* هكذا لعبت المجاهدة ذهبية دورا لوجيستيكيا في تموين الثورة
تعد المجاهدة ذهبية بعيصيص من حرائر الأوراس، اللواتي ساندن ووقفن بجانب الرجل المجاهد خلال الثورة التحريرية، ولعبت المجاهدة دورا لوجيستيكيا مهما بدوار الرميلة في قلب الأوراس، من خلال تموين فيالق من المجاهدين بالمؤونة بين باتنة وخنشلة، وشاركت إلى جانب أفراد من أسرتها في ربط الاتصالات بين المجاهدين في سرية تامة، فكان مسكنها العائلي مركزا لجيش التحرير، قبل أن يتم التفطن للمركز، وقد أخضعت للتعذيب والتهجير، وفقدت زوجها وشقيقها اللذين سقطا شهيدين، وهي أرملة مجاهد زوجها الثاني.
العمل السري جعلنا نحول مسكننا بالرميلة إلى مركز لجيش التحرير
استقبلتنا الحاجة المجاهدة ذهبية بعيصيص في مسكنها بحي الزمالة بمدينة باتنة، بصدر رحب والفرحة تغمر محيا وجهها الجميل بالوشم الذي تتميز به المرأة الشاوية، وعلى الرغم من أنها كانت تعاني من وعكة صحية، إلا أنها استجمعت قواها واستحضرت ذاكرتها، وفي ردها على سؤالنا ما إن كانت لاتزال تتذكر الأحداث التي عاشتها خلال الثورة التحريرية بمنطقة الرميلة، فردت بكل بديهة، بأن ما عاشته في تلك الفترة لا يمحوه الزمن، وخلال الحديث الشيق الذي جمعنا بالمجاهدة البالغة من العمر 82 سنة، كانت تدعو أن يحفظ الله الجزائر وأبناءها، وكانت تتفاعل مع الأحداث التي تسردها تارة بتعابير فرح  في الأحداث الجميلة، وتارة بحزن عندما يتعلق الأمر بالأحداث الأليمة، وتتساءل أحيانا الحاجة ذهبية وقلبها يعتصر ألما، كيف يمكن أن يتعرض هذا الوطن للخيانة، وهو الذي ضحى من أجله شهداء.
وكانت المجاهدة الحاجة ذهبية بعيصيص، قد عايشت أحداثا مؤلمة بمسقط رأسها بدوار الرميلة أحد قلاع الثورة التحريرية بجبال الأوراس، فكانت المجاهدة وأهل القرية ضحايا سياسة فرنسا الاستعمارية من تجويع وتعذيب وحرمان من التعليم، وعلى الرغم من كل ذلك إلا أن إخلاصها إلى جانب مجاهدات ومجاهدين للثورة، لم يثن من عزيمتهم في مواجهة القوة الاستعمارية الفرنسية.
وتقول المجاهدة ذهبية، بأنها والعديد من نساء قريتها كن خلال الثورة التحريرية يقمن بتطبيق تعليمات في سرية تامة بتحضير الأكل وغسل ملابس المجاهدين، وكذا تحضير السلاح، وأكدت بأنهن وفور تلقي التعليمات يجب أن تكن على أتم الاستعداد للتحضير وفي سرية تامة، فكانت هي وفدائيات ومجاهدات تلعبن دور القواعد الخلفية للثورة التحريرية بالأوراس، وتتذكر أولى التعليمات التي كان يقدمها صهرها المدعو أحمد بن حمادة، دون أن يخبرهن بأن الأمر يتعلق بالثورة أو المجاهدين.
وقالت، بأن شرارة اندلاع الثورة كان لها صدى في قريتها بالرميلة، أين سمعوا ببطولات مجاهدين بينهم قرين، وكان الحذر ينتابهم دائما خشية انتقال المعلومات إلى الفرنسيين عن طريق العملاء، عمَا كانت تقوم به من توفير ونقل للمؤونة، وتضيف بأنها ذات يوم من فصل الصيف راحت رفقة قريبتها عند بزوغ الفجر لجلب الماء كالعادة، وقد راح يقترب منهم شخص يرتدي القشابية والشاش تظهر عليه محاولة التخفي، وقد طلب منهن لقاء صهرها دون أن تعلم سبب ذلك، لكنها أيقنت أن الأمر مهم وسري، وفعلا سارعت هي وقريبتها لإخبار صهرها.
ومباشرة عقب لقاء صهرها بالشخص صاحب القشابية، الذي تبين بأنه مجاهد أتى من الجبل اتضحت المهمة وهي تحضير الأكل لـ 45 مجاهدا سيمرون بمسكنهم، الذي تحول إلى مركز سري لعبور المجاهدين، وفعلا باشرت هي ونساء من العائلة في تحضير «الكسكس» والقهوة بينما تولى صهرها ذبح الأضاحي كونه فلاحا، وتولت النساء بعد وصول المجاهدين أيضا غسل الملابس، وأكدت الحاجة ذهبية بأن العملية تكررت عدة مرات دون أن تتفطن لهم القوات الاستعمارية.
أخي الشهيد طلب من أمي ألَا تبكي عند التحاقه بجيش التحرير
وأوضحت المجاهدة ذهبية بعيصيص، بأن السرية التامة كانت وراء نجاح عمليات تموين المجاهدين، وقالت بأن مركز صهرها لم يكن يقتصر على إطعام وتوفير الأكل للمجاهدين فحسب وإنما كذلك نقل الرسائل وربط الاتصالات، وأكدت بأنها كانت تتم بنجاح بين أفراد من عائلتها والمجاهدين مشيرة لالتحاق شقيقها بصفوف جيش التحرير واستشهاده في معركة بجبل بوعريف، وفي حديثها وهي تسرد ما عاشته من أبرز أحداث لاتزال تحفظها ذاكرتها، قالت بأنها لن تنسى يوم طلب شقيقها من والدتها ألا تبكي عند التحاقه بصفوف المجاهدين، وطلب منها أن تزغرد إن كتب له الله السقوط شهيدا.
