أكد الباحث في التاريخ الحديث و المعاصر، الدكتور توفيق بن زردة، بأن أحداث 20 أوت 1955، عكست بوضوح بصيرة زيغود يوسف النفاذة و امتلاكه لفكر سياسي تنظيمي، عكس ما يشاع عنه بأنه كان رجلا عسكريا يفتقر للتنظير، فهجومات الشمال القسنطيني، كانت الوعاء الذي تشكلت فيه ماهية الثورة الشعبية و تم بموجبه تحديد فلسفتها، كأحداث انطلقت من خلفية الصراع على احتواء الحاضنة الشعبية و توسيع عباءة الثورة لتشمل الشعب بمختلف فئاته، بعدما كانت ثورة قادة ينحدر أغلبهم من خلفية حزبية.
وفي حواره مع النصر،  يتطرق الباحث إلى مجموعة من النقاط أهمها الإجحاف الأكاديمي الذي تعرض له زيغود يوسف و جدل الذاتية في المذكرات و الروايات الشفهية وعلاقة ذلك بعملية التوثيق، ناهيك عن موضوع الأرشيف و مادة التاريخ في المناهج التعليمية.

شيهاني بشير أعاد هيكلة الثورة

النصر: تعتبر هجومات 20 أوت 1955 محطة مفصلية في تاريخ الثورة ، لأنها كسرت الحصار على أوراس النمامشة، كيف كان وضع المنطقة قبلها و ما الذي فجر الأحداث تحديدا؟

 توفيق بن زردة : الشائع عموما هو أن منطقة أوراس النمامشة كانت قد تعرضت لحصار من قبل إدارة الاحتلال، فراسل «سي مسعود» أو شيهاني بشير، قائد المنطقة الأولى، زيغود يوسف ليطلب منه عمليات دعم، لكن الحقائق تقدم رواية أخرى أعمق، وتؤكد بأن الأوراس لم يكن محاصرا و لا مكبلا، كما روج له عن تلك الفترة،  فشيهاني بشير أعاد هيكلة الثورة في منطقة الأوراس و أعطى نفسا جديدا للكفاح، بعد اعتقال مصطفى بن بولعيد في فيفري 1955 ، و توليه قيادة المنطقة الأولى، إذ عين مثلا عباس لغرور في خنشلة و ذهب جنوبا في واد سوف وعين عليها قائدا، كما عين عمر الجلاني، عينا له في قاعدة خلفية بقفصة و القصرين والكاف على الحدود التونسية، وهو ما يؤكد بأن منطقة الأوراس لم تكن محاصرة فعليا، بل كانت أكثر ديناميكية، فسي مسعود، أعطى عمقا للثورة خارج المنطقة، عندما أرسل سي أحمد الأوراسي، للقيام بعمليات عسكرية في منطقة الذرعان، وعين قيادة في سوق أهراس بعد وفاة باجي مختار.
كما أرسل أول وفد عسكري إلى منطقة الشمال القسنطيني بقيادة لحسن مرير، في إطار التنسيق مع زيغود، قبل أن يدعم المنطقة بالسلاح و الذخائر في أفريل من نفس السنة، و كان للشهيد كذلك، اتصالات مع كريم بلقاسم في المنطقة الثالثة.
يذكر أيضا أن الحاكم العام للجزائر في هذه الفترة جاك سوستال، كان رجل حرب بخلفية أنثروبولوجية و ليس عسكرية، شدد العلميات العسكرية في المنطقة، لكنه لم يضرب عليها حصارا.
أما بخصوص المنعرج الفاصل و ميلاد فكرة هجومات الشمال القسنطيني، فيمكن التأريخ لذلك بحادثة معينة ترتبط بكمين نصبته دورية عسكرية جزائرية بمنطقة قنتيز بجنوب تبسة، للمتصرف الإداري لهذه البلدية، أسفر عنه قتل رئيس البلدية و الاستحواذ على حقيبته التي سلمت إلى شيهاني بشير، الذي وقع فيها على مخطط للإدارة الاستعمارية ينسب للجنرال بيرلانج،  وهو مخطط يدخل في إطار سياسة عامة للحاكم العام جاك سوستال، يقوم على خلق جو من التهدئة عبر فتح مفاوضات مع فئات سياسية غير منضوية تحت لواء حزب و جبهة التحرير الوطنيين، بغية خلق فئة ثالثة تهمش الثورة والجبهة والجيش و تميع القضية الجزائرية، ناهيك عن العمل على ضرب الحاضنة الشعبية التي تعد الخلفية الرئيسية لأحداث 20 أوت.

