هكذا فرّ مجندون بالجيش الفرنسي والتحقوا بالثورة التحريرية
• أغلب المعارك اندلعت بوشاية من خونة
استطاع المجاهد محمد عمايري  من مواليد سنة 1932، أن يلتحق بالثورة التحريرية بالأوراس رفقة عدد من المجاهدين بعد أن فرّوا من التجنيد الإجباري في صفوف الجيش الفرنسي، ليستبسلوا بعدها في معارك عدَة في سبيل الاستقلال، وكان للمجاهد عماري ابن منطقة غسيرة في عمق جبال الأوراس الشامخة، الفرصة للالتقاء بأب الثورة التحريرية مصطفى بن بولعيد، والاستلهام من وطنيته، ومشاركة معارك تحت لواء القائد سي الحواس والأخذ بنصائحه، ويستحضر المجاهد في ذكرى الفاتح نوفمبر ما عاشه رفقة إخوانه المجاهدين، بعد أن فتح قلبه لـ»النصر» لنقل شهادته عن الثورة التحريرية.
يـاسين عبوبو
اندلاع الثورة أرعب فرنسا وجعلها تحشد قواتها لمحاصرة الأوراس
لم يُكتب للمجاهد محمد عمايري الالتحاق بالثورة التحريرية مع بدايتها عند اندلاعها في الفاتح من نوفمبر 1954، كونه كان حينها مجندا للخدمة الإجبارية العسكرية في صفوف الجيش الفرنسي، حيث كان متواجدا بمركز المنصورة بقسنطينة، ويروي أنه في تلك الفترة سرعان ما انتشر خبر اندلاع الثورة بمنطقة الأوراس عبر الجرائد، التي تصدرت صفحاتها صور مفجر الثورة مصطفى بن بولعيد، وأكد بأن الخبر أحدث رعبا وارتباكا وسط الجيش الفرنسي.
اندلاع الثورة التحريرية بالأوراس الذي سرعان ما انتشر صداه مثلما يروي المجاهد عمايري، كان له انعكاس على حالة الجيش الفرنسي بعد أن سارع في التأهب وتجنيد فرق من مختلف المناطق بما فيها قسنطينة، أين كان هو متواجدا من أجل التنقل إلى الأوراس لمحاصرة الثورة و الثوار، ويتذكر محمد عمايري أنه عشية اندلاع الثورة كان قد أخبره أحد المجندين من أريس، يُدعى برحال بأنه يعرف مصطفى بن بولعيد، ويعلم بأن الأخير لطالما كان مناهضا للاستعمار ويرغب في إخراجه.
ويتذكر أيضا المجاهد عمايري، تلك اللحظات عشية اندلاع الثورة ويقول بأنه على الرغم من تواجده بالمنصورة في قسنطينة بعيدا عن الأوراس، إلا أن تبعات الحدث كانت بارزة بعد أن حضر ديغول والجنرال أوساريس إلى قسنطينة، من أجل تنظيم جيوش الجيش الفرنسي وإرسال فرق نحو الأوراس، ويقول المجاهد بأنه كان ضمن الفرقة 25، حيث تم توجيهه إلى مركز جمورة ببسكرة في وقت وُزعت فرق أخرى عبر باتنة، فم الطوب، و خنشلة، وهي فرق مشكلة من جنود فرنسيين إلى جانب جزائريين مجندين إجباريا في صفوف الجيش الفرنسي.
فرنسا تحول مجندين من الأوراس إلى قسنطينة بعد أول حالة فرار   
تجنيد فرنسا لجزائريين في جيشها لمجابهة الثورة، جعلها تظن حسب المجاهد عمايري أن الجزائريين سيقفون في صفها، ولم تتوقع فرارهم منها والتحاقهم بالثورة وهو ما حدث منذ البداية، حيث قال بأن أول من فرَ هو المجند محمد حابة بمنطقة لولاش ليلتحق بالثورة، وأضاف محدثنا في شهادته، بأن فرار محمد حابة الذي ينحدر من الأوراس بعد أن تم تجنيده من قسنطينة جعل سياسة الجيش الفرنسي تتغير بسرعة، بإعطاء أوامر بعودة المجندين الجزائريين في صفوفها من الأوراس نحو قسنطينة، لتفادي فرارهم بعد حادثة حابة.