وتقول الحاجة ذهبية بأن استمرار الثورة التحريرية، دفع أفرادا من عائلتها للالتحاق مباشرة بالمجاهدين على غرار شقيقها الصالح، وأخا لها من الرضاعة وابن خالتها، وأكدت استمرارها هي في عمليات تموين المجاهدين بالمؤونة، سواء عن طريق تحضير الأكل وغسل ملابس المجاهدين بالمركز، أو عن طريق جمع المؤونة بالتنسيق مع مناضلين يأتون بها إلى المركز.
وأضافت المجاهدة ذهبية، بأنها كانت شديدة الحرص على التحركات التي تقع بالدوار خلال نزول شقيقها المجاهد لرؤية والدتها وزوجته، وفي وصفها للمعاناة التي عاشوها بسبب ويلات الاستعمار أكدت استعدادها للتضحية حتى لا ينكشف أمرها وأهلها، وتقول بأنه عند وصول المجاهدين على حين غرة يحضرون كل شيء حتى غطاؤها الوحيد قدمته وتذهب لتتدفأ عند الكانون، مؤكدة بأنه بفضل السرية في العمل كان المجاهدون يتحركون بسلاسة بين المركز والجبال قبل أن ينكشف أمر المركز فيما بعد بسبب وشاية.

الاستعمار أذاقنا التعذيب وحرق الدوار بعد اكتشاف تموين المجاهدين
عقب اكتشاف القوات الاستعمارية لأمر المركز بدوار الرميلة جن جنونها، وهي من الأحداث التي أكدت المجاهدة ذهبية، بأن صورها لاتزال محفورة في ذاكرتها، وقالت كيف لا تحفظها بعد أن ذاقت أشد أنواع التعذيب إلى جانب أفراد من أسرتها، وتتذكر حينها المجاهدة كيف حاصرت قوات الاستعمار مستعينة بفرق أجنبية الدوار، وكيف راحت تخرج العائلات من ديارها، وقامت بحشد النساء في مجموعة، بينما ألقت القبض على الرجال الذين سلسلتهم وحملتهم على شاحنات إلى وجهة مجهولة، ومن بينهم صهرها صاحب البيت.
وتتذكر المجاهدة أن قوات الاستعمار الفرنسية، راحت تداهم الديار وتحرق القرية عن بكرة أبيها، انتقاما من أهلها الذين كانوا يدعمون المجاهدين، وقالت بأنه في خضم تلك الأحداث أخذ عساكر فرنسيون النساء اللواتي كانت بينهن وأمروهن بإخراج المؤونة من مخازنها والنبش وسط المطامر المخصصة لجمع الأغذية، وذلك تحت طائلة الضرب والتعذيب وقالت بأن العساكر كانوا يضعهن في المقدمة خشية أن تكون هناك قنابل في الحفر ومخازن المواد الغذائية، وقد تم رميها في حفر عميقة وأمروها بالبحث وإخراج ما بداخلها، ولم تكتف فرنسا الاستعمارية بممارسات التعذيب والتهجير، بل عمدت تضيف المجاهدة ذهبية إلى منعهم من جمع وتخزين مؤونة حملة الحصاد، لقطع الطريق أمام تموين جيش التحرير وتحويل الحصاد إلى مخازنها.
وبعد أن مارست القوات الاستعمارية كل أشكال التعذيب، ضد أهل قرية الرميلة، وحرق ديارهم، اضطرت ذهبية بعيصيص وأفراد من عائلتها إلى التنقل إلى باتنة، دون أن تعلم مصير زوجها وكذا شقيقها اللذين بلغها فيما بعد سقوطهما شهيدين في ساحة الوغى، وعبرت عن فخرها واعتزازها بذلك، وقالت بأن شقيقها الشهيد صالح أطلقت تسميته على مدرسة ابتدائية بمسقط رأسه بالرميلة، وبقدر ما صبرت على تلك الأحداث، وحزنت على الفراق إلا أنها تدرك وتؤمن جيدا بوعد الله في قوله « لا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون». وكما تحفظ ذاكرة المجاهدة ذهبية، ما عاشته من أحداث مأساوية وقهر فرضته القوات الاستعمارية، فهي تحفظ أيضا لحظات إعلان الاستقلال وخروجها في المظاهرات بباتنة للتعبير عن الفرحة وسط الأهازيج والزغاريد والبحث عن المجاهدين للقائهم، مؤكدة بأنها فرحة لا يمكن وصفها، وهي التي جاءت بعد معاناة وويلات سنوات، وقالت بأن الله كتب لها أن تعيش الاستقلال، بعد أن اقترب منها الموت خلال مهاجمة قوات الاستعمار قريتها وحرقها وتدميرها وتقتيل أهلها، وقبل أن نغادر مسكن المجاهدة قالت بأن في جعبتها الكثير من المآسي والالام التي عاشتها بفعل ويلات الاستعمار لا يمكن أن تختصرها، وقد رفعت أيديها إلى السماء ليحفظ الله الجزائر ودعت الأجيال للحفاظ على الوطن المفدى بدماء الشهداء.
يـاسين عبوبو     

الرجوع إلى الأعلى