د. علاوة عمارة

كما رأينا في منشورات سابقة، فإن هجومات 20-21 أوت 1955 تندرج في استراتيجية ثورية واضحة تهدف بالأساس إلى ربط الشعب بالثورة وإبعاده عن المناورات الاستعمارية التي بدأ الجنرال بارلونج (Parlange) في تطبيقها في الأوراس بعدما بعث القائد البشير شيهاني «الشيخ مسعود» ليوسف زيغود باستراتيجية مواجهة الخطة الجهنمية للسلطات الاستعمارية الهادفة لعزل الثورة سياسيا و إبعاد الشعب عنها. وفي هذا الإطار خططت قيادة الشمال القسنطيني لاستهداف شخصيات سياسية و إصلاحية في مدينة قسنطينة محسوبة على التيارات المشكوك في الاتصالات التي ينوي جاك سوستال القيام بها لحملها على التنديد بــــ»العنف»: فدرالية المنتخبين وحزب البيان وجمعية العلماء المسلمين الجزائريين، وعلى هذا الأساس تم التخطيط لاستهداف الصيدلي علاوة عباس عن حزب البيان الجزائري والشريف بن الحاج سعيد محامي وعضو المجلس الجزائري والشيخ عباس بن الشيخ الحسين عن جمعية العلماء المسلمين الجزائريين ومحمد الصالح بن جلول والمحامي بن أحمد عن فدرالية المنتخبين والشيخ عبد العالي لخضري والقاضي بول (Le juge Paul). والهدف هو القضاء على سياسة جاك سوستال الهادفة للتفاوض المحتمل مع الطبقة السياسية لعزل الثورة شعبيا، وهذه التعليمات جاءت من البشير شيهاني إلى يوسف زيغود:
Liquider toutes les personnalités qui voudraient jouer à l’interlocuteur valable.
وهي الرواية التي يقدمها لخضر بن طبال الذي يضيف أيضا أنه من الأسباب الرئيسية لهذه الهجومات هو تململ الشعب من نشاط جيش التحرير الوطني، وكان لا بد من هجومات قوية لها وقع نفسي لرفع معنويات الشعب، وتبليغ رسالة إلى مختلف مناطق الثورة الأخرى بإمكانية شن هجومات واسعة في وقت واحد، وأخيرا الخروج من العزلة التي تعاني منها منطقة الشمال القسنطيني.
إن قرار شن هجومات شعبية في وضح النهار بمشاركة شعبية ريفية يعود إذا إلى قيادة الشمال القسنطيني وتحديدا قيادة الناحية الوسطى المعروفة بقيادة السمندو التي يشرف عليها يوسف زيغود «سي أحمد» مباشرة والمتشكلة من نائبيه على الناحية الأم – السمندو وهما محمد الصالح بلميهوب وبولعراس بوشريحة «الشيخ»، وقائد ناحية قالمة عبد السلام بخوش «سي الساسي» ونائبه عمار بوضرسة، وقائد ناحية سكيكدة سماعين زيغد ونائبه عمر طلاع «بوالركايب»، قبل أن تعمم الفكرة على لخضر بن طبال قائد الناحية الغربية وعمار بن عودة قائد الناحية الشرقية، بالإضافة إلى مشاركة عمارة العسكري المدعو بوﭬلاز قائد ناحية الطارف في اجتماع كدية داود بجبل الزمان غرب سكيكدة، وفق شهادتي لخضر بن طبال والشاذلي بن جديد. لكن عمليا، كان مركز ثقل هذه الهجومات هي المنطقة الوسطى التي يشرف عليها يوسف زيغود مباشرة من قالمة إلى حدود القرارم وصولا إلى سكيكدة و القل وضواحيها، في حين كانت مشاركة الناحية الشرقية و الغربية محدودة جدا باستثناء قطاع الميلية الذي أشرف على هجوماته الناجحة سي مسعود بوعلي. بل إن هجومات الناحية الغربية (الميلية) وبعض البلدات الواقعة إلى الشمال الشرقي من قالمة وعزابة لم تكن شعبية، بمعنى لم يتم فيها إشراك الشعب في الدواوير و البلدات في العمليات و رفع العلم والتكبير «الله أكبر» وغيرها، لهذا فإن هجومات 20 أوت 1955 الشعبية كانت مقتصرة على الناحية الوسطى التي يشرف عليها يوسف زيغود بنفسه بقطاعاتها الأربع (السمندو الغربي، السمندو الشرقي، سكيكدة-القل، وادي زناتي-قالمة)، ولم يحدث ما يماثلها في الناحية الشرقية التي يقودها عمار بن عودة ولا في الناحية الغربية التي يشرف عليها لخضر بن طبال، حيث تمّ الاكتفاء بهجومات عسكرية وكمائن وتفجير قنابل تقليدية في نفس التوقيت بمشاركة عناصر جيش التحرير والمسبلين فقط كما هو الحال في عزابة أو السطارة (Catinat) وعين قشرة، وذلك بإشراك الجنود والمسبلين فقط دون الشعب. ومن الهجومات الشعبية التي شُنت على يومين نجد ما وقع في ناحية ماونة التي كانت تحت قيادة عمار بوضرسة.