وفي شهر فيفري 1955 انتهت مدة التجنيد الإجباري لمحمد عمايري الذي عاد إلى قريته غسيرة التابعة للدائرة الإدارية القديمة أريس، حيث أقام ثلاثة أشهر ليتفاجأ مرة أخرى باستدعاء لإعادة التجنيد في الجيش الفرنسي، وهو ما جعله يجري اتصالات مع مناضلين في صفوف الثورة ينشطون بمنطقة جبل حمر خدو، وهم محمد بن سليمان قرفي، وجديدي الهاشمي حيث طلب الالتحاق بالثورة، وقال المجاهد بأنه تعذر عليه الالتحاق حينها بعد أن تم إبلاغه من المناضلين، بأن المجاهدين يطلبون منه إحضار السلاح وبينهم علي جديدي، حسوني رمضان، ومحمد بن مسعود.
وأمام تعذر التحاقه بالثورة، اضطر محمد عمايري مثلما يروي إلى التجند مرة أخرى وسط الجيش الفرنسي، لكنه بقي يخطط لكيفيه الالتحاق بالمجاهدين طيلة ثمانية أشهر، بعد أن تم تجنيده مجددا بباتنة، وتحويله نحو لمباز (تازولت) وتحديدا بالمركز الفرنسي المعروف بفيرمة الطليان، وهناك استطاع الفرار والالتحاق بالثورة باتفاق مع خمسة مجندين آخرين بعد نسجهم لخطة الفرار وسرقة سلاح إضافي.
وأوضح المجاهد عمايري محمد، بأنه خطط مسبقا للفرار بتنسيق مع مناضل من تكوت هو بوبكر شعباني، بحيث أن الأخير يبقى ينتظره في الخارج على أن يجلب معه سلاحا إضافيا، وفق اتفاقهما وقد تمكن من الفرار رفقة كل من قابس المسعود، زايدي بلقاسم، بوشارب المسعود، و بزاز المسعود لكن بعد أن تم التفطن لأمرهم، ما أدى لوقوع اشتباك بينهم وبين العسكر الفرنسي.
«سي الحواس كان يتمتع بالفطنة العسكرية وبن بولعيد بالكاريزما»
 فرار محمد عمايري رفقة مجندين آخرين من الجيش الفرنسي، لم يكن ليمر مرور الكرام ويقول المجاهد، بأن فرنسا أرسلت الدعم للقبض عليهم ودخلوا في مواجهات لكنهم استطاعوا الفرار نحو جبل وستيلي وكانت الحادثة قد تزامنت وفرار مصطفى بن بولعيد آنذاك من سجن الكدية بقسنطينة والذي لجأ إلى جبل وستيلي بالأوراس، وهو الجبل الذي كان عمايري ورفقاؤه وجهتهم، ما أتاح لهم الالتقاء بمصطفى بن بولعيد وقبله التقوا بالمجاهد القائد طاهر نويشي والمجاهدين الذين تحت لوائه، ليعلموهم بما حدث لهم، وقال محدثنا بأنه ورفقاؤه تم أخذهم إلى مصطفى بن بولعيد دون علم مسبق بذلك.
وما يحفظه المجاهد عمايري عن التقائه ببن بولعيد رفقة مجاهدين آخرين، هو هيبته وكاريزما شخصيته القوية التي، يقول بأنها كانت بارزة في خطابه للمجاهدين في شحذ هممهم، ويتذكر ما كان يوجهه إليهم  من نصائح لاستلهام الوطنية، ويقول بأن خلاصة حديثه، هي النصر أو الاستشهاد في سبيل الله وفي سبيل الوطن، ومن توجيهاته تأكيده لهم بأن المهمة لتحقيق الاستقلال ليست بالسهلة وأن عليهم التضحية بأنفسهم وأهلهم.
