شواهـــد حيّة على مذبحـة غيـر قابلــة للنسيـان

في ذكرى مجازر 08 ماي 1945
باحثون يدعون لكشف الخبايا القانونية و السياسية للمذبحة

اعتبر قانونيون وباحثون مجازر الثامن ماي 1945 محطة هامة في الذاكرة الوطنية ودعوا إلى ضرورة التطرق إلى كافة خباياها القانونية و السياسية، وعدم التوقف عن البحث فيها لفضح المستعمر ومتابعة المتورطين فيها.

بمناسبة إحياء الذكرى الـ 77 لمجازر الثامن ماي 1945 والذكرى الثانية «لليوم الوطني  للذاكرة» الذي أقره الرئيس عبد المجيد تبون، نظم منتدى جريدة «المجاهد» أمس بالتعاون مع جمعية «مشعل الشهيد» في إطار منتدى الذاكرة  ندوة حول  هذه الأحداث الأليمة، كما استذكر المشاركون بالمناسبة خصال ونضال المجاهد المرحوم بشير بومعزة مؤسس جمعية الثامن ماي 1945 وأول رئيس لها.
وبهذا الخصوص تطرقت المحامية و الناشطة فاطمة الزهراء بن براهم لأول مرة إلى بعض الخبايا القانونية والسياسية لمجازر الثامن ماي 1945، وقالت إنه ومنذ سنوات والجميع يتحدث عن وقائع هذه المجازر فقط لكن هذا غير كاف.
وكشفت  المتحدثة أن أحداثا سياسية سبقت بقليل مجازر الثامن ماي منها نشاط مصالي الحاج وفرحات عباس، هذا الأخير الذي سلم مذكرة لقادة الحلفاء حول الوضع في الجزائر مستغلا بذلك المادة الثالثة من ميثاق الأطلسي التي تتحدث عن حق الشعوب المستعمرة في الحرية والاستقلال.
 كما أشارت إلى أن الناشطين السياسيين الجزائريين في ذلك الوقت أرادوا إشهاد ممثلي الحلفاء الموجودين في الجزائر على ما يعيشه الشعب الجزائري تحت نير الاستعمار الفرنسي وهو ما أزعج وأخاف كثيرا السلطات الاستعمارية.
وقالت إن ناشطين طلبوا من محافظ ولاية سطيف تنظيم موكب حاملين باقة ورد كتكريم لأرواح القتلى الجزائريين في الحرب العالمية الثانية وترحيبا بعودة المجندين بعد نهاية الحرب، كما حملوا أعلام دول الحلفاء، وشعارات سلمية سياسية أهمها يحيا «ميثاق الأطلسي»، إلا أن رد السلطات الاستعمارية كان عنيفا وكان بمثابة رسالة واضحة للحلفاء بأن لا يتدخلوا في الشأن الجزائري.
 بعدها تطرقت بن ابراهم إلى كيف استعملت السلطات الاستعمارية العدالة من أجل التغطية على جريمة قتل الجزائريين في الثامن ماي، وكيف جعلتها تبرر هذه المجازر؟ فأقرت في البداية حالة الحصار، لافتة هنا إلى أن فرض حالة الحصار محدد في القانون وهو لا يقوم به سوى رئيس الجمهورية في حال وقوع خطر كبير على البلاد.
لكن السلطات الاستعمارية الفرنسية أقرت حالة الحصار حتى تعطي الحق بعدها للسلطات العسكرية في التدخل والتصرف كما تشاء وقمع المتظاهرين الجزائريين والتنكيل بهم، ووصفت ذلك «بالعدالة المتسرعة من أجل محاكمة الجزائريين».
 إذ تم تشكيل محاكم عسكرية تضم أعضاء من  المعمرين وهو أمر غير قانوني ولم يحدث من قبل، ثم شرعت في محاكمات صورية للمتظاهرين و الموطنين الجزائريين بصورة عامة دون دليل إدانة ودون حق في الدفاع أو الطعن أو الاستئناف، وكانت تصدر في النهار أحكاما بالإعدام ضدهم وتنفذها ليلا.
بعدها شيئا فشيئا أخذت ملف مجازر الثامن ماي بعدا دوليا وهو ما أخاف السلطات الفرنسية فعمدت إلى إتلاف كل الدلائل المادية الخاصة بها ونقل الأرشيف والوثائق المتعلقة بها عشية التوقيع على اتفاقيات إيفيان إلى مدنية إكس أونبروفنس بفرنسا، وفي مارس من سنة 1966 أقرت قانونا خاصا بالعفو تم بموجبه حماية كل العسكريين وغيرهم الذين شاركوا في الجريمة، كما أقرت القانون الخاص بعدم فتح الأرشيف إلا بعد مائة سنة.
 لكن المحامية بن ابراهم توضح هنا أن هذه القوانين تخص فرنسا فقط فهي قوانينها وليست قوانين الجزائر وليست قوانين دولية، وعلى الجزائريين اليوم مواصلة البحث في جوانب هذه المجازر والسعي من أجل متابعة المتورطين فيها وفق اتفاقية روما لسنة 1967 ووفق القانون الدولي.
 من جهته اعتبر الإعلامي والكاتب الصادق بخوش أن ربط أحداث الثامن ماي 1945 بالذاكرة مهم جد، لأن الفاتح نوفمبر 1954 ابن شرعي لـ 1945، و قال إن مجازر الثامن ماي أعادت مسألة الوعي إلى الظهور لدى جميع التيارات السياسية في ذلك الوقت حتى اقتنعت في الأخير أن إخراج فرنسا بالقانون لا يجدي نفعا وأن ما أخذ بالقوة لا يسترجع بغير القوة، فتشكل داخل الحركة الوطنية جناح عسكري هو المنظمة الخاصة، وكل هذا شكل مراحل مهمة من ذاكرة الأمة.
ولفت الصادق بخوش إلى أن  المؤرخ بن يامين سطورا في تقريره المسلم لرئيسه  اختصر كل الذاكرة في حدثين فقط هما الاعتراف بأن المناضل موريس أودان قتل من طرف الفرنسين وأيضا الاعتراف بأن المحامي الشهيد علي بومنجل قتل هو الأخر من طرف الجيش الفرنسي.
 لكن التاريخ أكبر من الذاكرة ولم يمكن اختصاره- يشدد المتحدث- الذي أكد أن التاريخ ليس الماضي فقط بل هو الحاضر والمستقبل وأن الاستعمار ليس تلميذا غبيا فقط كما قال جياب بل ومجرما أيضا.
وبمناسبة إحياء ذكرى مجازر الثامن ماي 1945 استحضر المشاركون في الندوة ذكرى المجاهد ورئيس مجلس الأمة سابقا الراحل، بشير بومعزة، مؤسس جمعية الثامن ماي 1945 وأول رئيس لها والذي ناضل من أجل كشف وفضح الجرائم الفرنسية المرتكبة في هذا اليوم ومتابعة المتورطين فيها.
فقالت زهور ونيسي، الوزيرة  وعضو مجلس الأمة سابقا، أن المرحوم بشير بومعزة كان رجلا وطنيا ومثقفا وكان يناقش مشاريع القوانين بدقة متناهية لما كان على رأس الغرفة الأولى للبرلمان ويستشير الأعضاء فيها وكان يحترم المرأة كثيرا، وكان ملما ومدركا لكل القضايا العربية، مضيفة أن منزلته عندها كمنزلة أحد الرموز الكبرى التي أساءت لها الصراعات السياسية.
أما مراد بودية نجل المجاهد  محمد بودية فقد اعتبره بمثابة مكتبة لسعة ثقافته، وقال إنه هو من حول والده المرحوم نحو القضية الفلسطينية، واعتبر أن جمعية الثامن ماي 1945 مؤسسة بحث وقد عملت الكثير في كل الولايات وجمعت آلاف الشهادات.
إلياس -ب

