يكشف المؤرخ  الدكتور علاوة عمارة أنه تمكّن من جمع عشرات الآلاف من الوثائق أغلبها من الأرشيف الذي تحتفظ به فرنسا عن مختلف مراحل الكفاح ضد الاستعمار، تتعلق بمنطقة الشمال القسنطيني بالدرجة الأولى والأوراس بدرجة أقل،  مشيرا في حوار للنصر أن فرنسا تحتفظ بجزء هام جدا من الأرشيف الخاص بالفترة الاستعمارية بعضه مغلق مدى الحياة سيما ما تعلق بالتجارب النووية.

- حاورته : نرجس كرميش
و قال الباحث إن تاريخ حوض السمندو وبعض قادته  يفتقر لدراسات جادة ما جعله يتخصص فيه، معلنا أنه يبحث منذ أزيد من  تسع سنوات إلى جانب مؤرخ آخر  في حياة الشهيد الرمز زيغود يوسف ما سيمكن من إسقاط الكثير من روايات الحكواتيين و يضع البطل  في سياقه التاريخي بوثائق تكشف لأول مرة.
علاوة عمارة الذي خص النصر منذ سنتين بوثائق ومعلومات تنشر لأول مرة حول مؤتمر الصومام، قال أن الخلافات حول المؤتمر كانت مع قيادة الثورة في الخارج، التي كانت ترى نفسها صاحبة السلطة العليا، و أن ما يروى حول هذا المؤتمر مبالغ فيه، كما يرى بأن البعض يقرأ الأحداث التاريخية بخلفية ويضخم شخصيات دون أخرى.
المؤرخ يعتبر أن المذكرات تدخل في خانة الرواية في جزء منها وبعضها مجرد وسيلة لتصفية حسابات لذلك فإن الأخذ بها و بالشهادات يتطلب تمحيصا.
* النصر / يعد الدكتور علاوة عمارة من المؤرخين القلائل الذين يشتغلون على الأرشيف الجزائري في فرنسا، متى بدأت أبحاثك ومن أين انطلقت؟
  د. علاوة عمارة / بداية أود شكركم على اتاحة الفرصة للحديث عن جزء من أبحاثي بمناسبة الذكرى 66 لاندلاع الثورة التحريرية منوها في الوقت ذاته بالأهمية التي توليها جريدة النصر للتاريخ الوطني. بدأت في جمع وثائق الأرشيف بعد مناقشتي لرسالة دكتوراه في التاريخ الوسيط والحضارات بجامعة السوربون-باريس الأولى في عام 2002، حيث لم أكن في البداية متخصصا في التاريخ المعاصر، لكن رغبتي القوية في كتابة التاريخ المحلي لحوض السمندو والشمال القسنطيني بصفة عامة شكلت لي دافعا في هذا الخيار بعدما لاحظت افتقار الساحة العلمية لدراسات جادة في هذا المجال. بجانب أبحاثي (كتب ومقالات في مجلات علمية وكتب جماعية وعروض نقدية) في التاريخ الوسيط الصادرة -خصوصا في أوروبا- و التي تجاوز عددها الآن حاجز المائة باللغات الفرنسية و العربية و الإسبانية و الإنجليزية، بدأت في ترجمة بعض الدراسات المرجعية من اللغة الفرنسية إلى اللغة العربية كانت أولها دارسة عن ميناء بجاية في نهاية العصر الوسيط للباحث الفرنسي دُمنيك فاليريون و التي نشرها المجلس الأعلى للغة العربية في عام 2014 وتقع في 1000 صفحة. عكفت بعد هذه الفترة على تحرير أبحاثي المخصصة لتاريخ حوض السمندو، بداية بتاريخ منطقة بني حميدان الذي صدر في جزأين بمناسبة تظاهرة قسنطينة عاصمة الثقافة العربية في عام 2015، و بعدها نشرت الأبحاث المتوالية على غرار «المسيرة النضالية و الثورية للشهيد القائد محمد الصالح ميهوبي المعروف ببلميهوب (2016) و»من السمندو إلى مليانة: مذكرات محمد الطيب العلوي المعروف بالشيخ المدير» الصادرة في السنة الموالية، و قريبا دراسة جديدة عن الشهيدين القائدين عمار وعلاوة بوضرسة ونشر ودراسة مذكرات المجاهد الراحل محمد العربي حمودي الشهير بالحاج بوبغل. إن اعتمادي على الأرشيف في مختلف المراحل التاريخية هو راجع بالأساس إلى المقاربات المنهجية التي أطبقها حيث لا تنطلق من المسلمات و تعتمد على تحليل خطاب الذاكرة وتفكيك سردياتها، وهو ما يجعلني أرجع إلى الأصول بمعنى الوثائق بمختلف أنواعها، مما دعاني إلى جمع عدد كبير جدا يقدر بعشرات الآلاف منها من مراكز الأرشيف و مختلف أماكن تواجد الوثائق بما في ذلك دور الأرشيف العمومي و الخاص بالجزائر وخصوصا بالأرشيف الفرنسي المدني منه أو العسكري.


