه من سكيكدة في 4جانفي1955 بعدما بلغه خبر اعتقال محمد قديد. وبعد التحقيقات مع الموقوفين المصاليين ومنفذي العملية، توصلت التحقيقات إلى ضلوع القسمة المصالية خلف العملية في مدينة سكيكدة وليس اللجنة الثورية للوحدة والعمل وتمكن بذلك محمد قديد من انقاذ الوضع خصوصا أعضاء المجموعة الأولى التي أنشئها برفقة قائد المنطقة والمتكونة من ثلاثة عشرة مناضل.
يتبع

الرجوع إلى الأعلى