المجاهد محمد الهادي الشريف يروي «للنصر» تفاصيل الواقعة
لم نتوقّع الرد الوحشي على احتفاليّة سلميّة
في بيته الواقع بحي «لانقار» الشعبي، وبالضبط قبالة مسجد «الشيخ مدور» أو «الصحابي أبي ذر الغفاري»، استقبلنا المجاهد «محمد الهادي الشريف» البالغ من العمر 99 سنة، ليروي لنا تفاصيل اليوم الدامي، والذي راح ضحيته الآلاف من الجزائريين العزل.

يقول المجاهد «محمد الهادي» إن أحداث الثامن ماي هي التي جعلت الجزائريين يقتنعون بفكرة « ما تم انتزاعه بالقوة يسترجع بالقوة»، مضيفا أن المواطنين قرروا تنظيم مسيرة «سلمية» تنطلق من وسط المدينة، وبالضبط من حي «لانقار»، ولم يكونوا يعتقدون تماما أن السلطات الفرنسية سترد عليهم بوحشية، حيث قال:« لم يكن ولا واحد فينا يعتقد أن المسيرة السلمية ستتحول بعد ساعات قليلة إلى مسيرة دم، يروح ضحيتها الآلاف من المواطنين العزل»، وتابع حديثه:« لم تكن نية منظمي المسيرة القيام بأي أعمال عنف، لأن ما كنا نبحث عنه هو الاحتفال بانتصار دول الحلفاء على دول المحور في الحرب العالمية الثانية».
واستدل في حديثه على سلمية المسيرة بأن عناصر الكشافة الإسلامية هم من قادوها في الصفوف الأمامية، حاملين معهم مختلف الشعارات الوطنية، ومرددين الكثير من الأناشيد، من بينها:« شعب الجزائر مسلم»، مضيفا أنه ومباشرة بعد الوصول إلى «حانة مارتينال»، أطلق جنود الشرطة الفرنسية طلقات نارية تجاه المواطنين، وهو ما تسبب في استشهاد العشرات وتعرضه شخصيا إلى طلقة نارية في قدمه، استدعت حمله ونقله إلى المستشفى لتلقي العلاج، مع تعرض شقيقه وشقيقته إلى إصابات خطيرة، كانت سببا في استشهاد الأول بعد أيام قليلة من أحداث الثامن ماي، مع تعرض الثانية لإعاقة دائمة.
وأشار أن الخطة التي انتهجها الجيش الفرنسي آنذاك، هي صعود عدد من الجنود إلى أسطح البنايات العالية بوسط المدينة، وذلك لرمي القنابل اليدوية على المواطنين العزل، والأكثر من ذلك قنبلة العديد من القرى المجاورة بالمدافع الثقيلة، مؤكدا أن المناطق الشمالية من الولاية تضررت كثيرا، لاسيما بعد تعرض المواطنين إلى ضربات شديدة من قبل البواخر الحربية.
وواصل شهادته بالقول إن ردة الفعل الهمجية من قبل السلطات الفرنسية، كانت سببا رئيسيا في «فتح أعين الشعب الجزائري»، والذين اقتنعوا بضرورة حمل السلاح لطرد المستعمر الفرنسي، وقال بالحرف الواحد:« اقتنع آنذاك كل الشعب الجزائري تقريبا بأن فرنسا لن تغادر إلا عن طريق البارود، وأرى بأن أحداث الثامن ماي كانت مقدمة لاندلاع ثورة أول نوفمبر المجيدة، خاصة وأن الغالبية من المواطنين اتحدوا فيما بينهم، ووضعوا هدفا مشتركا وهو طرد فرنسا مهما ذلك كلفهم من تضحيات».           
أحمد خليل