* ما الذي يمكن أن يقدمه استرجاع الأرشيف لعملية كتابة تاريخ الجزائر؟ وهل لاحظت أثناء أبحاثك تعمّد عدم عرض وثائق معينة ضمن ما هو مفتوح للاطلاع للمختصين و المؤرخين؟
لا يمكنني الخوض في مسألة استرجاع الأرشيف بالصفة الرسمية بحكم الاختصاص بما أن مركز الأرشيف الوطني و وزارة المجاهدين يتابعان هذه العملية منذ فترة طويلة. ما أعرفه من خلال تعاملي مع مختلف الأرصدة الأرشيفية أن هناك نقل للعديد من المجموعات الوثائقية من مصالح أرشيف العمالات والحكومة العامة قبل وقف اطلاق النار في 19 مارس 1962 وبعده وهي الآن غير مرتبة و موجودة بالأرشيف الوطني لما وراء البحار بآكس-أون-بروفونس (ANOM, Aix-en-P* ovence). كما أن جزءا من الأرشيف الذي صنّف في خانة «الأرشيف العملياتي» بقي في الجزائر بما في ذلك أرشيف الشرطة (ما عدا كوميسارية تبسة) و الجندرمة والمصالح الإدارية المتخصصة (SAS) و أرشيف المديريات التنفيذية و البلديات ذات الصلاحيات التامة (CPE)، حيث اعتمدت على أجزاء منها في أبحاثي، هذا بالإضافة إلى مصالح الأرشيف التي كانت متواجدة في العمالات حيث يتوقف رصيدها بصفة عامة عند عام 1953، وهي التي تحولت إلى مديريات الوثائق بعد الاستقلال. تبقى الأرصدة التي صنفتها سلطات الاحتلال في خانة «الأرشيف السيادي» ونقلتها بشكل كلي إلى فرنسا بعد توقيف القتال، هامة جدا لكتابة التاريخ الوطني على غرار الأرشيف العسكري (الناحية العسكرية العاشرة) المحفوظ خصوصا بالمصلحة التاريخية للدفاع بقصر فانسان (SHD-Château de Vincennes) و أرشيف الحكومة العامة و المحافظات و الدوائر و البلديات المختلطة أو حتى أرصدة الوزارة المنتدبة المكلفة بالجزائر ووزارة الداخلية الفرنسية بباريس المحفوظ بالأرشيف الوطني لما وراء البحار بآكس أون بروفونس(Anom)  أو الأرشيف الدبلوماسي المحفوظ بلاكورنوف (La Cou* nneuve) أو نانت (Nantes) وغيرهما. من المؤكد أن الاطلاع على هذه الأرصدة بفرنسا يخضع لنص المادة L211-4 من قانون التراث (Code du pat* imoine) وهو ما تستغله السلطات القائمة عليه في تحديد الأرصدة والوثائق التي يسمح بالاطلاع عليها دون قيود أو بقيود، فعلى سبيل المثال ما زال رصيد الشرطة القضائية (La police judiciai* e) يخضع لهذا النوع من القيود وأيضا الأرصدة الخاصة بالمحاكم العسكرية وغيرها. صحيح أن السلطات الفرنسية فتحت العديد من الأرصدة بمناسبة الذكرى 50 للاستقلال الوطني، لكن تبقى أرصدة هامة جدا غير متاحة إلا بعد مرور 75 سنة لبعضها و100 سنة للبعض الآخر أو مدى الحياة لبعض الأرصدة على غرار وثائق التجارب النووية. إن المشتغل على الأرشيف يلاحظ غياب بعض الأرقام التسلسلية في بعض الأرصدة وهذا في إطار تطبيق القانون المذكور، مما يطرح اشكالا عن سبب اقصائها من المجموعة دون معرفة المبررات الحقيقية، وهو ما دفع العديد من الباحثين الفرنسيين في الآونة الأخيرة إلى امضاء لائحة تطالب بوضع هذا النوع من الوثائق في متناول الدارسين. وهنا تجب الإشارة إلى الظروف الملائمة التي يجدها الباحث عند قيامه بأبحاثه في دور الأرشيف الفرنسية المدنية منها أو العسكرية والمساعدة التي يتلقاها من القائمين عليه، خصوصا عندما يتعلق الأمر بالباحثين المتمرسين.
