منجما بوالحمام و بودوخة شاهدان على نجاح إعلان الثورة
لقد كان انفجار الغضب الجزائري في ليلة أول نوفمبر من سنة 1954 نتاج جهود كبيرة، ووليد مخاض تحضيريّ طويل وتراكمات مساعي تمت بشكلٍ موزع على سائر أنحاء الوطن وفي مستويات نضالية وطنيّة ومحليّة كثيرة، وذلك ما جعل منه نقطة التقاء الإرادات الواعية ذات بعد النظر، تلك التي اقتنعت بأنه لا طائل من مواصلة النضال السياسي في شكله السلميّ مع السلطات الاستعمارية الفرنسية، كما هو لا طائل من البحث عن زعيم متفرّد يقود طموحات الشعب على غرار التجربتين التونسية والمغربيّة، في ظل تواصل التفكك والخلاف في حزب حاج مصالي واستغلال الفرنسيين لهذه الخلافات للتأثير على الحركة الوطنيّة وإضعاف تأثيرها على الشعب.. كانت الجزائر تتمتع بعبقريّة نضاليّة خاصة تمتاز بأن كلّ مناضل يعمل على مستواه وفق السياقات المحيطة به ووفق ما يتوفر له من إمكانيات.. ومن بين المناطق التي كان مناضلوها يتابعون مجريات الأمور عن كثب منطقة الميليّة بولاية جيجل التي كانت مركزًا نشيطًا لعدد كبير من المناضلين المتواصلين على الدوام مع إخوانهم في الجزائر العاصمة وقسنطينة وميلة وعنابة وسكيكدة، لذلك أدّت دورهَا كاملاً غير منقوص في الإعداد لهذا الحدث الجلل والمشاركة بفاعليّة فيه.
أ. سفيـان عبـد اللّطـيف
العربي بن مهيدي في الميليّة للاطلاع على جاهزية مناضليها للعمل المسلح..
بعد اكتشاف أمر المنظمة الخاصة في حادثتي تبسة ووادي الزناتي 18 مارس 1950، وتحت قناعة أن الأمور تسير لا محالة إلى انفجار العمل المسلح، انطلق مجموعة من مناضلي حركة انتصار الحريات الديمقراطية ومنظمتها الخاصة (OS) بالتوجه إلى القواعد الشعبيّة المحليّة للاطمئنان على جاهزيتها ولإعادة بناء تنظيم متماسك يمكن التعويل عليه في التحضير للعمل المسلح، والذي كانت فرنسا الاستعمارية على ثقة تامة بأنه «مغامرة» لن يخوضها هؤلاء المناضلون بعيدًا عن رجال الحزب الذين تراقبهم باستمرار ومن دون عمليات تسليح كبرى أو دعم خارجي، ولكن الأمر لم يكن كذلك! إذ كان اتخاذ قرار مثل هذا لا يحتاج إلى أكثر من التأكد من جاهزية القواعد النضالية المحليّة التي كانت تؤطرها شبكة علاقات معقدة، وقد كانت منطقة الميليّة أنموذجًا متفرّدًا لتلك القواعد المحليّة، إذ كانت تتمتع بقاعدة نضاليّة متينة جدًّا وتؤطرها نخبٌ ممتازة التكوين على غرار شبكة طلبة جمعيّة العلماء المسلمين والكشافة الإسلامية الجزائرية التي كانت تجتمع عند عيسى أوسياف ومحمد لحمر ورابح خدروش وغيرهم... شبكة الحدادين التي كانت تجتمع في دكان صالح بولعتيقة وعمار غوغة... شبكة الرياضيين وكان من أبرزهم محمد العربي لحمر.. وقادةٌ كثر آخرون على غرار سعد زعيمش ويوسف رابحي وعلي بوعرورة، وعلي زغدود العواطي وعمار بلـﭭـعوير... وغيرهم منتظمين في شبكات كثيرة جدًّا ومعقّدة وعدد كبير من المناضلين، ونظرًا لهذه الأهمية التي كانت تكتسيها الميليّة، زارها محمد العربي بن مهيدي مطلع الخمسينات في تجواله على مختلف نواحي الوطن واستغل انتماءه إلى سلك طلبة جمعية العلماء وقادة الكشافة الإسلامية للنزول عند زميله عيسى أوسيّاف في دكانه أين انتقلا متخفيين إلى مقهى وتحادثَا عن أوضاع النضال، وعلى ما يبدو فإن عيسى قدّم لبن مهيدي توصيفًا لمدى استعداد رجال الميليّة للعمل المسلّح، بينما نقل بن مهيدي إلى عيسى حال المخاض الذي يسعى بشتى الوسائل والطرق إلى توعية المناضلين وتدريبهم وجمع الأسلحة والمعدات اللاّزمة استعدادا للقتال.