المجاهد عقيلة بلقاسم
مئات المواطنين من بني ورتيلان أرادوا الذهاب على الأقدام  إلى سطيف

التقيناه بمتحف المجاهد بوسط مدينة سطيف، كي يروي لنا أهم الأحداث التي شهدتها الجهة الشمالية من ولاية سطيف بتاريخ الثامن ماي، إنه المجاهد عقيلة بلقاسم، والذي قال إن المئات من سكان منطقة «بني ورتيلان»، ومباشرة بعد سماعهم بما جرى من أحداث دموية بمدينة سطيف، سارعوا إلى تنظيم أنفسهم من أجل الذهاب إلى هناك  ومساندة إخوانهم، مضيفا أن ذلك لم يحدث بسبب استباق الجيش الفرنسي بإرسال رتل عسكري مكون من المئات من الجنود المسلحين غالبيتهم يحملون الجنسية السنغالية.

وأضاف المجاهد أن فرنسا أظهرت في تلك الأحداث «وحشية منقطعة النظير»، بسبب قتلها الآلاف من المواطنين العزل، ولم تفرق آنذاك بين الرجال والنساء والأطفال، مؤكدا أن الثامن ماي محطة هامة في تاريخ الجزائر، لأن الغالبية من الشعب رأت أنه من الضروري الانتظام والتوحد في هيكل واحد، ثم الشروع بعدها في التخطيط لطرد المستعمر الفرنسي من الأراضي الجزائرية.
كما أوضح محدثنا أن تلك المجازر ساهمت وبشكل فعال في «توحد الجزائريين»، واقتناعهم بفكرة الثورة كرجل واحد تجاه المستعمر، وهو ما تكلل بعد تسع سنوات من تاريخ الثامن ماي باندلاع الثورة التحريرية، والنجاح بعدها في تحقيق الهدف بطرد فرنسا بعد أكثر من قرن من الاستعمار الغاشم.
أحمد خليل

شواهد حية على مجازر ماي الأسود
قالمـة متحـــف مفتــــوح لذاكـــرة تأبـــى النسيــــان

رغم مرور 77 عاما على تلك المجازر الرهيبة التي ارتكبها الاستعمار الفرنسي شهر ماي الأسود، مازالت مدينة قالمة و القرى المجاورة لها تحتفظ بشواهد حية تؤرخ لحقبة دامية من تاريخ الجزائر المليء بالأحداث و المآسي، التي لم تتوقف على مدى 132 عاما من الاحتلال الذي طال الأرض و الفكر و الهوية، مرتكبا المجازر الجماعية و التطهير العرقي و الإبادة في حق شعب أعزل ظل رافضا للاستعمار، و لم يتوقف عن الثورة تلو الثورة و الانتفاضة تلو الأخرى، حتى يسمع العالم صوته و يدرك بأن الأمة الجزائرية لن تموت و لن تستكين مهما طال ليل الاستعمار.

و تعد مجازر 8 ماي 1945 الأكثر تأثيرا و حضورا لدى سكان ولاية قالمة الذين أعلنوا رفضهم المطلق للاستعمار و ممارساته المنتهكة لحقوق الإنسان منذ أن وطأت أقدامه الأرض الزكية، و لم يتوقف النضال و لم تتوقف حركات المقاومة و الانتفاضة حتى اندلعت حرب التحرير مؤذنة بنهاية الاحتلال.
وفي كل ذكرى من ذكريات ماي الأسود يسترجع سكان قالمة تلك المآسي الدامية التي أودت بحياة الآلاف من المدنيين العزل بالمدن و القرى و الأودية و الشعاب، التي تحولت إلى ميادين للإعدامات الجماعية التي وصلت إلى حد الحرق بأفران الجير الرهيبة التي أذابت اللحم و العظم و التهمت خيرة أبناء قالمة الذين خرجوا ينشدون الحرية بشارع عنونة و باب السوق و الكرمات و الشارع الكبير.