* نلاحظ من خلال كتاباتك وإصداراتك أنك مهتم بالمنطقتين التاريخيتين الأولى والثانية وبقياداتهما؟ لماذا هذا الاختيار؟ هل لأن الناحيتين وخاصة الشمال القسنطيني، ظلمتا من حيث التوثيق والتأريخ؟
اهتماماتي منصبة أساسا على المنطقة الثانية-الشمال القسنطيني التي كان السمندو محورها الرئيسي. كانت البداية مركزة على الناحية قبل توسيعها تدريجيا لتشمل كامل الشمال القسنطيني-الولاية الثانية، وهي تفتقد لدراسة مرجعية مقارنة بالولاية الأولى أو الثالثة على سبيل المثال. أما فيما يخص اهتمامي بالمنطقة الأولى الأوراس، فراجع بالأساس إلى الارتباط النضالي المباشر للمنطقتين، فقد تتبعت نشاط المناضل العنابي البارز محي الدين بكوش عندما نفته السلطات الاستعمارية إلى أريس خلال الحرب العالمية الثانية وأيضا لجوء مناضلي الشمال القسنطيني إلى الأوراس بعد ملاحقتهم في إطار المنظمة الخاصة. أما فيما يخص تحضيرات الثورة، فقسم من الأسلحة المستعملة في هجمات أول نوفمبر جلبها مراد ديدوش من الأوراس. لكن الأهم في العملية هو عام 1955 وتولي البشير شيهاني المعروف بالشيخ وبسي مسعود لقيادة أوراس النمامشة وارساله لعدة أفواج لدعم الثورة في الشمال القسنطيني وتنسيقه للنضال مع يوسف زيغود وتبادل المراسلات والوفود. فلا يمكن في نظري دراسة الثورة في الشمال القسنطيني في عام 1955 دون التطرق للسياسة العبقرية للبشير شيهاني التي انعكست ميدانيا بشكل مباشر في المنطقة بما في ذلك الأمور التنظيمية وطرق مواجهة السياسة الاستعمارية.
* أعلنت أنك تشتغل بالتعاون مع الباحث رياض شروانة على مشروع كتاب حول الشهيد الرمز زيغود يوسف، أين وصل المشروع؟ وما الذي سيقدمه الكتاب خارج ما نعرفه عن زيغود القائد؟
بالفعل بدأنا في جمع المادة الوثائقية عن الشهيد القائد يوسف زيغود منذ أزيد من تسع سنوات، ولدينا اليوم عدد كبير جدا من الوثائق تغطي حياته من مولده إلى غاية استشهاده. انشغلت خلال هذه الفترة بإعداد دراسات خصصتها لقادة شهداء صنعوا مع يوسف زيغود مجد «جيش السمندو» على غرار محمد الصالح بلمهيوب وعمار وعلاوة بوضرسة، حيث همشتهم السرديات. إن المشروع الذي أعلنت عنه هو تخصيص كتابين أكاديميين في المستوى المطلوب للشهيدين القائدين مراد ديدوش ويوسف زيغود وربما أيضا البشير شيهاني الذي أعتبره أحد أكبر القادة المؤثرين في الثورة التحريرية حتى أكتوبر 1955، والهدف هو الكتابة التاريخية الموضوعية المعتمدة على الوثائق والشهادات المباشرة بعيدا عن مرويات الحكاواتيين.