زيغود يوسف وضع فلسفة جديدة للثورة

استمالة هذه الحاضنة، أصبحت كذلك تحديا بالنسبة للطرفين الفرنسي و الجزائري، لذلك استعان سوستال، بزميلته في الدراسة جيرمان تيون،  التي تخصصت في دراسة فضاء الأوراس، لأجل توظيف أبحاثها في توجيه العامة، عبر إعطاء توليفة اجتماعية أنثروبولجية، لما يحدث في الجزائر، وتقديم الثورة على أنها ثورة جوع و خبز و مطالب و ليست ثورة تحرر، ومن هنا تحديدا ولدت فكرة مراكز « لاصاص» للتكفل النفسي والاجتماعي و الطبي لجذب الحاضنة الشعبية، لكن شيهاني بشير تنبه  للأمر بعد اضطلاعه على الوثائق، و لذلك راسل زيغود يوسف للرد على مخطط بيرلانج، علما أنه لم يقترح عليه فكرة القيام بعمليات نهارية و غير ذلك، بل قدم له توصيفا للمخطط و طلب منه المشاركة في الرد.

النصر: يقال أن هجومات الشمال القسنطيني أعطت للكفاح طابعه الشعبي، هل كانت الثورة فئوية فعلا قبل هذا التاريخ، وما الذي تغير تحديدا بعده؟

ـ مواصلة لما سلف ذكره، أشير إلى أن زيغود يوسف، كان قد شارك في نهاية جويلية و بداية أوت، في اجتماع للقيادات الموسعة للثورة بمنطقة « الزامان» ، غرب  سكيكدة، وقد كان اجتماعا تتويجيا للتصور العام للأحداث التي سبق للشهيد أن رسم مسارها، حيث تم الاتفاق على تقسيم منطقة الشمال القسنطيني إلى ثلاث قسمات، القسمة الوسطى من قالمة إلى القرارم تحت القيادة المباشرة لزيغود، أما القسمة الغربية فتشمل ميلة جيجل ومناطق أخرى أوكلت قيادتها للخضر بن طوبال، فيما أسندت القسمة الثالثة و هي عنابة و امتداداتها، إلى عمار بن عودة، بالإضافة إلى تعيين قيادات ميدانية تمثلت في « مختار ثابت في حمام دباغ ـ عبد القادر لعيفبة محجوب في واد زناتي، عبدي مبروك في قونو عين العربي، عبد الباقي شوشان في الركنية، محمود مزابة في الخروب و في مدينة قسنطينة مصطفى عواطي».
زيغود يوسف كان ذا بصيرة، لذلك هيكل الدواوير والمشاتي بقوة من خلال تجمعاته، فجعل منها نقاط ارتكاز للقيام بالهجومات على القرى الاستيطانية و المدن، وهنا تحديدا تبرز خصوصية الهجومات، فهي لم تكن عملا عسكريا شنه مجاهدون ومسبلون ووقف خلفه قادة الثورة، بقدر ما كانت توظيفا للحاضنة الريفية أو الشعبية لضرب الحاضنة الكولونيالية، حيث أن عدد المجاهدين  الذين قادوا الهجومات لا يتجاوز الأربعة، لكن الجماهير التي شاركت فيها تتعدى المئة، و في رواية أخرى المئتين، وذلك  حسب تصريحات سابقة للمجاهد أحمد محمد شويط، مسؤول العمليات بعين عبيد، أوضح فيها بأن السكان استخدموا أدوات يستعملونها في يومياتهم من فؤوس و مناجل، وهو ما أكسبهم ثقة و ساهم في نجاح الهجومات على محور سكيكدة ـ قسنطينة و قسنطينة ـ قالمة، مرورا بالخروب و واد الزناتي.
الاستثناء بالنسبة لزيغود يوسف، كان استغلاله الجيد للحاضنة الشعبية بقوة الهجمات، بالمقابل اعتمد  لخضر بن طوبل وعمار بن عودة على المجاهدين و المسبلين فقط، بمعنى أن زيغود لعب دورا في رسم فلسفة جديدة للعمل التحرري و أعطى للثورة نسقا شعبيا، فكانت أحداث 20 أوت هي القالب الذي حدد فلسفة الثورة التحريرية، كما نعرفها اليوم.