وعلى مدى 77 عاما بقيت شواهد المجزرة ماثلة للعيان تذكر الأجيال المتعاقبة بما حدث أيام ماي الأسود من سنة 1945، و ماذا فعل المعمرون وميليشيا الموت بمناضلي الحركة الوطنية و أبناء الكشافة الإسلامية و المثقفين و الفلاحين الذين قادوا انتفاضة الريف التي دعمت المدن المحاصرة وشنت الهجمات على مزارع المعمرين، مؤذنة بميلاد مرحلة جديدة من النضال و الكفاح المسلح لتحرير الوطن المحتل. ويرى الباحثون في شؤون الحركة الوطنية و تاريخ المنطقة بأن الشواهد الحية التي تحتفظ بها مدن قالمة، بلخير، بومهرة أحمد و هليوبوليس تعد بمثابة ذاكرة تاريخية تأبى النسيان، و ستظل هذه الشواهد تذكر الأجيال المتعاقبة بنضال الأجداد و تضحيتهم في سبيل الحرية و الانعتاق، و تذكر فرنسا الاستعمارية بأن الشعب الجزائري لن ينسى و سيظل يتذكر كل ما مر بموقع من المواقع التي سالت فيها دماء الجزائريين و أحرقت جثثهم في واحدة من أبشع المجازر في القرن العشرين.
ساحة الكرمات منطلق المسيرة التاريخية الخالدة   
مساء الثامن ماي من سنة 1945 تجمع المئات من سكان مدينة قالمة و المدن و القرى المجاورة بالمكان المسمى الكرمات قرب حي باب السوق العريق، استعدادا لتنظيم مسيرة سلمية موازية لمسيرة الفرنسيين احتفالا بنهاية الحرب العالمية الثانية، و ظلت الحشود الثائرة تنتظر وصول القرار من مدينة عنابة لكنه تأخر حتى المساء.
و قبل المسيرة بأيام قليلة ظل رئيس دائرة قالمة أندري آشياري يضغط بقوة على مناضلي الحركة الوطنية حتى ينضموا إلى مسيرة الفرنسيين و تحت علم فرنسا، لكن محاولته باءت بالفشل نظرا لإصرار سكان قالمة على تنظيم مسيرة مستقلة و تحت العلم الجزائري مما اعتبره حكام المدينة عصيانا للأوامر و تمردا على القوانين الفرنسية، و رغم ذلك رفع المتظاهرون التحدي و انطلقوا من ساحة الكرمات عبر شارع عنونة التاريخي باتجاه وسط المدينة رافعين الأعلام الجزائرية التي خاطتها أيادي المناضلين سرا قبل عدة أيام، استعدادا لهذا الحدث الذي غير مجرى التاريخ.  
و قد بدأ الاستفزاز و العنف ضد المتظاهرين من منازل الفرنسيين على طول شارع عنونة و وسط المدينة، و تطورت الأحداث بسرعة عندما وصلت المسيرة إلى ساحة تسمى اليوم ساحة  8 ماي 1945 و انطلقت رصاصة من مسدس السفاح آشياري أصابت حامد بومعزة حامل العلم الجزائري فأردته قتيلا فكان أول شهداء ماي الأسود بقالمة، و اختلط الحابل بالنابل و تفرقت الحشود في كل الاتجاهات بينما كان الرصاص يلاحق الفارين العزل بينهم عبد الله يلس الذي أصيب في ساقه قرب المسرح الروماني. صدرت الأوامر بسرعة و أغلقت المحال التجارية و فرض حظر للتجوال بالمدينة بداية من الساعة التاسعة و النصف مساء من ذلك اليوم الأسود، و بدأت الملاحقات و الاعتقالات معلنة عن انطلاق مخطط القتل و الإبادة الذي قادته ميليشيا المعمرين الذي أعلنوا الحرب على كل ما هو جزائري مسلم بمدينة قالمة، و في كل قرية ثائرة بمناطق بلخير، بومهرة احمد، هيليوبوليس، عين العربي، وادي الزناتي الفجوج و غيرها من المواقع الأخرى التي انتفضت و قررت إعلان الجهاد لتحرير الأرض المغتصبة.
وتضم الساحة التاريخية اليوم نصبا تذكاريا يخلد تضحيات سكان قالمة، و من هذا الموقع تنطلق مسيرة صامتة مساء كل ذكرى من ذكريات ماي من كل عام، و يعد المكان من أبرز المعالم التاريخية بمدينة قالمة، يزورها السياح و المؤرخون على مدار العام.
معلم الثكنة القديمة...هنا أعدم خيرة أبناء قالمة  
بعد النهاية المأساوية للمسيرة أعلنت الحرب على كل سكان المدينة، و كان مناضلو الحركة الوطنية والمثقفون و ملاك الأراضي على صدارة قائمة أعدها حكام قالمة للانتقام و إجهاض الانتفاضة و صد الهجمات التي طالت المعمرين، كرد فعل من السكان الجزائريين الذين بلغ بهم الغضب درجة إعلان الجهاد و بداية المقاومة الشاملة.  
وحسب المؤرخين و شهود من المدينة فقد تشكلت ميليشيا المعمرين المسلحة التي قامت باختطاف النخب المثقفة من الرجال و النساء و الزج بهم في المعتقلات السرية أياما متتالية دون أكل ولا شرب، ثم ينقلون إلى ميادين الإعدامات الجماعية بينها ميدان الثكنة القديمة وسط مدينة قالمة، أين قتل خيرة أبناء المدينة بأمر من رئيس الدائرة أندري آشياري حسب ما كشف عنه تقرير سري أعده رئيس الشرطة المتنقلة «بيوسون» في 25 ماي 1945.
وذكر التقرير بعض أسماء الجزائريين الذين اعدموا هناك بينهم علي عبدة، إسماعيل عبدة، مبروك ورتسي، عبد الكريم بن صويلح، عمار ورتسي، أومرزوق محمد، دواورية حميد، و إسماعيل بن عزوق و مسعود شرفي.   و مازال موقع الإعدامات السرية بالثكنة القديمة إلى اليوم مزارا تاريخيا مقدسا يقف عنده سكان المدينة كل ذكرى من ذكريات ماي الأسود، للترحم على أرواح الضحايا و تجديد العهد مع الذاكرة الشعبية التي تأبى النسيان.
أفران الجير الرهيبة...
هنا أحرقت جثث الجزائريين العزل
لم تكن الثكنة القديمة بمدينة قالمة وحدها ميدانا للإعدامات السرية، فهناك على بعد 5 كلم ميدان آخر للإعدام هو كاف البومبة، و بجواره أفران الجير الرهيبة التي أحرقت فيها جثث الضحايا في محاولة لطمس معالم الجريمة بعد أن انتشر خبرها على نطاق واسع و تخطى حدود الوطن المحتل.

