الإعـلامـيون في مهمة كشف سماسرة الأزمات والإشـاعة التي تحرك الأسواق
يطرح التدفق الهائل والمستمر للمعلومات المتعلقة بالقضايا الاقتصادية، والمعلومات التي تتناول أحوال أسواق المواد الاستهلاكية، تحديات كبيرة للصحفيين المتخصصين والمتابعين للشأن الاقتصادي، باعتبار أن هذا التدفق الناجم عن الانفتاح الكبير للمجتمع على مواقع التواصل الاجتماعي، أصبح كثيرا ما يفسح المجال لترويج الأخبار والبيانات المغلوطة والمغرضة، التي كثيرا ما تتستر وراء واجهات ومسميات مزيفة تديرها دوائر معينة، لإحداث أزمات في السوق.

تقرير: عبد الحكيم أسابع

ولم يعد خافيا أن هذه الدوائر واللوبيات تعمل على تنفيذ أجندات أطراف داخلية وخارجية قد تتحالف فيما بينها للتأثير على الرأي العام الوطني ومحاولة توجيهه بما يحقق مصالحها وأهدافها سيما في المضاربة بقوت الجزائريين واستنزاف جيوب المواطنين البسطاء، بهدف زعزعة الجبهة الاجتماعية، والدفع نحو خلق حالة من الانفجار الاجتماعي.
 من هنا تطرح إشكالية حماية المواطن كمتلقي من الإشاعة والمعلومة المغلوطة، ومن هنا أيضا تتجلى أهمية مسؤولية الصحفي المحترف في تقديم إعلام اقتصادي، نزيه وموضوعي وبمهنية عالية، يستند إلى معطيات صحيحة ومن مصادر غير مشكوك فيها، ما يجنب المواطن الضياع وسط متاهة المعلومات المتضاربة التي تعج بها وسائط ومنصات التواصل الاجتماعي.
ومن خلال تتبع موجة الغلاء التي تشهدها الأسواق خلال السنوات الأخيرة المُعاشة، بسبب المضاربة بالسلع بهدف رفع الأسعار نجد أن المضاربين و لوبيات ترويج المواد منتهية الصلاحية، كثيرا ما يعتمدون على ترويج المعلومات الخاطئة بهدف البلبلة وخلق الندرة في سلع بعينها ودفع المواطن المستهلك إلى سلوكيات التهافت والتخزين ما يتسبب في الندرة وارتفاع الأسعار وهو المناخ الذي يبحث عنه المضاربون لفرض الأمر الواقع، وجر وسائل الإعلام المتخصصة وغير المتخصصة، إلى السقوط في فخها.
من هنا تبرز أهمية وجود صحفيين متخصصين في المجال الاقتصادي، ملمين بالميكانيزمات التي تتحكم في السوق وبأساليب المضاربين وبخلفياتهم وخلفيات الأطراف التي تدعمهم وذلك بهدف تنوير الرأي العام وجعله في مأمن من التأثيرات الخطيرة للإشاعة والمعلومات المغرضة و الأساليب الشيطانية التي ينتهجها سماسرة الأزمات والمضاربون بقوت الجزائريين، الذين تواعدهم رئيس الجمهورية خلال لقائه الأخير بالصحافة الوطنية بالوقوف أمامهم بالمرصاد ومحاربتهم إلى جانب محاربة اللوبيات السياسية التي تقف وراءهم والتي نجد أن مبلغ همّها، هو الدفع نحو خلق البلبلة والفوضى في البلاد.