عمار بوضرسة يشرف على هجومات ناحية قالمة
عيسى بوضرسة الشهير باسم «سي عمار» من مواليد 13 نوفمبر 1911 بمشتة شرشار بدوار الصوادق التابع لبلدية كندي السمندو- زيغود يوسف حاليا- تقاسم النضال السياسي والثوري مع يوسف زيغود، وارتبط معه اجتماعيا بعدما تزوج بأخته من أمه «زبيدة بوضرسة». كان عمار بوضرسة المشرف على النظام الحزبي في دواره الأصلي «الصوادق» منذ عام 1943 وترأس قائمة حركة انتصار الحريات الديمقراطية (MTLD) في الانتخابات البلدية التي جرت في أكتوبر 1947 حيث كان يوسف زيغود أحد أعضائها، واشتهر بثقله النضالي في مكتب قسمة السمندو، قبل أن يصبح بداية من جويلية 1954 أحد قادة النظام الثوري في الحروش، ويتولى قيادة واحدة من المجموعتين المكلفين بنشر الثورة في الشرق القسنطيني وصولا إلى ناحية سوق أهراس بعد منتصف نوفمبر 1954. وبعد إعادة هيكلة الناحية الوسطى في مارس 1955، تولى نيابة عبد السلام بخوش «سي الساسي» في قيادة ناحية قالمة.
تقاسم كل من عبد السلام سي الساسي القسمطيني قائد ناحية قالمة ونائبه عمار بوضرسة عملية تنظيم الهجومات في منطقة جغرافية واسعة جدا. فقد أسندت للأول عملية تنظيم هجومات بلدات وادي زناتي وبيزو والحروش بإشراك سكان الدواوير. أما في ما يخص عمار بوضرسة، فقد أسندت إليه عملية الإشراف على الهجومات على مدينة قالمة وعلى بلدات عين العربي (Gounod) وحمام المسخوطين (دباغ) والركنية.
تعطي لنا شهادة المجاهد بشير غانم «حمدان التيقو» الذي كان كاتبا لعمار بوضرسة في الفترة الممتدة من نهاية مارس 1955 إلى ديسمبر 1956 معلومات مهمة عن مشاركة عمار بوضرسة في الاجتماع التحضيري لشن هجومات 20 أوت 1955. فبحسب هذه الشهادة فقد كُلّف عمار بوضرسة بالإشراف على هجومات بلدات الركنية وحمام المسخوطين (دباغ) وعين العربي (Gounod) ومدينة قالمة، حيث عاد برفقة أفواجه إلى ناحيته، وبمجرد وصوله إلى دوار أولاد احبابة، أخبر المجاهدين بهدف الهجومات وأعطى التعليمات الأساسية وقام بتوزيع المجاهدين المكلفين بالإشراف على الهجومات كما يلي:
مجموعة قالمة: ويقودها عمار بوضرسة شخصيا ومعه خصوصا عبد الوهاب زادي «الشريف» وعدد من المجاهدين، ومهمتها تعبئة المسبلين والشعب لمهاجمة المراكز الأمنية والإدارية داخل مدينة قالمة.