* سبق و أن صرحت في إحدى محاضراتك أن هناك أخطاء كثيرة تروّج حول الشهيد البطل هلا ذكرت لنا أهمها؟
الدراسة التي نحن بصدد انجازها عن يوسف زيغود ستصحح دون شك مرويات الحكواتيين الرائجة بخصوص طفولته ودراسته وعمله كحداد ونضاله السياسي ثم الثوري. نحن بصدد تدقيق ذلك اعتمادا على مختلف الأرصدة الوثائقية وحتى ما دونه يوسف زيغود بنفسه في مفكرته الشخصية ووثائق كثيرة أخرى سنكشف عنها لأول مرة في الدراسة، لأن الكثير من المقولات أُلصقت به على غرار «نقل الخيانة إلى الأوراس» أو «تفضيل الشهادة على العيش حتى الاستقلال». كما أننا نهدف إلى وضع يوسف زيغود في سياقه التاريخي بعد أن بترته منه العديد من الأقلام بتهميش الرجال الذين اعتمد عليهم في النضال السياسي وفي تفجير ونشر الثورة في الشمال القسنطيني.

* من المحطات الهامة في تاريخ الثورة التي بحثت فيها مؤتمر الصومام ومن بين ما كشفته أن من شاركوا في جلساته الرسمية هم 6 قادة من مجموع 16 قائدا، وأن من اقترح عقد مؤتمر وطني هو زيغود يوسف، وقيادة الشمال القسنطيني التزمت بتنظيمه، لماذا كل هذه الاختلافات حول المؤتمر وملابسات عقده؟
كان لجريدتكم سبق نشر وثائق تحضير المؤتمر من خلال المقال الذي زودتها به في 20 أوت 2019، وهذه الوثائق تثبت بما لا يذع مجالا للشك أن فكرة عقد اجتماع قيادة الثورة تعود إلى لجنة الستة، غير أن هناك مساع  بدأها يوسف زيغود وقيادة الشمال القسنطيني في بداية 1956 بالتنسيق مع عبان رمضان. لكن تحضير الاجتماع الذي انعقد في ايفري أزلاقن وتوجيه الدعوات إليه كان أثناء زيارة عُمار بن بولعيد لمنطقة القبائل في شهر ماي 1956 واتفاقه مع كريم بلقاسم على عقده في 30 جويلية 1956 قبل أن يطلب من هذا الأخير تأجيله إلى 20 أوت 1956 بحجة المرض الشديد الذي كان يعاني منه شقيقه مصطفى. والاختلاف سببه الرئيس هو تباين وجهات النظر بين قيادة الثورة في الخارج التي كانت ترى في نفسها أنها صاحبة السلطة العليا وبين قيادات الداخل التي كانت تعاني من العزلة وقلة التسليح والتنسيق.
* أنت ممن يرون أن ربط مؤتمر الصومام بشخص عبان رمضان فيه مبالغة رغم الدور الكبير الذي لعبه، لماذا؟ وهل كان درور كريم بلقاسم وعُمار بن بولعيد و زيغود يوسف أهم؟
هناك من يقرأ الأحداث التاريخية بخلفية ويبالغ في تضخيم دور شخص ما، بل ويجعل منه إما مصدر مؤامرة أو العكس. عُمار بن بولعيد وهو أحد المحضرين له لم يحضر الاجتماع لأسباب مرتبطة بالخلافات داخل البيت الأوراسي-النمامشي، بل وسنجده ينحاز للمجموعة التي حاول أحمد محساس تأليبها ضد قرارات المؤتمر. إن قراءة شهادتي لخضر بن طبال واعمر أوعمران تؤكد على وجود انسجام بين المجتمعين مع دور فاعل خصوصا لمحمد العربي بن مهيدي وعبان رمضان وحتى كريم بلقاسم ويوسف زيغود، والمؤتمر تبنى مقترح وفد الشمال القسنطيني فيما يخص تنظيم مجالس الدواوير. هدف الاجتماع كان هو الدخول في المرحلة الثانية من الكفاح المسلح الذي يتطلب تنظيما جديدا، وهو ما تمّ من خلال استحداث هيئات قيادية جديدة على المستوى الوطني وعلى مستوى المناطق، ولهذا فإن المؤتمر شكّل حدثا مفصليا في تاريخ الثورة.
