فرنسا لم تتمكن من تفكيك خلايا الفدائيين بقسنطينة
يؤكد المجاهد عبد القادر بوطمين، أن الجيش الفرنسي لم يستطع تفكيك شبكات وخلايا الفدائيين بمدينة قسنطينة، خلافا لما كان عليه الأمر بالجزائر العاصمة، حيث قال إن النظام  كان يتميز بالسرية القصوى و يجدد نفسه تلقائيا كما الدودة الشريطية، التي تقوم بولادة نفسها من جديد كلما انشطر منها عضو، كما يبرز الفدائي في ثورة نوفمبر أن اليهود كانوا أكثر عداوة للجزائريين مقارنة بالفرنسيين فقد وشوا وارتكبوا جرائم كثيرة وفظيعة في حق القسنطينيين.
حاوره لقمان قوادري
 استقبلنا المجاهد عبد القادر بوطمين ذو 81 عاما بحفاوة كبيرة بمنزله الكائن ببلدية الخروب، فهو من مواليد عام 1938 ببلدية الشقفة بولاية جيجل، التي تعلم القرآن بها،  ثم   انتقل رفقة عائلته إلى قسنطينة ودرس بمدرسة محمد الزاهي وبعدها  بمعهد ابن باديس  أين تتلمذ على يد العلامة الراحل عبد الرحمان شيبان والشيخ المرحوم بوغابة مصطفى، فضلا عن محمد الميلي ابن الشهيد مبارك الميلي وغيرهم من أساتذة جمعية العلماء المسلمين، كما ذكر محدثنا أن عبد الرحمان شيبان، كان يقول لهم بعد انطلاق الثورة «من لم يلتحق بجبال الأوراس فهو ليس وطنيا  «.
عائلة قدمت 12 شهيدا
ويقول المجاهد بوطمين عبد القادر إنهم كان يتلقون أخبار الثورة من الطلبة الذين التحقوا مبكرا بها ومن بينهم أخوه الشهيد عبد المالك، الذي التحق رفقة 12 تلميذا بجبال الأوراس، و  بعد ذلك استشهد، علما أنه  قد شارك في معركة الجرف الشهيرة، مشيرا إلى أنه من  عائلة ثورية  قدمت 12 شهيدا من بينهم أخاه و أبناء عمومته.
ويروي لنا المجاهد، كيفية التحاقه  بصفوف الثورة في شهر فيفري  1956 حيث اتصل به شاب مناضل يسمى بوحجلة محمد، كان يدرس معهم في المعهد وكان أكبرهم سنا و مثقفا ومناضلا في حزب الشعب، حيث  قام بإدماجهم في صفوف الفدائيين الذين ينشطون بالمدينة القديمة بقسنطينة وبعض الأحياء الكولونيالية الأخرى،  ولقد تم تقسيم الفدائيين الجدد مثلما قال عمي عبد القادر، إلى 3 مجموعات، الأولى مجموعة الجوسسة والاستكشاف، والثانية مكلفة بجمع الأموال، أما الثالثة  فكانت تقوم بتنفيذ العلميات وقتل الخونة، أما هو فقد كلف في البداية بنقل السلاح الذي كان يجلب من منطقة الجباس.
 وقال المجاهد بوطمين، إن السلاح المستعمل كان خفيفا جدا ويتمثل في مسدسات صغيرة الحجم، فالثورة كما أكد، لم تكن تمتلك بندقيات أو قنابل يدوية، ويبرز محدثنا أنه كان يستلم السلاح من المجاهدة جميلة بن مهيدي التي كانت تحمله داخل قفة وتقوم بإيصاله إلى رحبة الصوف، ثم يقوم هو بوضعه لدى المجاهد دخموش محمد الذي  كان يعمل صائغا في حي رحبة الصوف وههو أسلوب اتبع   في كل العمليات.
هكذا تمكن الفدائيون من قتل عضو بمنظمة اليد الحمراء
ويبرز المجاهد بوطمين أن الأمر لا يقتصر على نقل السلاح فقط بل يتعداه إلى مراقبة نشاط العدو والخونة، فهو ما يزال يتذكر أدق التفاصيل عن العديد من العمليات التي كان شاهدا وفاعلا فيها، فقد تحدث عن عملية قام  بها رفقة فدائي     للقضاء على يهودي يعمل كتاجر وعضو في حركة اليد الحمراء الصهيوينة،     قتل و عذب الكثير من الجزائريين.
ويقول عمي عبد القادر أنه قام بمراقبته وتحديد مواعيد دخوله وخروجه من المحل و البيت، ليتم بعدها تكليفه بإيصال السلاح إلى الفدائي الذي سينفذ العملية وأبلغه بكلمة السر وهي «عقبة»،  حيث وضع  السلاح في خاصرته  لنقله  من رحبة الصوف إلى شارع فرنسا، وقبل ذلك سبقه الكشاف لاستطلاع الطريق، حيث أشار إليه بالعبور دون أن ينتبه لوجود الجنود الفرنسيين، إذ ما إن وصل عمي عبد القادر، حتى أوقفه جندي وأمره أن يضع يده فوق رأسه لكنه لم يرتبك بل ألقى التحية على الجندي بابتسامة ثم صافحه وقال له  «أهلا بك يا صديقي لقد كنا مع بعضنا في إحدى المقاهي بمحطة القطارات ألم تتذكرني» فانطلت على الجندي الحيلة ونجا من التفتيش قبل أن يأمره بالانصراف.