مجموعة عين العربي (Gounod): يقودها عبدي مبروك بمساعدة الطاهر دحمون ومعهما خصوصا محمد بوحافة من  (Gastonville)صالح بوالشعور حاليا.
مجموعة الركنية: بقيادة عبد الباقي شوشان.
مجموعة حمام المسخوطين (دباغ): يقودها المختار ثابت «سي بوجمعة القسمطيني»، ومعه العيد خنة وبشير غانم «حمدان التيقو» والسعيد سوداني وعمار بوشامة «الراهم» و علي قربوع «علاوة» والسعيد دماغ العتروس الذي كُلف برفع العلم.
جرت هجومات الركنية وحمام المسخوطين في 20 أوت 1955 في حين نظمت هجومات قالمة وعين العربي في اليوم الموالي بقرار من المشرف عليها عمار بوضرسة. كان هجوم الركنية بقيادة عبد الباقي شوشان وبمشاركة سكان الدواوير المجاورة، حيث شنوا هجوما في الساعة الثانية عشر وربع زوالا، وتمكنوا من اختراق البلدة وحرق منازل وممتلكات المعمرين وحدثت اشتباكات مع الجندرمة إلى غاية الساعة الثالثة بعد الظهر وأسفرت عن استشهاد ثلاثة مهاجمين. أما فيما يخص هجوم حمام دباغ الذي قاده المختار ثابت «سي بوجمعة القسمطيني» فقد أدى إلى مقتل أوروبي واستشهاد مجاهدين بينهما علي قربوع «علاوة». وتتقاطع شهادة بشير غانم مع تقرير الشرطة القضائية بقالمة رقم 2740 المؤرخ في 14 سبتمبر 1955 وتقرير نفس الجهة رقم 3887 المؤرخ في 26 نوفمبر 1955 حول قيادة سي بوجمعة القسمطيني لهذا الهجوم بناء على الاعترافات المنزوعة تحت التعذيب من بعض المشاركين على غرار صالح يحمدي ورابح سطحة. وتبين من هذه التحقيقات أن السعيد ﭬريني بن عمار الذي استشهد في 17 نوفمبر 1955 هو الذي قام بتصفية المعمر روغي (Rohrer) خلال الهجوم على حمام المسخوطين، مع إشارة التقرير إلى أن فوج سي بوجمعة القسنطيني هو واحد من أفواج الفرقة التي يقودها خميسي فلكاوي تحت إشراف وقيادة عمار بوضرسة. و حسب نفس التقرير فقد أشرف عمار بوضرسة برفقة سي بوجمعة القسمطيني على تنظيم الهجوم، حيث جمع هذا الأخير المجاهدين والمسبلين خصوصا من مشتة الرﭬوبة وشعبة خليفة بدوار الطاية ومشتة بسوس من بلدية عين حساينية (Clauzel)، في بوعشايق على بعد 1 كلم من بلدة حمام المسخوطين. ومن بين الشهداء أيضا موسى سطحة بن صالح.
هجوما قالمة وعين العربي لم يؤجلا بل برمجا يوم 21 أوت 1955
على عكس ما هو شائع اليوم، لم يتم تأخير هجومي مدينة قالمة وعين العربي إلى يوم 21 أوت لأسباب لوجستية متعلقة بتأخر وصول عمار بوضرسة والمجاهدين الذين معه، وإنما بتخطيط مسبق لهذا التاريخ مرتبط بشكل أساسي بانعقاد السوق الأسبوعي بقالمة يوم الأحد من جهة ومن جهة ثانية حتى يتفرغ عمار بوضرسة للإشراف على تنظيم هجومات البلدات الأخرى المكلف بها. فقد ورد في التحقيق مع صالح دحمون الذي أُسر في الهجوم بأن عمار بوضرسة اتصل به في 15 أوت عند تواجده بدوار القرار عند صهره، حيث تلقى تعليمات تطلب منه الحضور يوم الأحد 21 أوت في الساعة الثالثة في شعبة عين الدفلة بعدما سلمه مسدس وأمره بإحضار فوج من المسبلين للهجوم على مدينة قالمة، وهذا ما حصل.