بين الحرية والمسؤولية
عندما نتفحص التشريعات التي تهتم بالشأن الاقتصادي، والتي تنص على حماية المستهلك، نطالع في نص المادة 43 من دستور البلاد: "تكفُل الدّولة بضبط السوق‮، ‬ويحمي‮ ‬القانون حقوق المستهلكين‮"، إلى جانب التشديد على أن "القانون يمنع الاحتكار والمنافسة غير النزيهة"، تخول اتخاذ تدابير قانونية رادعة ضد المتلاعبين بقوت الجزائريين، والمضاربين بالسلع المدعّمة، وهو ما دعا إليه رئيس الجمهورية السيد عبد المجيد تبون بصفته القاضي الأول في البلاد، حيث كشف في هذا الصدد خلال ذات اللقاء الأخير بالصحافة الوطنية بأن ثمة مشروع قانون يجري الإعداد له لتجريم فعل المضاربة، بسن عقوبة لن تقل عن 03 سنة، و التي قد تصل على حد تعبيره إلى حد المؤبد وحتى الحكم بالإعدام، وهو الأمر الذي ينتظره المواطن.‬‬‬‬‬‬
من جهة أخرى فإن المادة 50 من دستور البلاد، التي تخص ميدان الإعلام، تمنح هامشا كبيرا من الحرية للصحفيين  في التعامل مع القضايا الاقتصادية على غرار مختلف القضايا الأخرى التي تشكل دائرة اهتمام الرأي العام الوطني، لكنها تشترط في ذلك احترام القانون، حيث جاء في نص هذه المادة:  " ‬حرية الصحافة المكتوبة والسمعية البصرية وعلى الشبكات الإعلامية مضمونة ولا تُقيد بأي‮ ‬شكل من أشكال الرقابة القبلية" وأنه " ‬لا‮ ‬يمكن استعمال هذه الحرية للمساس بكرامة الغير وحرياتهم وحقوقهم‮" فضلا عن التأكيد بأن " نشر المعلومات والأفكار والصور والآراء بكل حرية مضمون في‮ ‬إطار القانون واحترام ثوابت الأمة وقيمها الدينية والأخلاقية والثقافية". كما تؤكد هذه المادة بأن "الحصول على المعلومات والوثائق والإحصائيات ونقلها مضمون للمواطن".‬‬‬‬‬‬‬‬
وهكذا فإن هذه المادة، فضلا عن مواد القانون العضوي للإعلام، ترسم خارطة الطريق لرجال الإعلام  في التعاطي مع هامش الحرية الممنوح لهم، والذي يشمل الحق في الحصول على المعلومات والوثائق الإحصائية حتى يكون تناوله للقضايا الاقتصادية ذو مصداقية، لكن هذا الحق مقرون بالالتزام بأخلاقيات المهنة وعدم الانسياق وراء الإشاعة والأخبار المغلوطة، حتى لا يضيع المواطن وسط متاهة المعلومات المتضاربة التي تعج بها وسائط ومنصات التواصل الاجتماعي.
تعاطي الصحافة مع الندرة خلال الأزمة الوبائية
عمل المضاربون وسماسرة الأزمات على إرباك المواطن المستهلك ودفعه إلى سلوكيات التهافت والتخزين، لمادتي السميد و الفارينة والسكر والعجائن وحتى الخضر في مناسبات عديدة على مر السنوات الماضية، تحت وقع ما ينشرونه وما يروجونه من إشاعات.
وبالعودة إلى بداية اشتداد الأزمة الوبائية الناجمة عن فيروس كورونا ( كوفيد- 19) خلال شهر مارس من السنة الماضية (2020)، نجد أن الإشاعات المرتبطة بما تم تداوله حول ما قد تتسبب فيه إجراءات الغلق الاحترازية، أدت إلى نفاد المخزون من المحلات ونقاط البيع، ما جعل المواطنين الذين لم يأبهوا في البداية لتلك الإشاعات يشتكون من هذه الندرة، والتي سرعان ما طالت فيما بعد مادة زيت المائدة، وألهبت أسعار الخضر، التي وصلت إلى مستويات قياسية، وهو ما خلق نوعا من التوجس في نفوس المواطنين ورفع درجة مخاوفهم من مغبة تكرار سيناريو، ما يعرف بـ " أحداث الزيت والسكر"، سنة "2011 التي وضعت آنذاك البلاد على فوهة بركان، بفعل متربصين بالبلاد، ولولا مسارعة السلطات العمومية لتنزيل أسعار المادتين المذكورتين لكانت النتائج وخيمة.
والحاصل أن نقص الخبرة جعل الكثير من المتخصصين والمشتغلين في حقل الإعلام الاقتصادي مع بداية انتشار الجائحة، ينساقون وراء إشاعات الندرة وتصدرت صدر الصفحات الأولى للكثير من الجرائد "مانشيتات" وبالبنط العريض حول ما يدور وما يروّج من إشاعات وتحوّل التناول الإعلامي لكل ذلك إلى أشبه ما يكون بالبحث عن السبق الصحفي، وهي الأخبار التي أربكت الكثير من الأسر وخرج الكثير من أفرادها ليلا للوقوف في طوابير غير منتهية أمام المطاحن ونقاط بيع، غير آبهين بتهديدات جائحة كورونا ما دام الأمر متعلق بقوت يومهم، وقد دفع ذلك بالسلطات العمومية إلى اتخاذ إجراءات فورية لتزويد المطاحن المنتشرة عبر الوطن بكميات إضافية من القمح والقمح اللين لحل الأزمة.
ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد فقد تسبب المضاربون وتجار الأزمات، من مصاصي دماء الشعب مؤخرا من خلال الإشاعات التي يروجونها على مستوى صفحات التواصل الاجتماعي، في ندرة مادة الزيت في عدد من ولايات الشرق الجزائري قبل أن تمتد هذه الأزمة حاليا إلى ولايات أخرى ومنها الجزائر العاصمة، شأنها في ذلك شأن مادة الفارينة التي سارع كثيرون لتخزينها قبل أن تفند السلطات العمومية وجود أزمة، وهو ما شكل مادة دسمة للصحافة وأحيانا دون البحث عن الخلفية.
ويطرح هذا الإشكال أهمية وجود صحفيين متخصصين في الشؤون الاقتصادية، حتى يكونوا في مستوى القيام بالتغطيات الشاملة والوافية والدقيقة للأحداث الاقتصادية، دون الوقوع في شراك مروجي الإشاعات، والأخطاء المترتبة على ذلك، سيما في الظرف الراهن الذي تعكف فيه الحكومة على التوجه لتنفيذ مخطط عملها الذي صادقت عليه الغرفة السفلى للبرلمان وأيده مجلس الأمة، مؤخرا و الذي وضع أسس جديدة لتحقيق الإقلاع الاقتصادي من خلال مراجعة "عميقة" لقانون الاستثمار وإصلاح نظام تسيير العقار الموجه للاستثمار ورقمنة الصفقات العمومية وإيجاد وسائل تمويل بديلة.
تجربة الإعلام الاقتصادي في ميزان إعلاميين وخبراء
ترى هناء زباغدي نائبة رئيسة تحرير القسم الاقتصادي بوكالة الأنباء الجزائرية المتخصصة و المتابعة للشؤون الاقتصادية منذ أكثر من عقدين، في تصريح للنصر، "إن معالجة المعلومة الاقتصادية تعاني من ضعف التخصص و صعوبة التحكم في المعطيات التقنية و نقص مصادر المعلومة أو غيابها تماما في بعض الأحيان".
وتضيف " تعاني أغلب الجرائد من نقص الصحفيين المتخصصين في الاقتصاد الذي يتطلب كثيرا من الدقة في المعالجة و تحكما في لغة الأرقام و دلالاتها و متابعة دائمة للأحداث الاقتصادية و ربطها بالظرف الداخلي و الخارجي" مبرزة بأن عدد الصحفيين القادرين على استغلال تقرير لبنك الجزائر أو حصيلة لوزارة المالية أو التجارة استغلالا صحفيا صحيحا، و تبسيطه ليصبح سهل الهضم للقراء، يعدون على الأصابع، والمشكل هنا - تضيف -  في التكوين الأصلي للصحفي و في التكوينات التي يتلقاها (أو بالأحرى لم يتلقاها) خلال مساره المهني".
وفي غياب التخصص المنشود، تلاحظ السيدة زباغدي بأن " الكثير من الصحفيين، و من ورائهم الجرائد التي توظفهم، "يركضون" وراء "السبق الصحفي" غير مبالين بالتأكد من صحة المعلومة و فهمها فهما صحيحا و معالجتها معالجة تهدف فقط لتنوير الرأي العام و ليس لتهويله".
وبالنسبة لطريقة العمل المتبعة في وكالة الأنباء الجزائرية تقول "نحن في وكالة الأنباء الجزائرية نملك قسما متخصصا في الاقتصاد و نبذل كل جهودنا لمواكبة الحدث الاقتصادي و تبسيط المادة الاقتصادية للقارئ و تقديم معلومة "حيادية" ... بعيدا عن التعليقات و التأويلات"، وسجلت من جهة أخرى "تقصير الاتصال المؤسساتي الذي قد لا يكون في الموعد أحيانا، ما يترك المجال - كما تقول - للتأويلات و القراءات المختلفة".من جهته يرى، محمد قولال، نائب رئيس تحرير يومية الجمهورية، "ضعف الاهتمام بالجانب الاقتصادي في الصحافة الوطنية وخاصة المكتوبة منها، رغم وجود بعض الصحف التي قال إنها خلقت تقاليد معينة بتخصيص ملاحق أسبوعية أو شهرية للقضايا الاقتصادية، وأبرز في تصريحه للنصر، بأن جريدة الجمهورية خصصت ملحقا أسبوعيا بعنوان "الجمهورية اقتصاد" يتناول المواضيع الاقتصادية ذات العلاقة بالاقتصاد الوطني ووضع الأسواق وكل ما يدخل في دائرة اهتمام المستهلك.