أحداث  20 أوت أخرجت الثورة من طابعها النخبوي

ـ ما هي المكاسب التي تحققت على صعيد الحرب النفسية وكيف غيرت الأحداث نظرة المستعمر للثورة؟

ـ الهجومات أخرجت الثورة من طابعها النخبوي إلى الطابع الشعبي الموسع،  فالرعيل الأول من الثوار كانوا في معظمهم من أبناء حزب الشعب و حركة انتصار الحريات الديمقراطية، لكن نطاق الثورة توسع بعد الهجومات، ليشمل الفئات الشعبية، الأحداث أعطت نفسا جديدا للثورة التحريرية.
 ترتبط كذلك بالأحداث مقولة شائعة مفادها «أننا في أول نوفمبر سلبنا من الاستعمار الليل و في هجومات 20 أوت سلبنا منه النهار»، فهذه المحطة خلفت حالة من اللا أمن نهارا وهو أمر غير مسبوق، دفع الكولون، لاستحداث عبارة « الحقيبة أو التابوت» للتعبير عن الوضع السائد.
يذكر أيضا أن الهجمات جاءت بخلفية انقلابية على الواقع الاستعماري، وهو ما نلمسه من خلال فكرة هجوم الريف على المدينة التي تعد قلعة كولونيالية، و  من المكاسب أيضا، إفشال مخطط سياسة التفرقة الذي أراد جاك سوستال، تطبيقه و قطع ذيل فئة أصدقاء فرنسا، كما يطلق عليهم، وذلك عن طريق تعبئة الفئات الشعبية و فرض ضريبة الدم، لزعزعة الثقة في كل من يتعامل مع الإدارة الفرنسية، وهو ما جعل هذه الأخيرة تدرج الأحداث ضمن أجندتها التأريخية كمحطة فاصلة « جزائر ما قبل 20 أوت 1955 و جزائر ما بعد 20 أوت1955 «.
 خلاصة القول أنها هجمات أحدثت تغيرا نوعيا في  مسار الثورة و أكدت بالدليل القاطع على مستوى نجاح التنسيق الذي كان قائما بين القيادات الثورية في تلك الفترة، حتى أن سي مسعود أهدى لباسه العسكري الخاص و رشاشا لزيغود يوسف بعدها مباشرة.

النصر: يرى البعض بأنه رغم الدور المحوري للشهيد في الثورة وفي الأحداث، إلا أن الرواية التاريخية لم تنصفه و ظلمت مسيرته، فما هو الجانب الذي أغفلته ذاكرة المؤرخين تحديدا؟

ـ  هو ليس ظلما، بل تقصيرا،  زيغود يوسف موجود على المستوى الرسمي و بشكل يحفظ وزنه و مكانته، فهو مذكور في المناهج التعليمية واسمه يعلو العديد من مؤسسات الدولة، لكنه لم يحظ فعلا بحقه من البحث أكاديميا، لأن تاريخ الرجل  و شخصيته يستحقان عملا أكبر من قبل المؤرخين و الباحثين، البطل كان على رأس الوفد الرسمي الذي شارك في مؤتمر الصومام، و يمكن القول بأنه صاحب فكر استغلال الحاضنة الشعبية في الثورة، وقد مارس هذه السياسة نظريا وتطبيقيا، كما أنه مهد أيضا لفكرة إنشاء المجالس الشعبية، التي أعطت هيكلة أكثر و تنظيما أكبر، لفضاء الريف الجزائري خلال الثورة التحريرية.
وبالتالي فقد كانت له بصمات واضحة في مسار الأحداث، بمعنى أن الشهيد كان منظرا و ليس مجرد رجل عسكري، كما يشاع عنه، بدليل أنه اتخذ من الحاضنة الشعبية عمقا لضرب  الحاضنة الكولونيالية و إحباط مخطط جاك سوستال و بيرلانج، وهذا التخطيط والفعل ينمان عن فكر رجل منظر.

النصر: بالحديث عن عملية التأريخ والتوثيق هل تثـري الروايات الشفهية والسير الذاتية المادة التاريخية فعلا؟ وكيف يساعد  إخضاعها للمنهج العلمي على تجاوز شبهة الذاتية في سرد الأحداث ونقل الحقائق؟