تأتي شهادة المجاهد شعبان أومدور المدعو سي صالح التي دونها في مخطوطة مذكراته لتعطي لنا تفاصيل تحضير الهجومات في ناحية ماونة تحت قيادة عمار بوضرسة التي جرت في 21 أوت 1955 وفسّر ذلك بتأخر التحضيرات لهذه الهجومات، لكن يبدو لي أن سبب تأخير الهجوم مرتبط بيوم السوق الأسبوعي بمدينة قالمة الذي هو يوم الأحد و ليس يوم السبت، حيث يسهل من مهمة دخول المهاجمين. انعقد الاجتماع بمنزل السعيد مدور بعين السانية بماونة عند المدادرة وترأسه سي عمار بوضرسة بحضور عدد من المجاهدين بينهم البشير بوقدوم وعبد الوهاب زادي «سي الشريف» وعبدي مبروك والطاهر دحمون وعثمان مدور وشعبان مدور «سي صالح» والكبلوتي بن الشيخ و تم خلال الاجتماع تكوين مجموعتين الأولى خصصت لبلدة عين العربي بقيادة عبدي مبروك و مساعدة الطاهر دحمون، و ذلك بجمع سكان شنيور في مشتة دافال لتكون الانطلاقة إلى البلدة المقصودة في الساعة العاشرة صباحا.
أما المجموعة الثانية يقودها عمار بوضرسة بنفسه، وذلك بتجميع الثوار في مشتة المدودة، وتكون الإنطلاقة على الواحدة زوالا باتجاه مدينة قالمة. وقد حددت أهداف الهجوم على مدينة قالمة كما يلي: مقر الدائرة، مقر الجندرمة، دار البلدية، مخفر الشرطة وثكنة الجيش. وهذه رواية الهجوم كما دونها المجاهد سي صالح مدور بنفسه:

«أما أنا رفقة قيادة سي عمار بوضرسة فقد دخلنا مدينة قالمة، قد كنت سبقتهم، معي سي مجلخ مولود، والتقينا في شعبة الحاج مبارك، و رغم حالة الطوارئ واستعداد قوات العدو إلا أننا تمكنا من توزيع الجاهدين على الجهات المختلفة، واتفقنا على الوصول إلى باب السوق، كان الوقت ظهرا، و كنا في أفواج صغيرة... أخذنا بسرعة في إطلاق الرصاص، الرصاص من كل جهة على المراكز المحددة. توجهت أنا والمجموعة معي بالهجوم على دار رئيس الدائرة (مقر الدائرة) كنت أحمل مسدسا أتوماتيكيا، هجمنا على مركز الحراسة في مدخل الدائرة، أحاطت بنا سيارات الجيب والمصفحات... و أثناء تبادل النار وجها لوجه، أصيب أحد زملائي (البشير بوقدوم) برصاصة في فخذه، جريت له حملته و أخرجته، و واصلت المشي به إلى خارج المدينة جهة مرابط مسعود، ربطت جرحه و واصلت حمله على كتفي مرة، ومرة كان يمشي على رجل واحدة. حاصر العسكر المدينة، وأخذ في الانتقام و التقتيل بصورة عشوائية، أخذت قوات العدو و أعوانها في تمشيط أحياء المدينة بقالمة، و لم يتمكن بعض المجاهدين من الخروج من حصار المدينة، وهنا اصطدم ابن عمي المجاهد مدور مختار المدعو عمار، اصطدم بالعدو وتبادل معهم طلقات النار، فجرح ولم يستطع الهروب، فألقي عليه القبض كما جرح المجاهد صالح دحمون جرحا عميقا وألقي عليه أيضا القبض، وبقي كل منهما في السجن إلى غاية الاستقلال مع عدد آخر من المناضلين.»
التقرير الأولي للسلطات الأمنية الاستعمارية عن العملية جاء فيه أن الوحدات الأمنية والعسكرية وُضعت في حالة تأهب كبيرة في يوم 21 أوت 1955 بعد ورود معلومات مؤكدة في منتصف النهار عن نية سكان المناطق المجاورة يؤطرهم جيش التحرير الوطني شن هجوم ضد مدينة قالمة. وكما كان متوقعا، فقد بدأ هجوم شارك فيه ما بين 200 و250 شخصا بقيادة عمار بوضرسة، حاملين أسلحة حربية و بنادق صيد و مسدسات، حيث اخترقوا المدينة من جنوبها، لكنهم تراجعوا بسرعة أمام الكثافة النارية للقوات الأمنية والعسكرية، حيث تواصلت عملية تمشيط الشوارع و المنازل إلى غاية الساعة التاسعة ليلا. و أسفرت العملية بحسب تقارير السلطات الاستعمارية عن استشهاد 50 مسبلا ومدنيا مقابل مقتل معمر أوروبي واحد.