ويعتبر المجاهد محمد عمايري نفسه، محظوظا بلقاء قائد مثل مصطفى بن بولعيد وكذا سي الحواس، ويروي بأنه بعد فراره من الجيش الفرنسي والتحاقه بجيش التحرير تم تحويله رفقة اثنين من زملائه الفارين أيضا من طرف مصطفى بن بولعيد، نحو ناحية بريكة تحت قيادة المجاهد عبد الحفيظ طورش فيما التحق اثنان بفريق الطاهر نويشي.

وشارك المجاهد عمايري استنادا لشهادته في معارك مفصلية عديدة، عرفت سقوط شهداء وتكبد فرنسا خسائر أبرزها معركة تارشيوين بجبل أولاد سلطان في شهر رمضان مارس 1956، ومعركة بمنطقة بلعلى ناحية تفلفال بغسيرة ومعركة برقوق ببانيان، وكانت المعركة الأخيرة تحت قيادة العقيد سي الحواس سنة 1958 ، ويقول عمايري بأن سي الحواس كان قائدا فذا وحازما في تعليماته وتوجيهاته للمجاهدين، ويقول بأنه كان شديد الحرص على حياة المجاهدين و يفضل وفق تعليماته تفادي المواجهات المباشرة مع العدو الفرنسي لتفادي تكبد الخسائر، لعدم التوزان في القوى والإمكانيات في أغلب الأحيان.
وكان سي الحواس يتمتع بالفطنة العسكرية مثلما أكده في شهادته المجاهد عمايري، حيث قال بأن التعليمات بتفادي المعارك، كانت أيضا باعتبار طبيعة المنطقة شبه الصحراوية بضواحي جنوب الأوراس وبسكرة التي كانت مكشوفة وتصعب فيها المعارك المباشرة ،فكان تفادي تلك المعارك يعني تجنب الاستعداد الكبير الذي تحشده القوات الفرنسية برا وجوا لمحاربة المجاهدين.
ويتذكر المجاهد عمايري أن سي الحواس كان يلقي باللوم على المسؤولين السياسيين، خاصة في عدم التقرب من الشعب وترك الفرصة لفرنسا باستمالة جزائريين لخدمة مصالحها ضد الثورة و المجاهدين، ويتذكر أن سي الحواس قد عاتب مسؤولين عقب نجاح عملية كمين نفذها مجاهدون، كان من بينهم، كللت بالقبض على سبعة من «القومية» وهو ما جعل سي الحواس يطالب بالتقرب أكثر من الشعب، وقطع الطريق أمام فرنسا لتحريض الجزائريين ضد بعضهم البعض، ومن بين نصائحه شحذه للهمم بعد تراجع قوة فرنسا خلال الحكومة الخامسة.
نصب الكمائن أكثر نجاعة من المعارك المباشرة  
يقول المجاهد محمد عمايري أن جلَ المعارك التي شارك فيها خاصة الكبرى منها، كان سببها وشاية في أغلب الأحيان، وأكد بأن المعارك المباشرة قليلا ما كانت خيار قيادة المجاهدين إلا في حالات يكون فيها التحضير المسبق، وذلك لتفادي عدم توزان القوى بين المجاهدين وقوات العدو الفرنسي، وذلك تطبيقا لتعليمات قيادات جيش التحرير الوطني. وأبرز المعارك التي شارك فيها عمايري بعد التحاقه بصفوف جيش التحرير معركة تارشيوين بجبل أولاد سلطان في مارس سنة 1956، حيث تزامن ذلك وشهر رمضان، ويقول بأن سبب اندلاع المعركة كان   إثر وشاية من   جاسوس اندس وسط المناضلين والمجاهدين بجبل الرفاعة خلال تحضير سكان للطعام ووجبة السحور، حيث قام «الجاسوس» بالتبليغ عن مكان تواجد المجاهدين للسلطات الاستعمارية.