* الكثير من المؤرخين يعتبرون الخلافات التي ظهرت خلال مؤتمر الصومام بداية شرخ سياسي بين المناطق امتد إلى تأسيس الجزائر المستقلة؟ ولكنك ترى أن المؤتمر كان جامعا لا مفرقا، هلا وضحت أكثـر؟
ميلاد التيار الثالث المعروف بالحيادي كان نتيجة خلافات بين قادة الحزب الاستقلالي، وبالتالي فإن تباين الرؤى بين المناضلين لم يكن مرتبطا بحادث بعينه، وعليه فإن الحديث عن ظهور خلافات خلال مؤتمر الصومام فيه مبالغة، فالمشاركون الذين بقوا على قيد الحياة يؤكدون على الجو الودي الذي واكب أعماله. الخلاف كان بعد المؤتمر وليس قبله وارتبط أساسا مع قيادة الثورة في الخارج بعد استحداث هيئات قيادية جديدة متميزة بتموقع شخصيات مركزية فيها، وهذا دون مشورتها. وأعتقد أن المؤتمر كان جامعا للثورة في الداخل رغم إثارته لأول انقسام قيادي بعد المعارضة التي أبدتها القيادة في الخارج -خصوصا أحمد بن بلة وأحمد محساس- من خلال تحريك قادة ناحية سوق اهراس و أوراس النمامشة لرفض القرارات المتخذة.
* ما رأيك في السجال الحاصل بين مجاهدين عن طريق كتابة المذكرات، و هل يمكن اعتبار هذا النوع من الكتب تأريخا؟
المذكرات هي في أساسها شهادات، والشهادة هي مصدر هش بالنسبة للمؤرخ، وإذا حضرت الوثيقة فالشهادة تصبح عقيمة الجدوى في أغلب الأحيان. المذكرات الحالية على أهميتها فيها ما يمكن تصنيفه في خانة «المذكرات» عندما يتحدث الشاهد عن ما فعله أو رآه، وفي خانة «الرواية» أو «الذاكرة» عندما يتكلم عن أحداث لم يكن طرفا فيها أو حضرها، فتصبح هنا رواية، وهي أضعف بكثير من الشهادة. فالمذكرات التي نشرت اليوم ليست دراسات تاريخية وإنما شهادات أو روايات، بل أحيانا تصفية حسابات باسم الذاكرة. ورغم ذلك فهي تقدم للمؤرخ أوعية اخبارية تكمل وتفصل ما جاء في الوثائق، ويجب اخضاعها لنقد صارم وفق المعايير الأكاديمية المعروفة. قبل اعتماد شهادة مجاهد، يجب معرفة من هو الشاهد ومدى معايشته للأحداث التي يتحدث عنها، وهو أمر سهل بالنسبة للمؤرخ المتمرس التي يحوز على وثائق الأرشيف، حيث يمكنه معرفة الفترة بالضبط التي تجند فيها المجاهد والمراتب التي تدرج فيها وعلاقته ببعض الفاعلين الذين يتحدث عنهم وعلاقته بالأحداث.                      ن/ك

النصر  في ضيافة المجاهد بالولاية التاريخية الثانية  أحمد زاير: هكذا شرّد المستعمر سكان أولاد عطية  


يروي المجاهد أحمد زاير، أحد أبطال الولاية التاريخية الثانية، مشاهد مروّعة عن جرائم  و وحشية المستعمر الغاشم بمنطقة أولاد عطية بولاية سكيكدة، ويتحدث «عمي أحمد» الذي يستحضر، رغم بلوغه عمر 83 سنة، كيف تفنن الاحتلال الفرنسي في تعذيب السكان العزل  والتنكيل بهم في مراكز ومحتشدات حوّلها إلى محارق بشرية، كما  يستذكر صوّر الدمار  الفظيعة التي انتهِجت في أوساط السكان  لعزل الثورة عن الشعب، من خلال سياسية الأرض المحروقة و استعمال  كل وسائل التعذيب  والقتل وتشريد أصحاب الأرض، غير أن عزيمة المجاهدين والتفاف الجزائريين حولهم كانت أقوى من كل المخططات الوحشية التي  دبرتها فرنسا الاستعمارية.