إذا كان شعبان أومدور «سي صالح» لا يتحدث عن إصابة عمار بوضرسة في الهجوم، فإن بشير غانم «حمدان التيقو» يؤكد على إصابته بجروح في يده ووجهه نتيجة تطاير حجارة أحد الأسوار التي استهدفتها مدرعة فرنسية.
بالنسبة لبلدة عين العربي الذي قاده مبروك عبدي تحت إشراف عمار بوضرسة، يروي تقرير الشرطة القضائية بقالمة تحت رقم 2710 بتاريخ 11 سبتمبر 1955 تفاصيل العملية بناء على معلومات استخباراتية وتحقيقات معمقة مع الموقوفين.
فبحسب هذه التحقيقات الأمنية، فقد قاد -كما ذكرنا- مبروك عبدي وهو من دوار المدودة الهجوم، حيث كان مجهزا بسلاح رشاش. ففي 21 أوت بعد الظهر طاف في دواري المدودة وشنيور برفقة مناضلين، حيث دعا الناس خصوصا المعروف بانتمائهم النضالي للتيار الاستقلالي للاستعداد لمهاجمة بلدة عين العربي، وحدد لهم عدة نقاط للتجمع قرب البلدة خصوصا على مقربة من المقبرة. وساعده في الدعاية كل من براهيم سعيدي بن محمد ومبروك نقيب بن البشير من دوار المدودة وأحمد براوي بن محمد من دوار شنيور لتحضير السكان للهجوم، مع استعمال كلمة السر: الأوراس وخنشلة لكل من تمّت تعبئته. وجرى تقسيم المشاركين إلى أفواج بحسب سكنهم: فقد قاد عبد الله سحران فوجا نجد فيه خصوصا حسين سحران بن علي ومحمد سحران بن خميسي وعبد الله بركان بن محمد ومحمد الصالح طلحي بن محمد، وباشا بوعمين بن جمعي والتوهامي بوعمين بن بلقاسم وقادة بن صالح بن عمار ومحمد فركوس بن عمار.
في صبيحة الهجوم، وصلت معلومات إلى جندرمة عين العربي (Gounod) مفادها استعداد سكان دواري المدودة وشنيور للهجوم على البلدة، فاستعدت للعملية، وذلك بتجميع السكان الأوروبيين والقايد ومعه بعض الموالين في دار الجندرمة. فكان الهجوم في هذا اليوم 21 أوت 1955 في الساعة الخامسة مساء بمشاركة 150 مهاجم معظمهم يحمل بنادق صيد وشواقير وعصي وعدة أدوات حادة، حيث دخلوا إلى البلدة من اتجاهات مختلفة، وقاموا بإحراق أكوام التبن في مدخل البلدة واقتحموا مساكن المعمرين فرديناند رامبوز (Ferdinand Ramboz) وليشوفونتش (Lechevantch) وقاموا بحرقها بما في ذلك منزل يمتلكه أحد التجار الميزابيين. وجرى تبادل لإطلاق النار مع الجندرمة، وبقيت الأفواج مسيطرة على البلدة إلى غاية انسحابها في حدود الساعة الثامنة ليلا، حيث عجزت فرقة الجندرمة عن الخروج وصد الهجوم وتحصنت داخل المبنى.