وقد تنقلت بعثة لتقصي الحقائق إلى قالمة وسارع المجرمون القتلة إلى جمع الجثث من مواقع الإعدامات و المقابر الجماعية، و نقلها إلى أفران الجير الواقعة بقرية حمام برادع قرب مدينة هليوبوليس، و مواقع أخرى أين أحرقت هناك و تحولت إلى رماد في واحدة من أبشع الجرائم ضد الإنسانية في القرن العشرين.
ومازالت شواهد الجريمة إلى اليوم بأفران الجير المبنية بالحجارة الكلسية المقاومة للحرارة، و عندما تقف أمامها تدرك مدى الحقد الدفين الذي كان يكنه الاستعمار الفرنسي للجزائريين كما يقول سكان مدينة هليوبوليس التي كانت مسرحا للإعدامات و الحرق على نطاق واسع أياما طويلة بعد انتفاضة 8 ماي 1945.
«كوشة الياجور» بالأرض الكحلة...موقع آخر للحرق السري  
بجانب الطريق الوطني 20 وسط حقول زراعية يوجد مبنى قديم متداعي تحيط به أشجار الكاليتوس العملاقة، القليل من سكان قالمة من يعرف السر الدفين لهذا المكان بجنان قوسي، فقد كان موقعا آخر لحرق جثث الضحايا بمنطقة الأرض الكحلة غربي مدينة قالمة، من حيث قدمت الجموع الثائرة من القرى و المداشر لدعم الانتفاضة الشعبية بمدينة قالمة يوم 8 ماي 1945.
 و تقول المصادر التاريخية بأن عدد الجثث التي أحرقت في «كوشة الياجور» ربما يفوق عدد ما احرق بأفران الجير، و تسعى جمعية 8 ماي 1945 إلى ترميم الموقع التاريخي و حمايته من التدهور و الاعتداء، حتى يبقى شاهدا على ما جرى في تلك الحقبة الزمنية بالأرض الكحلة موطن البطولة و التضحية.
جسر السكة الحديدية  و محطة القطار..هنا اختلطت دماء الجزائريين
امتد مسلسل الاعتقالات و القتل إلى جسر السكة الحديدية و محطة القطار الواقعة اليوم بالضاحية الشمالية لمدينة قالمة، أين انتشرت ميليشيا المعمرين لمحاصرة المسافرين القادمين من مختلف مناطق الوطن المحتل، و منعهم من الالتحاق بالانتفاضة والتواصل مع قادة الحركة الوطنية بالمدينة.
وفي هذين الموقعين انتهكت حقوق الإنسان و اختلطت دماء الجزائريين، عندما أطلق المعمرون العنان للعنف و القتل دون تمييز بين مشارك في الانتفاضة ومسافر عابر سبيل.
و تتحدث المصادر التاريخية و الشهود الذين عايشوا المأساة بأن الكثير من المسافرين المعتقلين اعدموا بالجسر الواقع اليوم عند نهاية شارع التطوع بحي القروي، و لم يبق للجسر أثر لكن لوحة تذكارية ماتزال هناك تؤرخ للجريمة وتذكر المارين من هناك بما حدث ذات يوم من شهر ماي الأسود.  
المحجرة القديمة .. إعدامات الليل السرية
يقول الراحل محمد لخضر خلاصي الشاهد على المجزرة، في تصريح سابق للنصر بأن المحجرة القديمة الواقعة اليوم قرب مقبرة الشهداء بالضاحية الغربية لمدينة قالمة كانت مسرحا للإعدامات الليلية، حيث تشاهد الشاحنات كل ليلة و هي تنقل المعتقلين إلى هناك لقتلهم و حرقهم بالبنزين دون محاكمة، في أبشع صور الانتقام ضد مثقفي المدينة و ملاك الأراضي الزراعية الذين أبيدوا عن آخرهم حتى تسلب ممتلكاتهم دون اعتراض و محاسبة.

و تعد المحجرة ثاني أقرب موقع إعدام بمدينة قالمة بعد الثكنة القديمة، و كان من السهل إخراج المعتقلين من نادي الكشافة و مراكز الجندرمة و البوليس و «كوري باركو» و نقلهم في شاحنات إلى ميدان الإعدام للتخلص منهم، في واحدة من أبشع المجازر ضد الإنسانية، يقول المؤرخون و أساتذة القانون الدولي بأنها لا تسقط بالتقادم.
و يتعرض الموقع التاريخي المحجرة اليوم إلى التدهور والإهمال بسبب التوسع العمراني الذي أصبح يهدد الكثير من المواقع التاريخية وسط المدينة.
و مازال سكان مدينة قالمة يتحدثون عن «الكاريار» كما يسمونها و يعتبرونها معلما تاريخيا يجب حمايته و صيانته، حتى يبقى شاهدا على الجريمة و ذكرى للأجيال القادمة حتى لا تنسى.
المدرسة الفلاحية... قتل الفكر و العلم   
امتدت يد الإجرام الفرنسية إلى المدرسة الفلاحية أين كان يدرس الكثير من أبناء مدينة قالمة و يتعلمون علوم الزراعة و تربية المواشي، و ينافسون أبناء المعمرين في التحصيل العلمي و الثقافة، فكانوا تحت أعين الإدارة الفرنسية تراقب نشاطهم السياسي و علاقتهم بقادة الحركة الوطنية، و عندما اندلعت انتفاضة 8 ماي 1945 كان طلبة العلم الجزائريين بالمدرسة الفلاحية في صدارة المطلوبين إلى ميدان الإعدام دون محاكمة، فسقط الكثير منهم فداء للوطن و الأمة.
و مازالت المدرسة الفلاحية العريقة تتذكر هؤلاء الضحايا و أقامت لهم لوحة تذكارية عن مدخل المدرسة، عرفانا بتضحياتهم و نضالهم في صفوف الحركة الوطنية.