أول اشتباك مسلّح مع الاستعمار قبل 1 نوفمبر
بعد هذه الزيارة الهامة لبن مهيدي شرعت الميليّة في جمع كل شبكات مناضليها، وازداد نشاطها بشكل لافت أدخل الريبة في نفوس الفرنسيين الذي صاروا يتابعون نشاطهم ويعتقلون أفرادًا منهم أحيانًا، كما بدأ العمل الفعلي على جمع الأسلحة بحيث صار بعض المناضلين يحوزون على بنادق صيد وبعض المسدسات، إذ يذكر المناضل يوسف رابحي أنه في سنة 1953م دخل بعض مناضلي الميليَّة إلى المدينة إلى شارع الكابيتان سارجون (شاع زيغود يوسف حاليا) وسط مدينة الميليّة لأداء مهمّة سريّة للغاية، فتفطن لهم الدرك الفرنوقام بمحاصرتهم، فخرجوا من السّيارة واعتصموا بمدخل درج (دار الأمرد – قارة)، ثم وقع تبادل إطلاق نار فأصيب أحد المناضلين وفرَّت المجموعة، كما نقل المصاب على جناح السرعة خارج المدينة أين عولج بالطرق التقليديّة حتى لا يُكتشَف أمرُه، وعلى إثر ذلك قامت الجندرمة الاستعمارية بفتح تحقيقات واعتقال الكثير من المناضلين إلا أنها لم تعثر على شيء.. وفي 23 من شهر جوان 1954م عندما اجتمعت مجموعة (21+1) المعروفون لمناقشة قضيّة تفجير الثورة قال بن مهيدي جملته المشهورة «ألقوا بالثورة إلى الشارع يحتضنها الشعب».. لم تكن هذه الجملة كلامًا حماسيًّا قاله بن مهيدي، إنما قناعة نابعة من جولاته على مختلف نواحي الوطن واطلاعه على وضع القواعد النضالية التي من بينها منطقة الميلية.. ولذلك كلّف بأمرها أحد أعضاء مجموعة (21+1) وهو سليمان بن طبّال (لخضر) الذي تعود أصوله إلى منطقة أولاد عوّاط بالميليّة، يقول: «عندما قررنا إعلان الثورة توجه كل منّا إلى منطقته واستعمل وسائله الخاصة..»، كما أصبح عبد الحفيظ بوالصوف وهو أيضًا أحد أعضاء المجموعة في شهر سبتمبر من سنة 1954م يتنقل من ميلة إلى الميليّة متخفيًا في لباس تاجر تونسي ويلتقي بالمناضلين يوسف رابحي وعلي بوعرورة فيما نعتقد أنه عملية تنسيق من أجل الحصول على السلاح، إذ بعد ذلك ألقى الاستعمار القبض على بوالصوف في 12 أكتوبر وهو على دراجته حاملاً بنادق صيد وحكم عليه بسنتين سجنًا..
تاريخيًّا.. لماذا تم اختيار ليلة 1 نوفمبر؟
ومع تكثيف اجتماعات لجنة الـ6 واقتراب موعد انطلاق الثورة، نشأت معضلة رمزية اختيار اليوم الذي تعلن فيه، وكان عمليًّا أن فصل الشتاء يقترب وتصعب معه التحضيرات للقيام بعملية عسكرية أيضًا، ولم يبلغنا أحد عن سر اختيار هذا اليوم بالذات فيما عدَا ما تناقله بعض المؤرخين من كونه يوم احتفال الفرنسيين بعيدهم الكاثوليكي (La Toussaint) وينشغل الفرنسيّون بالإعداد له وهي فرصة سانحة لمباغتتهم، ولكن من جهة أخرى، أفضت أبحاثنَا إلى أنه قد يكون تذكيرًا للفرنسيين بهزيمتهم النكراء في غزوتهم الأولى على مدينة جيجل من (23 جويلية إلى 31 أكتوبر 1664م) بحيث تم سحقهم وإغراق سفنهم وإذلال جيشهم في ليلة 31 أكتوبر وإعلان استقلال المدينة على يد جيش الآغا شعبان في 1 نوفمبر 1664م، وهو التاريخ الخالد الذي بقي يتذكره الفرنسيون بألم، ولا شك أيضا يتذكره الجزائريون بفخر واعتزاز، ولذلك غير بعيد احتمال أن يحمل يوم أول نوفمبر هذه الرمزية أيضًا، وتنضاف إلى الرمزيات الأخرى التي أرادها من سعوا إلى تنظيم الحدث رسالةً لفرنسا بأنها سترحل لا محالة من الجزائر.