وقال محدثنا بأن فرنسا حشدت قوات كبيرة في اليوم الموالي من الوشاية بهم، وباغتتهم قبل التحضير الجيد للمواجهة، مشيرا لتواجد حوالي 40 مجاهدا بالمكان سقط منهم 18 شهيدا في ساحة المعركة بينهم أصدقاؤه، الشايب شريف المعروف ببركان المنحدر من حمام لحلوح بإشمول، وآخر يسمى كردودي من باينان، ورحماني من تكوت، وقال بأن المجاهدين كبدوا من جهتهم قوات الاستعمار خسائر بعد أن دامت المعركة طيلة النهار، وقد انتهت المعركة بحلول الظلام وتغيير بقية المجاهدين الذين كان بينهم الوجهة نحو نقاوس.
ويتذكر أن فرنسا قتلت حتى المدنيين الذين كانوا يبحثون عن جثث أهاليهم من الشهداء بعد نهاية المعركة، ومن بين المعارك التي قال المجاهد بأن سببها أيضا وشاية، هي معركة بلعلى بغسيرة، والتي أوضح بأنها عرفت مشاركة فيالق مجاهدين من أعراش غسيرة، بني بوسليمان و السراحنة وذلك في جوان 1957 ،حيث تمت محاصرتهم قبل الدخول في مواجهات دامت طيلة النهار واستخدمت خلالها فرنسا الطائرات إلى جانب قوات برية، وعرفت سقوط شهداء.
وفي معركة أخرى بمنطقة برقوق بباينان على المشارف الحدودية بين الأوراس وبسكرة وقعت معركة ضارية، شارك فيها المجاهد عمايري الذي كان مسؤولا عن قسمة بسيدي عقبة ومشونش، وكانت المعركة تحت قيادة سي الحواس، ويقول المجاهد  بأن هذه المعركة و خلافا لباقي المعارك لم تنتج عن وشاية، حيث اندلعت    بخيار من المجاهدين بعد اجتماعهم من مختلف المناطق تحت قيادة سي الحواس، ويقول محدثنا  بأنه حينها أعطي لهم الضوء الأخضر من طرف القائد رمضان حسوني بإطلاق النار نحو الطائرات التي تحوم بالمكان، وهو ما حدث فعلا بعد استطلاع طائرتين، اتخذت القيادات المجتمعة حينها  قرارا بعدم تغيير المكان بعد تفطن القوات الفرنسية له، وقرروا الدخول في معركة في حال تعرضهم للهجوم. وكانت فرق المجاهدين المجتمعة آنذاك –يضيف المجاهد عمايري- قد أتت من الجنوب من واد سوف بعد أن تركوا قوافل الجمال بزريبة الوادي، وجاء آخرون محملين بالسلاح من تونس بالإضافة لقسمات مشونش ليشرع المجاهدون في حفر خنادق تحسبا للمعركة، معتبرين توافد والتقاء المجاهدين فرصة لخوضها، حيث كان هو رفقة المجاهد بن براهيم بويخف والطبيب سي الطيب ملكمي قبل اندلاع المعركة وأكد بأنها كللت بإصابة طائرة اضطرتها لتحط في بسكرة بعد أن خرج منها الدخان وأكد بأنها لم تكلل بخسائر وسط المجاهدين فيما عدا إصابة واحد منهم فقط وهو ما أثلج صدر سي الحواس.
وقال المجاهد عمايري، بأنه شارك في نصب كمائن عدة كللت بالنجاح على غرار القبض على 07 من «القومية» بمنطقة الدروع سنة 1958بالتنسيق مع المناضلين الذين أكد على دورهم الهام في تنفيذ المجاهدين لعملياتهم، وفي مهاجمة ضابط واثنين من القومية بسوق جمورة في ذات السنة، وفي مهاجمة حافلة على متنها عشرات العساكر الفرنسيين وأكد بأن عمليات نصب الكمائن كانت تأتي بنتائج أحسن من المعارك المباشرة.
يـاسين عبوبو

الرجوع إلى الأعلى