وتعد المدرسة الفلاحية التي تحولت إلى معهد وطني لعلوم الزراعة، واحدة من أهم المعالم الهندسية و التاريخية بمدينة قالمة، و  ارتبط اسمها بمجازر 8 ماي 1945، و مازالت إلى اليوم تمد قطاع الزراعة الوطنية بخيرة الكوادر البشرية المتخصصة في الإنتاج النباتي و الحيواني. جسر بومهرة أحمد، جسر بلخير، مزرعة بن يخلف، مدرسة الفتح، نادي الكشافة، شارع عنونة و مواقع أخرى مازالت شاهدة على المأساة الدامية بسهل سيبوس الخصيب الذي استولى عليه المعمرون بعد أن أبادوا عائلات بأكملها رفضت التخلي عن الأرض و استماتت في الدفاع عنها حتى الرمق الأخير.  و ينظر سكان قالمة إلى المعالم التاريخية المخلدة لضحايا مجازر ماي الأسود على أنها رمز حي للذاكرة الوطنية، و شاهد على بشاعة المجزرة، معتبرين بأن ثنائية المكان و الزمان ستظل تذكر الأجيال القادمة بالمأساة الإنسانية التي تعرض لها الأجداد القدامى، عندما قرروا الخروج عن طاعة الحاكم الفرنسي و بداية مسيرة التحرر، فكانت ضريبة الدم ثقيلة و مؤلمة، لكنها مهدت الطريق إلى الحرية و الأنعتاق بعد سنوات قليلة من الانتفاضة التاريخية التي بلغ صداها أنحاء العالم.  
فريد غربية

هكذا وقعت المذبحة في سطيف
"الثلاثاء الأسود"..جريمة فرنسا التي لا تغتفر

يستعيد الجزائريون كل سنة، ذكرى 08 ماي 1945، تاريخ استشهاد عشرات الآلاف من المواطنين العزل في عدد من المدن والقرى بالجهة الشرقية، لا لسبب سوى لأنهم طالبوا فرنسا الاستعمارية في مظاهرات "احتفالية سلمية" بتجسيد الوعود التي قدمتها لشعوب المستعمرات، حول منحهم حق "تقرير المصير"، مباشرة بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وانتصار الحلفاء آنذاك بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا.