 وسلك عمي القادر اتجاه سوق «المونبري” وأوصل السلاح إلى محل إسكافي وأبلغه بكلمة السر، ثم سلمه بدوره إلى فدائي آخر كان يستخدم السلاح جيدا ليوجه له طلقات أردته قتيلا أمام محل بيع الملابس الذي يملكه ثم سلك الطريق المؤدي إلى الرصيف، أين تم تخزين السلاح لدى بائع أحذية، نجح في تمويه الجنود الفرنسيين بتقديم معلومات خاطئة  حول الوجهة التي سلكها  الفدائي.
الشرطة تلقي القبض
 عليه بعد 10 أشهر من التحاقه بالثورة
وفي شهر ديسمبر 1956 تم القبض عليه إثر وشاية من شخص بدافع الانتقام  منه،  بعد أن طلب منه دفع ديونه لدى مخبزة عائلته وفق ما صرح به محدثنا، الذي تم  القبض عليه  وتحويله إلى محافظة الشرطة المركزية مقر الأمن الولائي للأمن حاليا، حيث ذكر أنه خضعوا لأبشع أنواع التعذيب،  حيث كان الفرنسيون يقومون بتعليقهم كالشاة عند سلخها و إنزالهم على رؤوسهم تدريجيا إلى قعر برميل ماء كبير حتى تنقطع أنفاسهم ويتوقفوا عن الحركة، ثم يسحبونهم ويقومون  بعد ذلك بضربهم على ظهروهم حتى يستعيدوا أنفاسهم.
مسؤول محتشد بالحامة كان يقتل يوميا 6 جزائريين

ولا يتوقف التعذيب، عند هذا الحد مثلما أكد المجاهد بوطمين، إذ يتم تعذيبهم بالكهرباء على مستوى الآذان والشفاه ونقاط حساسة من الجسم، حتى يغمى عليهم وظلوا على تلك الحال طيلة 15 يوما،  قبل تحويلهم إلى محتشد ببلدية الحامة ، أين كان يقوم  قائد المركز وهو أحد  السفاحين، بقتل وتعذيب 5 أو 6 جزائريين يوميا، قبل أن يتم تعيين قائد جديد،   قال إنه لم يكن يعترف إلا بقرارات العدالة، وأمر بزيادة ساعة للمساجين من أجل التجول خارج جدران السجن .
ويتابع محدثنا الذي يتذكر تفاصيل دقيقة عن عملية الاعتقال، أنه تم تحويله إلى محكمة مدنية  و توكيل محامي فرنسي له اسمه «بيو»  دافع عنه بقوة وقدم كل الحجج على براءته لينطق في حقه بحكم البراءة، لكن قبل أن يتم إطلاق سراحه حول إلى المنصورة مقر المجموعة الولائية للدرك الوطني الحالي،  أين يتم فرز المساجين وتحويل كل واحد منهم سواء إلى تيمقاد أو قصر الطير بسطيف  وغيرها من المناطق، وشاءت الصدف أن يلتقي بالمجاهد الكبير سليمان عميرات مع 4 من المغتربين، وبعد ذلك تقدم منه أحد الضباط وقال له أنت حر لكنه لم يخرج من الثكنة لعلمه أن كل من يخرج يتم قتله رميا بالرصاص من بعيد، إذ انتظر قدوم شاحنة القمامة، التي كانت ملكا لأحد أصدقاء العائلة وركبها لينجو بذلك  من الاغتيال بعد أن  سائقها إلى منزله بحي الفوبور بأعالي قسنطينة، وكان ذلك في نهاية أفريل 1957.
وبعد إطلاق سراحه يقول المجاهد بوطمين عبد القادر، أنه عاد إلى صفوف جيش التحرير وجدد الاتصال بمسؤول الخلايا السرية المجاهد دخموش محمد، ليكلف بتهريب الشهيدة جميلة بن مهيدي من قسنطينة، بعد أن اكتشف الجيش الفرنسي أمرها، «إذ كانت تقوم بدور كبير في قسنطينة من خلال العمل على نقل الأسلحة والأموال إلى كبار مسؤولي الخلايا السرية، على غرار عبد الرحمان عياط المدعو عبد الحميد».