المجاهد أحمد زاير وهو من مواليد 18 جوان 1937، بمنطقة بوزوي بأولاد جامع بالقل، حيث ذكر في لقاء خص به النصر في بيته ببلدية بن مهيدي بولاية الطارف، أن بداية التحاقه بالثورة التحريرية كانت عقب استشهاد شقيقه الأكبر الطاهر بعد 8 أيام من التعذيب التي قضاها بأحد مراكز المستعمر بمنطقة صالح بوشعور،  أين كان قبل قتله يمتلك شاحنة يتنقل بها  من أولاد عطية نحو قسنطينة لجلب السميد لبيعه، قبل أن يكلفه المجاهدون بمهمة بنقل شحنات السلاح، لكن في إحدى المهمات تم اكتشاف أمره و اعتقاله، ليُعثَر عليه بعد ذلك مقتولا ومرميا بالقرب من مقبرة وآثار التعذيب بادية على جسده، وهنا يضيف المجاهد، أنه قرر الالتحاق بصفوف الثورة، إيمانا منه بعدالة القضية التحريرية وخاصة لما عايشه في طفولته من مشاهد  التعذيب والرعب التي كان يمارسها  المحتل على السكان المضطهدين العزّل.   
انخرط في صفوف الجيش رغم صغر سنه
و قد كانت بداية مشاركة الشاب في الثورة وعمره لا يتعدى 17 سنة و بضعة أشهر، حيث قام في 20 أوت من سنة 1955 رفقة بعض المواطنين  بمنطقة أولاد عطية، بحرق مخزون الفلين وثكنة عسكرية ما أثار حالة من الرعب لدى المستعمر، موازاة مع ذلك تمت دعوة  سكان القرى من طرف قادة الثورة بالمنطقة لأداء اليمين على المصحف والحفاظ على سرية ومواصلة النضال الثوري، وقد تم حينها تكليف شقيقه بصفته مسؤول البريد، كما تمت دعوة  كافة سكان القرى وكل من بحوزته بندقية لتسليمها للمجاهدين أو الالتحاق بجيش التحرير مع تمكينهم من الذخيرة، وبتاريخ  25 أكتوبر من نفس السنة، تجمع سكان دوار أولاد جامع  في منطقة بولعسل وسلموا بنادقهم للثوار.
و يسترسل  المجاهد زاير قائلا بأنه ذهب وقتها ليسلم سلاحه للمجاهدين بناء على  طلب أحد أقربائه، المختار شويط، الذي يكون بمقام عمه، لكن عند وصوله للمكان المتفق عليه  رفض تسليم البندقية  وسط دهشة الحاضرين من المجاهدين وقادة المنطقة، الذين أكدوا له أنه ما يزال صغيرا، ليضيف قائلا «رغبت في  الالتحاق بالثورة التحريرية ولو كان لساعتين،  وحينها قال أحد المجاهدين الذين كانوا جالسين: والله لا يأخذ البندقية غير هذا الشباب، بعد أن لاحظ شجاعتي  ورغبتي في الكفاح المسلح، لتسجل البندقية باسمي ويُسلم لي حزام خراطيش مكون من 5 خرطوشات وسط فرحة كبيرة».
بعدها عاد الشاب اليافع نحو قريته لإخفاء البندقية، وعقب ذلك تم تجميع كل من حمل السلاح  من قبل قادة الثورة بالمنطقة في مكان سري وجلهم من الشباب، وتم إخطارهم بأن أمرهم انكشف لدى الاحتلال حيث طُلب منهم تهيئة أنفسهم استعدادا للتنقل  لجبهات القتال بعد أن تم التأكيد لهم أنهم أصبحوا معروفين لدى المستعمر وعددهم  25 مجاهدا من خيرة الشباب.
بعدها  مباشرة تم تلقي أوامر من القيادة بالالتحاق  الفوري بالثورة، خاصة  بعد توقيف بعض المجندين  من طرف الجيش الفرنسي، عقب العثور على حقيبة  كانت مخبأة في الجبال وكشفت هوياتهم حيث تم قتل عدد منهم، وحينها كانت الثورة قد وصلت إلى الشمال القسنطيني بعد 10 أشهر من اندلاعها من جبال الأوراس.
«عمي أحمد»،  ولما يتمتع به من شجاعة وحيوية بشهادة الجميع حينها، تم تكليفه مثلما يضيف، رفقة بعض المجاهدين بجلب السلاح من تونس، حيث ترك بندقيته التي التحق بها بصفوف الثورة هناك  و جلب شحنة من الأسلحة في 3 أوت من سنة 1957، كما أوكل له قادة الولاية التاريخية الثانية مهمة تمرير السلاح من تونس عبر بلدية السبت حيث وقعت معركة عنيفة مع المستعمر استعملت فيها طائرة عمودية.