وأبرز بأن الصحفي في هذه اليومية مطالب بالقيام بتقصي الحقائق في الميدان وإجراء استطلاعات والبحث عن المعلومة الصحيحة من مصدرها، وعدم الانسياق وراء الإشاعة لتفادي نشر المعلومة المغلوطة التي تعرف اليوم بـ " الفايك نيوز" التي زادت في الانتشار.
ويرى الصحفي حسان حويشة المتخصص في الاقتصاد بيومية الشروق، أن "الصحفي الاقتصادي مطالب أكثر من غيره بتحري الدقة في المواضيع التي يكتبها خصوصا أن هذا القطاع يتضمن أرقاما وبيانات ومبالغ مالية وغيرها من الأمور التي وجب تقديمها للقارئ بشكل دقيق ومضبوط"، لافتا في حديثه للنصر، إلى أن "الصحفي الاقتصادي يعمل في قطاع يتميز بأنه تقني إلى حد ما ولذلك وجب عليه أن يكون ملما بالأمور التي ينقلها ويكتبها وهذا من خلال  المطالعة والبحث والتقصي والتحري بشكل مستمر و تحيين سجل معلوماته بشكل مستمر أيضا".وفي تقدير الخبير الدولي المعتمد في الاقتصاد والمالية، نبيل جمعة، فإن من أبرز التحديات التي تواجه الصحفي المتخصص في الشأن الاقتصادي أو المكلف بتتبع المعلومات الاقتصادية: عدم توفر المعلومة الدقيقة وعدم القدرة في أحايين كثيرة على توفير قاعدة بيانات حول الشأن الاقتصادي في البلاد، ما يجعل الصحفي يكتفي بنشر البيانات الواردة من الوزارات أو الجهات الرسمية الأخرى دون أدنى تعليق أو تمحيص".ويثير السيد جمعة في تصريحه للنصر، إشكالية يقول عنها إن "الإعلام الاقتصادي يسير في حقل ألغام، إذ كثيراً ما نجد الصحافي المتخصص في الاقتصاد، ينهمك من جهة في البحث عن الإعلانات والمادة الإشهارية لتحسين وضعه المادي والحصول أيضا على مصادر تمويل للوسيلة الإعلامية التي يشتغل بها، ما يجعله مكبل اليدين مغلق الفم ولا يتطرق إلى موضوع لا يخدم مانحي الإشهار".
وأضاف "إن نفوذ طبقة رجال الأعمال والصناعيين يأخذ مكانا لافتا في التغلغل في الصفحات الاقتصادية للكثير من وسائل الإعلام، منذ سنوات حيث يتم استقطاب بعض الصحافيين للدفاع عن قضاياهم ومصالحهم، بإغراءات تتمثل في منحهم أو منح مؤسساتهم الإشهار"، وقد يتم هذا التغلغل - كما يضيف - من خلال خبراء اقتصاديين يقول إنه يتم "شراؤهم" للدفاع عن مؤسساتهم، في  تصريحاتهم لوسائل الإعلام.
وترى الدكتورة ليليا شاوي أستاذة الاتصال الجماهيري في جامعة الجزائر 3، في تصريح للنصر أن الصحافة المتخصصة في الجزائر، وإن حققت قدرا من التقدم، إلا أنها ما زالت تعاني من ضعف التكوين"، ويعود جزء من أسباب المشكلة إلى غياب الصحفي المتخصص المُلم بالأبعاد المختلفة لتخصصه.
ولحل أزمة الصحفي المتخصص، أكدت على "ضرورة العمل على توفير هذا الصحفي الكفء، على أن يكون من خريجي كليات الاقتصاد الراغبين في العمل في المؤسسات الإعلامية، مع تكوين إضافي لسنة أخرى في كليات الإعلام".                               ع/أ

الرجوع إلى الأعلى