اجتماعات ماراطونيّة لتنظيم أفواج المناضلين..
وفي شهر سبتمبر 1954 عُقِد اجتماع سرّي طارئ في جامع (سيدي الزروق) بمنطقة العقبيّة حضره لخضر بن طبال وعمار بن عودة والقيادات المحليّة للمنطقة ومناضلوها في حوالي 100 شخص، وكان موضوع اللقاء حول قرار إطلاق الثورة والاستعدادات الموجودة من حيث التدريب العسكري والميداني الذي انطلق فيه مناضلو المنطقة منذ سنة 1946م بشكل سرّي أفرادًا وجماعات في الجبال والوديان، أتبعه اجتماع آخر يوم 25 أكتوبر 1954م عقده ديدوش مراد مسؤول المنطقة الثانية الشمال القسنطيني لمسؤولي النواحي بالسمندو، وحضره زيغود يوسف ونائبه محمد الصالح بلميهوب عن السمندو، محمد قديد وعبد السلام بخوش عن الحروش، سليمان بن طبال والعربي بن رجم عن الميليّة وميلة، وعمار بن عودة عن عنابة، وباجي مختار عن سوق أهراس، وتم تبليغهم بالوضع العام لتحضيرات الثورة التحريرية والحرص على تنظيم عمليات فيها، إلاّ أن معظمهم تخوّفوا من الأمر بالنظر إلى نقص الأسلحة وقلّة الإعدادات، يقول بن طبّال: «إن الخوف بقي مسيطرا على أنفسنا، ولم يذهب عنا إلا بعد تفجير الثورة واطلاعنا على انطلاقتها بواسطة الجرائد الفرنسية وأنها شملت كل القطر الجزائري..»، ولكن هذا الخوف لم يمنع من المبادرة بتنظيم أعمال جريئة.
ساعة الحسم.. الميليّة تنطلق من عمليتيّ (بوالحمام) و(بودوخة)..

عندما وصلت أخبار اختيار يوم انطلاق الثورة إلى مناضلي منطقة الميليّة، انطلقوا في التحضير لها، بحيث تم الاتفاق على الاجتماع في ليلة 30 أكتوبر 1954م بمنزل عمار بلـﭭـعوير بمشتة الشكريدة دوار العقبيّة (سيدي معروف حاليًّا) بحضور سليمان بن طبال (لخضر)، فحضر الاجتماع المناضلون: علي زغدود العواطي، عمار بلـﭭـعوير، عيسى أوسياف ، محمد العربي لحمر، رابح خدروش، أحمد بوعبانة، المكي بوقرين، بن عامر عمار، لعمامري سعد، لعمامري الطيب، لعمامري الدراجي، بغريش الساسي، حسين سفاري، بنون لخضر، مروش الصادق، لعور صالح، بوقندورة محمد، بوداموز عمار، مانع خلاف، مانع زيدان، سعد دويّب، تليتلي الطاهر، حسان حداد، محفوظ زطيلي، حيث تناقشوا مع سليمان بن طبّال (لخضر) في قضيّة القيام بعمل عسكري، وتشير شهادات المناضلين الذين حضروا الاجتماع أنه بالرغم من الحماس الكبير الذي أبداه قادة المنطقة إلا أن بن طبّال كان رافضًا لفكرة تنظيم عمليّة في هذا التوقيت، بالنظر إلى نقص السّلاح الذي لم يكن يتعدى 17 سلاحًا متواضعًا (بنادق صيد وبندقية ألمانية من نوع كارا وبندقية من عيار 88) وبعض الأدوات البسيطة، وكان يميل إلى فكرة تنظيم المناضلين والإعداد للثورة بشكل أكثر تنظيمًا، خصوصًا لكونه هو وأعضاء المنظمة الخاصة (OS) متابعون ومسجونون، يقول بن طبّال: «في ذلك الوقت لم تكن مسألة السلاح من بين الأمور الصعبة التي كانت تواجهنا، لأننا لم نفكر في فتح جبهة في مواجهة العدو..»