المجاهد كان يخضع مع رفاقه، لعملية تدريب بمراكز جيش التحرير داخل الحدود التونسية بمنطقة الأربعاء، جندوبة حاليا، مشيرا إلى أن كل عمليات جلب السلاح من وراء الحدود كانت تتم بالتنسيق مع مسؤول الولاية في تونس على كافي.
«عشنا على حبات تمر وحمص و لم نكن نعرف الخوف»
ويقول عمي أحمد إنه لم يعرف الخوف إيمانا منه بحتمية تحرير الجزائر من المغتصب الغاشم، فقد نفذ مهمات صعبة ليلا و وسط الثلوج والتضاريس الجبلية الصعبة التي تعرف بها المنطقة، بينما كان زاده اليومي هو و رفاقه المجاهدون لا يزيد عن 7 حبات تمر و 11 حبة حمص مقلية لسد الجوع  قبل نصب الكمائن والهجوم على الثكنات.
وشارك المجاهد في الهجوم على فيلق جيش الاحتلال  بمنطقة أولاد عطية، و في استهداف مراكز الجنود الفرنسيين الذين كانوا يقومون بتجميع سكان أولاد عطية والزج بهم في مراكز التعذيب وتدمير المباني وحرق المنازل والتنكيل بالنساء والأطفال، حتى أنه تم إخلاء المنطقة، ليتدخل جيش التحرير في كل مرة لفك الخناق والحصار المضروب على السكان العزل.
و قد ساهم دخول السلاح من الحدود التونسية في إعطاء نفس جديد للثورة التي عرفت نسقا تصاعديا سنة 1958، حيث تم، مثلما يبرز المجاهد، تقسيم الفيالق الى 3 أفواج كل فوج مكون من 13 مجاهدا  موزعين عبر مختلف المناطق، حتى يدرك المستعمر قوة جيش التحرير و هذا من خلال المواجهة بأربعة أصناف من الأسلحة.
و يعود بنا المجاهد بذاكرته إلى عملية نُفذت بمنطقة  بونغرة بأولاد عطية  و استهدفت مركزا للجيش الفرنسي وكذا  معركة واد زقار في سكيكدة  التي تكبد العدو  خلالها خسائر في الأرواح والمعدات وهي المعركة التي شارك فيها 100 فرنسي ولم يسلم منها غير  ضابط  وجندي، فيما تم أسر جندي واسترجاع مختلف القطع من السلاح.
و رغم الجوع و قساوة الطبيعة  كانت أجواء من الأخوة و العزيمة تسود وسط المجاهدين، لتخفف عنهم كل هذه المتاعب.
و رغم لجوء المحتل إلى نصب عدة مراكز لجمع السكان لعزلهم عن جيش التحرير وقطع المؤونة عليهم وتوسيع وتنويع دائرة مراكز التعذيب، إلا أن مؤتمر الصومام  كان مثلما يؤكد المجاهد أحمد زاير، بمثابة صمام الأمان للثورة و للشعب  من خلال تنظيم الثورة و إعطائها نفسا جديدا، ما أدى بالمحتل إلى التكالب على منطقة أولاد عطية التي تعرضت للحرق كما تم تدمير مستشفى المجاهدين بالمنطقة الذي شيده  المجاهد الراحل علي منجلي، حيث كان يشرف عليه آنذاك بعض الأطباء منهم  البروفيسور تومي  و يعالج فيه المجاهدون  الجرحى من مختلف المناطق. واستطرد المجاهد أحمد زاير، قائلا بأن الثورة التحريرية تبقى من أعظم الثورات في التاريخ، مضيفا أن جيش التحرير كان مكونا من أبطال شرفاء استطاعوا بفضل عزيمتهم التغلب على أكبر قوة للحلف الأطلسي، حيث سُيّرت الثورة وفق تكتيك وتنظيم يشبه في تعقيده و دقته شباك العنكبوب، ما صعب على المحتل الوصول إلى هدفه بالتشويش عليها ومعرفة أماكن قادتها.  ويختم عمي أحمد حديثه بالتأكيد على أن الشعب الجزائري شعب نادر يتمتع بعزيمة و إيمان قويين جعلاه يتغلب على أكبر قوة غاشمة للحلف الأطلسي آنذاك، و ذلك بفضل ثورة كانت دعامتها الإرادة الصلبة و جيش  لا يعرف الخوف ولا يركع إلا لله.
نوري.ح

الرجوع إلى الأعلى