انتصار استراتيجي وحدث مفصلي في تاريخ الثورة
حقق شن هجومات واسعة على أهداف أمنية ومدنية في نفس التوقيت وهو 20 أوت 1955 في الساعة الثانية عشر زوالا وفي 21 أوت بالنسبة لمدينة قالمة وبلدة عين العربي نجاحا لافتا وكان له دورا محوريا في توسيع رقعة الثورة في الشمال القسنطيني خصوصا وأنّ القوات الفرنسية بدأت في عملية الانتشار الميداني بعد تثبيت وحدة للقوات الخاصة بقيادة الكولونال ديكورنو (Ducourneau) ببلدة الحروش، وهو ما أربك السلطات الاستعمارية ونلمسه خصوصا بالنسبة لبلدة السمندو في طلب المجلس البلدي في جلسته ليوم 25 أوت 1955 توفير آليات مدرعة للكتيبة الأولى من الفرقة الرابعة (1/4 RIC) المنتشرة بالبلدة لضمان حماية فعالة خوفا من تكرار الهجوم.
لقد اعترفت نشرية المكتب الثاني في القوات الاستعمارية بمقاطعة قسنطينة الخاصة بشهر أوت 1955 بنجاح هجومات 20 أوت 1955 في المنطقة الممتدة ما بين قالمة والميلية مع قوتها بشكل واضح على المحورين الممتدين ما بين قسنطينة وسكيكدة من جهة وقسنطينة ووادي زناتي من جهة ثانية مع تسجيل نجاح قيادة الشمال القسنطيني في تقوية جيش التحرير الوطني بمئات المقاتلين الجدد، كما اعترفت بأن هذا اليوم يمثل نقطة تحول في تاريخ الشمال القسنطيني، بل اعتبرته فضاء خارج السيطرة خصوصا في ناحيته الوسطى التي كانت المسرح الأساسي للعمليات. وهي النتيجة ذاتها التي توصل إليها جهاز استخباراتي آخر وهو مركز الاتصالات والاستغلال الذي جعل من 20 أوت 1955 تحولا مفصليا في تاريخ الثورة التحريرية.
في المقابل أقدمت قوات الاحتلال على ارتكاب مجازر كبيرة في ناحية سكيكدة وإبادة تسع مشاتي في المنطقة الواقعة بين السمندو وعزابة وعين عبيد منها مشتة الكرمات في دوار الخرفان التي ورد اسمها في بيان الحكومة العامة الذي نشرته جريدتا لوموند (Le Monde) والبرقية القسنطينية (La Dépêche de Constantine) في 23 أوت 1955 الذي تغنى بعمليات «سحق» مشاتي الثورة وفق تعبيرها.
لكن رغم كل ذلك فإن هجومات 20-21 أوت 1955 حققت أهدافها من الناحية الاستراتيجية لأنها قضت على سياسة الحاكم العام جاك سوستال (Jacques Soustelle) وحولت الثورة من المرحلة النخبوية أي من مناضلي الحزب الاستقلالي (PPA-MTLD) إلى ثورة شعبية حقيقية، كما أنها تزامنت مع هجومات شاملة في المغرب بمناسبة الذكرى الثالثة لنفي الملك.


في دراسة أعدها مركز الاتصالات والاستغلال (CLE) التابع لهيئة قيادة الأركان المشتركة لقوات الاحتلال بالشرق الجزائري وتخص تطور الثورة التحريرية في الفترة الممتدة ما بين 1954 و1957، نجد اعتبار 20 أوت 1955 تحولا مفصليا لأن الثورة انتشرت وأخذت طابعا شعبيا بداية من هذا التاريخ لتشمل كل الشمال القسنطيني في نوفمبر 1955. وهنا يعتبر التقرير بأن الثورة أطرتها سياسيا مجموعات تنحدر من الحزب الاستقلالي الذي أسسه مصالي الحاج، لكن على المستوى النفسي والديني تهيئت بفضل مجهودات العلماء وعلى الصعيد العسكري لاحظت تدخل «مصالح خارجية من الشرق الأوسط».
وآخر ما نختتم به هجومات 20-21 أوت 1955 هو مقتطفات من بيان قيادة الثورة في الشمال القسنطيني حيث اعتبرت «يوم 20 أوت هو استعراض قوي موجه ضد الاستعمار وأذنابه ولكل العالم بأن الحركة الثورية المستمرة منذ أول نوفمبر 1954، ليست من صنع «العصابات» وإنما هي نابعة من صلب الشعب الذي يريد تحرره بكل التضحيات... تحيا الجزائر حرة ومستقلة ويحيا جيش التحرير الوطني».

الرجوع إلى الأعلى