، فكان من المخاطرة في نظره المبادرة بأعمال تكون فيها المواجهة مباشرة مع الفرنسيين، ولكن القيادات المحليّة لمنطقة الميليّة انتفضت في وجهه وحدثت ملاسنات كبيرة بينه وبين عيسى أوسياف الذي وقف وقال مقولته المشهورة: «نديرو الثورة ولو نشعلو عرف زلاميط!» (أي نعلن الثورة ولو نشعل عود كبريت)، وأصرّ الجميع على موافقة سي عيسى، فغادر بن طبّال إلى المنطقة وكلّف عمار بلـﭭـعوير وعلي العواطي بتنظيم عمليّة للاستيلاء على البارود من منجم (بوالحمام)، وبالفعل تمّ التخطيط للقيام بتوزيع بيان أول نوفمبر ومهاجمة مخزن البارود لـمنجم بوالحمام، والاتفاق على الالتقاء في الليلة المواليّة في المكان نفسه، وبينما بقي فوج العواطي وبلـﭭـعوير متخفّين بمنزله ولا يخرجون منه إلا أفرادًا لابسين قشابية سي عمار حتى لا يثيروا الانتباه، وصلت التعليمات إلى جميع الخلايا النضاليّة المتوزعة في مختلف ضواحي الميليّة، فاجتمع في الليلة المتفق عليها بمنطقة (أولاد عميور) جنوب مدينة الميليّة المناضلون: عيسى أوسياف، محمد العربي لحمر، صالح بوالعتيقة، رابح بغيجة، حسين بودشيشة، علي بودشيشة، أحسن كروم، صالح مليط، سعد زعيمش، وانتقلوا عبر جبل بوخداش إلى الشكريدة موضع بلـﭭـعوير، بينما انطلق من ناحية العنصر مناضلان لكنهما لم يصلاَ لبعد المسافة ووصول التعليمات متأخرة، وفي سيدي معروف انطلق عيسى لكحل بفوجه لكنه لم يصل كذلك لصعوبة التنقل ليلاً، ومن ناحية أولاد مبارك وبني تليلان تجمع عدد من المناضلين بقيادة محمد لحمر ولكن وصول التعليمات متأخرة أيضًا حالت دون بلوغهم الشكريدة فقاموا بهجوم آخر. وبعد تجمع نحو من 32 إلى 35 مناضلاً، قاموا بتقسيم أنفسهم على ثلاثة أفواج: المجموعة الأولى: فوج مهمته قطع خطوط الكهرباء والهاتف والحراسة، وفوج آخر مهمته مهاجمة المنجم وفتح مخزن الذخيرة. المجموعة الثانية: تحضر 07 بغال لحمل الذخيرة التي ستؤخذ من المنجم. المجموعة الثالثة: تحضر بيان أول نوفمبر وتوزعه على المواطنين في سريّة تامة.
وفي حوالي الساعة 22:00 ليلاً انطلق هؤلاء المناضلون مشيًا على الأقدام مسافة 04 كلم إلى جبل بوالحمام ولما وصلوا إلى هضبة (الطهرة دي الميرة) تفقدُوا الأفواج فوجدوا أن المناضلين (ح.ح) و(م.ز) اقتنعَا بصعوبة المهمة فانسحبَا.. كان الجوّ فاترًا بحيث توقفت الأمطار عن الهطول، فتسلل المهاجمون إلى زوايا المنجم وفق الخطة المرسومة، ولمّا دقّت ساعة الصفر دخلوا مخزن البارود وكسروا قفل الباب الأول باستعمال إزميل (Burin) وفتحوا صناديق البارود فوجدوها فارغة، ولما شرعوا في كسر أقفال الباب الثاني الذي كان أكثر صلابة تفطّن حارس المنجم أحمد طيغة ورفيقه - التحقَا فيما بعد بالثورة التحريرية – لصوت التكسير فاعتقدا أنهم لصوص وقام أحمد طيغة بإطلاق النّار في الهواء منبهًا مدير المنجم والمهندسين الذين كانوا يسكنون هنالك.. ولم يكن المناضلون يعرفون المكان جيّدًا لكونه ممنوعًا على الجزائريين ومحروسًا، فخافوا انكشاف أمرهم وقرروا تجنب المواجهة المباشرة والانسحاب سريعًا كلٌّ إلى منطقته دون أية خسائر، إلاّ أنهم نجحوا ببطولة في إعلان التمرّد المسلّح والثورة لتحرير الجزائر من خلال إرسال رسائل تهديد مباشرة للكولونيل «رينو» حاكم الميلية في زمن هذه العمليّة. ويذكر المناضل علي زطال أنه التقى في السجن المهندس «زوزاف» الذي كان مكلفا بتسيير المنجم وحدثه عن وقوع اتصالات بينه وبين بن طبّال من أجل تنظيم الهجوم على المنجم إلاّ أن المخابرات الفرنسية اكتشفت أمره ووضعته في السّجن، وهو ما يوحي بأن التخطيط للعملية بدأ التحضير له بمدة طويلة قبل ليلة غرة نوفمبر.