البداية كانت باحتفالات عيد العمال
وتحدثت العديد من المصادر التاريخية أن بداية شرارة انتفاضة الثامن ماي، انطلقت عقب الاحتفال بعيد العمال والاحتفال العالمي بانتصار الحلفاء، وهناك انتهز الفرصة حيث عدد من المناضلين في حزب الشعب الجزائري وبقية التشكيلات السياسية والإصلاحية المحظورة آنذاك، حيث رفعوا في تلك المسيرات العديد من الشعارات أبرزها "تحيا الجزائر حرة مستقلة"، مع رفع الألوان الوطنية "الأخضر والأبيض والأحمر"، معبرين عن انتمائهم لهذا الوطن ومجددين دعوتهم إلى إطلاق الحريات، وتحرير السجناء السياسيين الجزائريين في تلك الفترة، وعلى رأسهم رئيس حزب الشعب "مصالي الحاج".
واقتنع آنذاك الكثير من الجزائريين بعدد من المدن بضرورة تنظيم مسيرات حاشدة، من أجل دعوة السلطات الفرنسية إلى تحقيق مطالب "أصحاب الأرض"، خاصة مع نجاح قوات الحلفاء في الانتصار على الفاشية والنازية في الحرب العالمية الثانية.
وسجلت بعض المناطق في ولاية سطيف بتاريخ السابع ماي خروج العشرات من المعمرين الأوروبيين للاحتفال بانتصار الحلفاء، لكن دون مشاركة "الأهالي" الجزائريين، والذين قرروا تنظيم مسيرات "مستقلة" عن المعمرين، حتى يستغلوا الفرصة للإعلان صراحة عن مطالبهم "الشرعية" في الحصول على الاستقلال.
الانطلاقة من "لانقار" من مسجد "الشيخ مدور"
وفي صبيحة يوم الثلاثاء الثامن ماي من سنة 1945، قرر الآلاف من سكان مدينة سطيف الخروج في مسيرة سلمية، تعبيرا عن سعادتهم بانتصار الحلفاء في الحرب العالمية الثانية، واغتنام الفرصة لمطالبة السلطات الاستعمارية بإطلاق سراح الزعيم الوطني "مصالي الحاج"، وتذكيرها أيضا بالوعود التي قدمتها بمنح شعوب المستعمرات حق تقرير المصير تجسيدا للميثاق الأطلسي الصادر يوم 14 أوت  1941، والمعلن من قبل رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل والرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت، وقد نصت النقطة الثالثة من الميثاق صراحة أن "جميع الناس لديهم الحق في تقرير المصير".
وتقرر أن تنطلق المسيرة من ساحة مسجد "الشيخ مدور" المعروف باسم "مسجد لانقار" ( المسمى حاليا عن الصحابي أبي ذر الغفاري )، حيث تواجد الآلاف من المواطنين في الموعد والمكان المتفق عليهما، قبل أن تعطى شارة انطلاق بداية المسيرة باتجاه وسط المدينة وبالضبط نحو "مقهى فرنسا الكبير".وقاد "المسيرة السلمية" في الصفوف الأمامية فوج من الكشافة الإسلامية، والذي كانت عناصره تردّد نشيد:" حيو الشمال يا شباب...حيو الشمال الإفريقي"، مع حمل الكثير من الشعارات التي تنادي بالاستقلال الوطني وتقرير المصير وإطلاق سراح المعتقلين السياسيين وإعادة المنفيين إلى أرضهم الأم، وبعد تزايد الحشود في المسيرة واقترابها أكثر من وسط المدينة، لاحظ ضابط الشرطة الفرنسي "أوليفيري" أحد شباب الكشافة، حاملا بيديه العلم الجزائري بألوانه، ما أثار غضبه بشدة وجعله يقترب منه لسحب الراية من يد البطل "سعال بوزيد"، لكن الأخير قاوم بكامل قواه للاحتفاظ برمز الجزائريين، الأمر الذي جعل مسؤول الشرطة الفرنسي لا يتمالك نفسه ويطلب من عناصر الجهاز الفرنسي إطلاق النار على الشاب، والذي سقط شهيدا في ميدان المسيرة.
وسارع المجاهد المرحوم "لخضر تعرابيت" إلى رفع العلم الجزائري مباشرة بعد سقوطه من يد الشهيد "سعال بوزيد"، ثم الفرار إلى الشوارع الداخلية في وسط المدينة برفقة عدد من شبان الكشافة، خاصة بعد إعطاء القيادات الفرنسية الأوامر بإطلاق النار عشوائيا على الآلاف من السلميين.
سقوط البطل "سعال بوزيد" شهيدا في الميدان أثار غضب الجزائريين، ما جعلهم يثورون بالرغم من عدم حيازتهم للأسلحة ضد عناصر الشرطة الفرنسية، والتي استخدمت القوة المفرطة في تفريق المتظاهرين، مستعينة في نفس الوقت بالمئات من المعمرين الذين كانوا يمتلكون الكثير من الأسلحة.وفي مساء ذلك اليوم، قررت السلطات الفرنسية فرض حظر على تجوال المواطنين الجزائريين، مع إطلاق حملة للاعتقالات والمداهمات للمنازل، وحوصرت المدينة حصارا شاملا دام لأسابيع طويلة.
عملية "اصطياد البرانيس" تؤكد عنصرية المعمرين
وأطلق المعمرون الأوربيون بعد "اليوم الأسود" حملة عنصرية مقيتة أطلق عليها اسم "اصطياد البرانيس"، ردا منهم على مقتل 26 معمرا أوروبيا في أحداث الثامن ماي، وتمثلت الحملة في استهداف المدنيين الجزائريين العزل ممن يرتدون الملابس التقليدية مثل "البرنوس"، وذلك بقتلهم بطريقة وحشية في عدد من شوارع مدينة سطيف، خاصة وأنهم يعلمون مسبقا بعدم المساس بهم من قبل السلطات الفرنسية، سواء كانت أمنية أو قضائية، حيث بلغ عدد الضحايا -حسب بعض الإحصاءات- قد تجاوز المائة شهيد.
ويرى الكثير من المؤرخين أن المعمرين الأوروبيين استغلوا أحداث الثامن ماي، من أجل ممارستهم هواية التنكيل بالمواطنين الجزائريين العزل، حتى لا يفكروا مرة أخرى في المطالبة بتقرير المصير والاستقلال. كما شهدت المدينة بعد الثامن ماي قدوم تعزيزات أمنية كبيرة من الجيش الفرنسي، بهدف فرض الاستمرار على جميع مداخل المدينة، مع اعتقال المئات من المواطنين بتهم المشاركة في "المسيرة السلمية"، ثم إيداعهم المعتقلات والسجون، وهناك تم تعريضهم للتعذيب الوحشي والإعدام.
ودامت تلك العمليات الوحشية لأكثر من ثلاثة أشهر كاملة، استعمل فيها الجيش الفرنسي كل أنواع الممارسات الوحشية، مستعينا بذلك بميليشيات المرتزقة من جنود يحملون جنسيات مختلفة، منها سنغالية وحتى مغربية.
43 بلدية شهدت "محرقة ممنهجة"
ولم تقتصر الأحداث الدامية في شهر ماي 1945 بمدينة سطيف فقط، بل امتدت كذلك إلى أغلبية البلديات، خاصة الشمالية منها، مثل: عين الكبيرة، بوعنداس، عين عباسة، بني عزيز، بابور وعين الروى، حيث تعرضت تلك المناطق لعمليات وحشية من قبل الجنود الفرنسيين والمعمرين الأوروبيين وحتى الميليشيات المرتزقة من جنسيات إفريقية، وخلفت تلك العمليات استشهاد الآلاف من المواطنين العزل وحرق أكثر من 90 قرية بالكامل، كانت تضم في المجمل ثلاثة آلاف بيت.ومن أهم الأحداث التي وقعت في ذلك الشهر قيام أحد الضباط الفرنسيين بحرق 43 مواطنا ببلدية عين الروى ثم رميهم في البئر، ولم تتوقف تلك الوحشية عند ذلك الحد، بل تعدى ذلك إلى حرق أحد "الكلاب" ورميه أيضا في نفس البئر، وكأنه أراد التعبير بأن المواطنين الجزائريين ممن يطالبون بالاستقلال لا يختلفون عن الكلاب. كما قام مسؤول الجيش الفرنسي في بلدية بني عزيز الشمالية بجمع مواطني جميع القرى، وفرض عليهم أداء الصلاة باتجاهه وليس باتجاه القبلة، ومن يرفض ذلك فإن مصيره الإعدام.
وتذكر العديد من المصادر التاريخية أن فرنسا استعانت في ذلك الشهر أيضا بالقوات الجوية، وقامت بالتحليق فوق القرى والمداشر ثم قنبلتها بقنابل تزن ما بين 10 إلى 100 كيلوغرام، والهدف هو إبادة وحرق تلك المناطق بالكامل.
أحمد خليل