ويقول المجاهد، إنه كان مقررا أن يتم تهريب المجاهدة إلى العاصمة لكنه قام باقتناء تذكرة قطار إلى سطيف ومن ثم  إلى بجاية إلى غاية جيجل، ثم التحقت ثلاث مجاهدات بهما ويتعلق الأمر برقية غميوز و باهي مسعودة وزوجة المجاهد كحل الراس عبد المجيد السيدة قيصرلي فريدة، التي ما تزال على قيد الحياة إلى الآن، ولجأ لاستخراج  شهادات ميلاد لبنات عمه وأخته حتى يثبت للاستعمار الفرنسي بأنهن من أقربائه ويتسنى لهن التنقل بكل حرية، ثم مكثوا مدة في مدينة بجاية قبل أن يتوجهوا إلى دار الشرطة لاستصدار تصريح بالسفر إلى الطاهير وبالضبط نحو بلدية الشقفة، أين قام محافظ  شرطة باستنطاقهم حول هويتهم ، لكنهم  كانوا على كلمة واحدة، حيث صرحت المجاهدات أنهن تلميذات بمدرسة التربية والتعليم وأنه هو تلميذ بثانوية حيحي المكي الحالية بقسنطينة قبل ما مكنهم من السفر.
وفي الطريق إلى أعالي الشقفة أوقفتهم دورية ومنعتهم من العبور عبر منطقة محرمة، لكن أحد الضباط وبعد استعطافه سمح لهم بالمرور نحو بيت أهله في تلك المنطقة، قبل أن يتوجهوا إلى مركز المجاهدين الذي  كان يقوده  المجاهد بخليل مختار المدعو «البركة» قائد مقاطعة الطاهير والشقفة،  أين استقبلهم عند   التاسعة صباحا.
فتيات في عمر الزهور يلتحقن بجبال جيجل
وعن أسباب التحاق الفتيات وسفرهن معه، أكد محدثنا أنهن كن صغيرات السن لكنهن كن وطنيات إلى حد النخاع وكان الالتحاق في تلك الفترة بالثورة قويا وواجبا لدى أي جزائري، كما قرر المجاهد البركة الابقاء على  الفتيات من أجل تمريض المجاهدين، في حين طلب منه أن يعود إلى قسنطينة والتكفل بمهمة  شراء الأدوية وإيصالها عبر خط ميلة.
وعاد عمي عبد القادر إلى قسنطينة حاملا رسالة إلى مطعم بن جلول بحي الرصيف بالمدينة القديمة، وأبلغه بكلمة السر « بوبكر”، وقدم له الرسالة ثم عاد مرة أخرى ليأخذ الدواء واستمر على هذا الحال لسنوات، حيث  كلف رفقة  فدائيين بجمع الأدوية من الصيدليات و  نقلها كل 15 يوما  إلى ميلة  من منتصف 1957 إلى الاستقلال عبر شاحنات الحبوب، وأحيانا كان يدس الأدوية في أكياس التبغ، وكثيرا ما كانوا يقومون بتقديم علب سجائر للجنود حتى لا يخضعونهم للتفتيش.
   أسماء مستعارة للفدائيين للحفاظ على السرية
وفي سؤالنا للمجاهد عن المهام، التي قام بها طيلة 5 سنوات الأخيرة، ومن هم أبرز الفدائيين الذي كان يعمل معهم، قال إن العمل الفدائي في قسنطينة، كان سريا جدا والجميع كان يعمل بأسماء مستعارة  ، و»حتى المجموعة التي كنت أنشط معها لا أعرف الأسماء الحقيقية لأعضائها”  ،  إذ أن اسمه على سبيل المثال كان صالح بوطمين، وهي هوية ابن عمه الذي يقطن بمرسط بتبسة.
وذكر «عمي عبد القادر»، أن فرنسا لم تتمكن من السيطرة على العمل الفدائي مثلما كان عليه الأمر في العاصمة، إذ لم تستطع القضاء على مختلف الشبكات والخلايا الناشطة بالمدينة القديمة وبعض الأحياء الأخرى، «فقد كان النظام يعمل كما الدودة الشريطية، كلما انشطر منها عضو حتى تعوضه وتتكاثر آليا» وهو مكمن قوة العمل الفدائي في المدينة، وفق محدثنا، فقد كانت العمليات تحدث دوريا في كل من سيد مبروك و باردو وشارع فرنسا وغيرها من الأحياء، دون أن تنكشف هوية الفاعلين.
“ اليهود كانوا أكثر عداوة للجزائريين من الفرنسيين”
ويشير المجاهد بوطمين إلى الدور الخطير الذي قام به اليهود في الكشف عن هوية المجاهدين والتبليغ عنهم، إذ أن العديد من عمليات القتل والتعذيب كانت تنفذ على أيديهم،  فقد كانوا أكثر عداوة للجزائريين من الفرنسيين سواء على مستوى الأشخاص أو العائلات، مشيرا أن أحد اليهود  من أصل ألماني يقطن بحي الفوبور  كان يقوم بتعذيب الجزائريين وقلتهم في مراكز الشرطة، قبل أ، يقضي عليه الفدائيون.   
ويؤكد المجاهد أن فرنسيين ساعدوا الثورة وكانوا يمونونهم بالعتاد الطبي،  فقد كان دكتور أمراض القلب “كاتوا» القبل يساعد الثورة بالأدوية فضلا عن إمرأة أخرى فرنسية كانت تقدم المساعدة للجزائريين ثم التحقت بالمجاهدين في الجبل، فضلا عن وجود العديد من الفرنسيين، الذين قدموا الدعم المادي والمعنوي للجزائريين.
ل.ق

يتبع

الرجوع إلى الأعلى