وفي منطقة أولاد مبارك وبني تليلان (السطارة حاليا) بقي فوج المناضلين بقيادة محمد لحمر مرابطًا ومستعدًّا للهجوم، ولكن تأخر وصول التعليمات إلى ما بعد فجر 1 نوفمبر جعل سي محمد يتوجه بمن معه لمهاجمة منجم (بودوخة) المحاذي لهم في حدود بلدية عين قشرة، حتى لا يحطّ من المعنويات الحماسية للمناضلين، ومع خيوط النور الأولى تم اقتحام المنجم باستعمال أدوات بسيطة، والاستيلاء على محتوياته من فؤوس ورفوش ونقالات وألبسة وإخفاؤها في إحدى الشعاب القريبة، وإعلان قيام الثورة التحريرية بهذه الجبال من خلال هذه العمليّة البطوليّة في سياقاتها الزمانية والمكانية. وفي منطقة ميلة قام العربي برّجم الميلي بقيادة فوج من المناضلين إلى منطقة الـﭭـرارم وبقي مرابطًا معه في انتظار أوامر سليمان بن طبّال (لخضر) إلاّ أنها لم تصله، فترك برّجم الـﭭـرارم وعاد أدراجه إلى ميلة.
وفي يوم 1 نوفمبر 1954م قام سعد زعيمش وعيسى أوسياف في الميليّة بإخفاء كيس مليء بنسخ بيان أول نوفمبر في حمام المناضل إبراهيم عبد الوهاب، وقاموا بتوزيعه في اليوم التالي 2 نوفمبر 1954 على المواطنين بسريّة تامة، وبذلك نجحت الميلية في استكمال مهمة القيام بعمليات أول نوفمبر 1954م بالتمام. وفي اليوم 3 نوفمبر اعتقلت السلطات الفرنسية المناضلين محمد بعداش وعلي أبو دشيشة  وأحسن كروم، وقامت باستنطاقهم وتعذيبهم لأخذ معلومات منهم  ولكنهم لم يدلُوا لها بشيء، كما شنت طوال الشهر حملة اعتقالات واسعة وإهانات والتحقيق مع كل من شكت في أمره، ولم تصل إلى شيء بحكم أن كل ما كان يقوم به المناضلون يبقى في غاية السريّة والكتمان.

وبعد عملية بولحمام بزمن يسير، التقى محمد العربي لحمر وصالح بولعتيقة بسليمان بن طبّال (لخضر) بمنطقة (ﭬـاسراس) قرب الـﭭـرارم وقاموا باستفساره عن عدم حدوث هجومات على أولاد القايم وميلة، فغضب منهم غضبًا شديدًا واعتبر عملية بوالحمام فاشلة ومغامرة بأرواح المناضلين الذين كان عددهم قليلاً وأسلحتهم بسيطة، ولم تنجح في الاستيلاء على البارود وستفضح أمر المناضلين لمخابرات الاستعمار الفرنسي، وكانت وجهة نظره هذه مثار غضب لهؤلاء القادة الشباب المتحمسّين فوقعت بينهم وبين بن طبّال ملاسنات شديدة جعلته يعطيهم تعليمات بالعودة إلى مدينة الميلية وكأن شيئًا لم يكن وتنظيم الشعب في الميلية ودواويرها، إلا أنهما التقيا بزيغود يوسف في قسنطينة وأخبراه فهدأهما، وبعد عودتهما إلى الميليةّ لامهُما سعد زعيمش على ذلك لخطورته عليهما، فأخبراه أنها تعليمات بن طبّال. وتجدر الإشارة إلى أن حارس المنجم أحمد طيغة بعد انضمامه للثورة التحريرية أخبر المناضلين أنهم لو اتصلوا به قبل العمليّة لالتحق بهم وساعدهم فيها، ولكن خطورة الوضع والتخوفات وسريّة العمل الذي قاموا به كان عذرًا كافيًا لإقناعه بأن الأمر لم يكن بهذه السهولة.