ـ جدل المذكرات بين الأوعية الإخبارية و الحقيقة التاريخية، مطروح فعلا، والجواب يكمن في النسق الذي توظف فيه هذه المادة، يجب أن نفهم بأن الكتابة التاريخية تتم على ثلاث مستويات.
 أولا في إطار رسمي تمثله المناهج التعليمية وغيرها من الوثائق الرسمية، وثانيا في إطار جماهيري كأن يكتب الصحفي مثلا، لكن يبقى الإطار الثالث هو الأكثر دقة وهو الكتابة الأكاديمية البحثية،  فلو استخدمنا المذكرات في أول شقين لن تؤثر كثيرا وسيندرج ذلك في إطار الإضافة أو الترويج، لكن عندما يتعلق الأمر بالكتابة الأكاديمية، فإن الاستعانة بها تحتكم لشروط، فبعض المذكرات تغوص في أطر حكواتية و أخرى تجنح إلى الأسطورة أحيانا، لذلك فإن الباحث مطالب بتحري المصدر و الوثيقة، وتحديد الغاية من توظيف هذه المذكرات، فمنها كتابات تقدم إضافة علمية مثل مذكرات القادة كلخضر بن طوبال وعلي كافي، بالمقابل تمنحنا مذكرات أخرى  مسارات بحثية لنتتبعها وتفتح لنا نوافذ وتكمل فجوات، لكن التاريخ في النهاية يبنى على الوثيقة والمذكرات، ذلك يبقى تحري الحقيقة ضروريا، سواء من خلال المنهج العلمي أو العودة إلى الوثيقة لضمان الموضوعية، لأن الوثيقة هي التي تنسج الحدث التاريخي.

 ـ أنت من الباحثين الذين اطلعوا على ارشيف ما وراء البحر، هل تؤيد مطلب استرجاعه أم توافق الطرح القائل بأننا لا نلمك الإمكانيات اللوجيستيكية لحفظه و أن بعض ملفاته يجب أن تظل مغلقة؟

ـ دراسة الأرشيف عملية معقدة تتطلب حنكة ودراية و تمتع الباحث بثوابت وطنية متينة، كي يحافظ على موضوعية البحث ولا يسقط ضحية للرواية الفرنسية، مثلا تذكر الإدراة الفرنسية في وثائقها بأن قتلى العمليات الانتقامية التي تلت أحداث 20 أوت لا يزيد عدهم عن 1200شخصا، بالمقابل ذكر علي كافي في مذكراته، نقلا عن تقارير وجيش وجبهة التحرير سقوط 12  ألف شهيد.
قضية الأرشيف متشعبة في اعتقادي الوثيقة لا جنسية لها، ذاكرتنا واسعة و فضفاضة و أرشيفنا ثري منذ المرحلة العثمانية و قبلها و هناك أجزاء هامة منه توجد في عدة دول، والبحث في الذاكرة يستوجب التنقل للبحث والتقصي، فمثلا أرشيف شبكات دعم الثورة موجود في سويسرا، فيما يوجد أرشيف الدبلوماسية الجزائرية خلال ذات الحقبة في الصين و روسيا ودول أوروبا الشرقية. لذلك يجب ألا نركز على دولة بعينها، فالهاجس ليس مكان الوثيقة، بل إمكانية الوصول إليها.

الذاتية تطغى على التوثيق و التأريخ للثورة

النصر: لماذا لا يتم تجميع الوثائق و المواد العلمية التي يتم تحصيلها فرديا من قبل الباحثين في رصيد واحد يثـري محتوى الأرشيف الوطني؟

ـ لكي ينجح البحث التاريخي ويؤتي نتائج مهمة، يجب أن يتم في إطار هيكلي مؤسساتي كبير، يحظى برعاية رسمية قصوى، صحيح أن  الاجتهادات الشخصية أو تلك التي تتم على مستوى مخابر البحث مهمة، وترقى إلى مستوى البحث العلمي الدقيق، لكن قضية تجميع المصادر ومطابقة الحقائق وغير ذلك، يبقى عملا مرهونا بالهيكلة، كما سلف ذكره، وهو أمر نفتقر إليه في المرحلة الحالية، لذلك لا تزال الذاتية تطغى على عملية التأريخ و التوثيق للثورة.
المعلومات التاريخية تتطلب تحيين البرنامج  التعليمي
ـ كل الحقائق  والمعلومات التاريخية التي كشفت عنها عمليات البحث و الاضاءات التي جاءت بها الوثائق الأرشيفية على اختلافها، ألا تتطلب في رأيك تحيينا لمضامين المنهاج التعليمي في مدارسنا ؟
ـ فعلا أنا مع هذا الطرح، أرى بأن العالم يتغير والمعطيات تتجدد و كل ما استقيناه من معلومات في السنوات الماضية، يستوجب تحيينا للبرنامج التعليمي، كأن نضيف معلومة ونلغي أخرى، حسب الأولوية، نقدم عولمة و نؤخر أخرى،  حسب المراحل التي نعيشها وحاجتنا إلى فهم الأحداث المرتبطة بها، لذلك أعتقد أن المناهج عموما، يجب أن تراجع كل ثلاثين سنة تقريبا، لتتماشى مع كل جديد في الداخل والخارج، فحتى دروس تاريخ العالم التي تدرس لأبنائنا تستدعي ذلك أيضا .

حاورته : هدى طابي

الرجوع إلى الأعلى