عمليات 1 نوفمبر 1954 بالميليّة سجّلها التاريخ.. ولم تسجّلها السلطات الرسميّة !!..
لقد بقيت آثار هذا الخلاف إلى ما بعد الاستقلال، ففي سنة 1984 عقد مؤتمر المنظمة الوطنية للمجاهدين بنادي الصنوبر، ويذكر أحمد العبودي (بلعابد) أنه في ليلة من لياليه كان عمار ﭬـلّيل جالسًا مع مسعود بوعلّي وأحمد بلعابد والعربي برّجم وسليمان بن طبّال (لخضر) وآخرون، فطلب ﭬـلّيل من بوعلّي أن يكلّم بن طبّال في شأن تسجيل عمليات أول نوفمبر بالميليّة رسميًّا، وكان الأمر كذلك فقد كلّمه بوعلّي إلا أنه ردّ باستصغار الحدث، مما جعل العربي برّجم يتدخّل ويردّ عليه بعنفٍ أنه لم يحضر هذا الحدث الذي أنجزه رجال الميليّة ولا يحقُّ له التعليق عليه.. ولهذا الخلاف في تقييم العمليات لم تحظ هذه الأنشطة الثوريّة المبكرة بالتسجيل والاعتراف الرّسمي، بالرغم من كونها كتبت اسم منطقة الميليّة في سجل أحداث تفجير الثورة التحريرية الجزائرية، وكذلك بالرغم من توفر المعلومات التفصيلية حولها وكونها عملية كبيرة ومنظمة، وتصاعد نداءات المناضلين والمسؤولين والنخب والمجتمع المدني بضرورة التسجيل العاجل لهذه الأحداث إلا أننا لم نرَ لحدّ الآن أي مبادرة فعلية لتسجيلها والاعتراف بها بشكل رسميّ وتعليمها للجزائريين بوصفها مفخرة تضاف إلى بطولات أجدادهم، وهو ما يشكل استياء مستمرّا لأهل المنطقة إذ لا سبب وجيه لعدم تسجيل عمليات 1 نوفمبر 1954م وقياداتها الخالدة رسميًّا لرفع التهميش الذي يطال هذه المنطقة الثورية وإعطائها الأهمية العادلة والحقيقية التي تجسّد طموحات أهلها في تخليد تضحيات آبائهم إلى جانب باقي الجزائريين في هذا الحدث المحوري الذي صنعوه بتضحياتهم، وارتقوا عليه في النهاية إلى سدّة الحرية والاستقلال.

مصـادر المقـال:
• عمار ڤليل: ملحمة الجزائر الجديدة، دار البعث، 1991.
• أحسن بومالي: أول نوفمبر 1954 بداية النهاية لخرافة الجزائر الفرنسية، دار المعرفة، 2010.
• عمر شيدخ: مملكة الفلاﭬـة، دار الهدى عين مليلة، 2011.
• علال بيتور: العمليات العسكرية في المنطقة الثانية- الشمال القسنطيني، مذكرة ماجستير، جامعة الجزائر، 2008.
• عبد القادر بورمضان: الثورة التحريرية الجزائرية بجيجل، مذكرة ماجستير، جامعة ﭬـالمة، 2014.
محضر اجتماع المنظمة الوطنية للمجاهدين بالميلية ليوم الخميس 09 مارس 2000.
• شهادات المجاهدين: سعودي العمامري (سعد)، أحمد العبودي (بلعابد)، علي زطال (بن حميود)، عبد المجيد لحمر.
La Dépêche Quotidienne, n° du 02-11-1954

يتبع

الرجوع إلى الأعلى