جمعية 8 ماي 1945 بقالمة
من أجل ذاكرة لا تنسى الجريمة و تنصف الضحايا الأحياء

منذ تأسيسها سنة 1997 ظلت جمعية 8 ماي 1945 رمزا للذاكرة التاريخية و رابطا قويا بين جيل الانتفاضة التاريخية و الأجيال المتعاقبة التي تسعى لمعرفة تاريخ الأجداد و تضحياتهم و العمل على حمايته من النسيان حتى لا تفقد الأمة تلك المآسي التي لحقت بها منذ أن وطأت أقدام الاستعمار أرض الوطن قبل 192 عاما.  و قاد الجمعية الكثير من الرموز التاريخية التي شاركت و عايشت مجازر ماي الأسود بينهم الراحل الساسي بن حملة و الراحل عبد الله يلس، و غيرهم من النخب التي أسست للنضال و الكفاح المسلح بولاية قالمة التي تعد من أهم قلاع الثورة و التحرر بالجزائر.  و تحملت الجمعية عبئا كبيرا لجمع أرشيف مجازر 8 ماي 1945 بقالمة، من صور للضحايا و المفقودين، و تسجيلات صوتية و تقارير و كتابات تؤرخ لتلك الحقبة الدامية من تاريخ الجزائر المليء بالأحداث و المآسي.

   فريـــــــــــد-غ
و مازال مقر الجمعية وسط مدينة قالمة يحتفظ بالكثير من الشواهد المادية على الجريمة، التي تقول الجمعية بأنها جرائم لا تنسى مهما مر الزمن، و على الأجيال المتعاقبة أن تواصل المعركة ضد النسيان و تستلم مشعل الجمعية بعد أن رحل قادتها و مؤسسوها الأوائل تباعا، و كان آخرهم الراحل عبد الله يلس أحد جرحى الانتفاضة المباركة التي مهدت الطريق إلى الثورة المقدسة التي كسرت شوكة الاستعمار و مرغت جبروته في التربة الزكية الطاهرة. 

عبد الوهاب عبداوي رئيس جمعية 8 ماي 1945 بقالمة
هدفـنا الاعتراف بالضحايا كشهـداء و جــــبر ذويهــــم
 قال رئيس الجمعية عبد الوهاب عبداوي للنصر بأن الهدف الرئيسي للجمعية هو الاعتراف بالضحايا كشهداء بعد أن ظلوا مقيدين كأحياء في سجلات الحالة المدنية، و منهم من أعدم و منهم المفقود إلى اليوم، م من غير المقبول أن يبقى الوضع هكذا خاصة و أن أحفاد ضحايا مجازر 8 ماي 1945 ينتظرون هذا الاعتراف منذ سنوات طويلة.    و تناضل الجمعية منذ سنوات من أجل إيجاد مخرج قانوني ينصف هؤلاء الضحايا و يصنفهم كشهداء حتى لا يبقوا مسجلين كأحياء في سجلات الحالة المدنية، و هو إشكال تاريخي و قانوني يتطلب قرارات شجاعة ربما ستكون في المستقبل بعد أن تحول هذا اليوم التاريخي إلى يوم للذاكرة الوطنية.
و حسب رئيس الجمعية عبد الوهاب عبداوي فإن رقمنة الأرشيف التاريخي الهام عملية مهمة و ربما ستتحقق قريبا بعد الحصول على مقر جديد يتوفر على كل الإمكانات و ظروف العمل الملائمة، مضيفا بأن صيانة و إحصاء المواقع التاريخية الخاصة بمجازر 8 ماي 1945 تعد أيضا من بين المهام الرئيسية للجمعية التي تسعى إلى تصنيف المزيد من المواقع المخلدة لتلك المجازر الرهيبة التي أودت بحياة الآلاف من المدنيين العزل، موضحا بأن بعض المواقع بمدينة  قالمة كانت مسرحا للقتل و الاعتقال و مقرا سكنيا لقادة بارزين لكنها لم تصنف إلى اليوم، بينها الموقع المسمى «كور باركو» وسط مدينة قالمة.  و حتى لا يضيع الأرشيف الثمين يرى المهتمون بتاريخ المنطقة بأنه أصبح من الضروري رقمنة هذا الأرشيف حتى لا يضيع تحت تأثير عوامل عديدة بينها عامل الزمن، و تحتاج الجمعية إلى مزيد من الدعم المادي و المعنوي حتى تنجز المهمة قبل فوات الأوان، و تجند كل كوادرها البشرية لجلب المزيد من الأرشيف المتعلق بتلك المأساة الإنسانية، و تكوين ثروة مادية تبقى محفوظة للمؤرخين و الباحثين و الأجيال القادمة. 

إبراهيم عفيفي الأمين العام لجمعية 8 ماي 1945
ما حدث بقالمة كان جريمة ضد الإنسانية هدفها انتزاع الأرض من ملاكها
يرى إبراهيم عفيفي الأمين العام لجمعية 8 ماي 1945 بقالمة بأن عملا كبيرا مازال ينتظر الأعضاء الذين تسلموا المشعل من القادة الراحلين، و ذلك للمحافظة على الذاكرة و إدانة الجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبها قادة فرنسا الاستعمارية في حق المدنيين الجزائريين العزل الذين خرجوا بقالمة و مناطق أخرى من الوطن، في مسيرات سلمية احتفاء بنهاية الحرب العالمية الثانية و المطالبة باستقلال الجزائر.  
و قال إبراهيم عفيفي بأن الأرض كانت الدافع الكبير لإبادة عائلات بأكملها ليستحوذ الكولون عليها بعد أن رفضوا بيعها لهم، و لهذا السبب أبيدت عائلات بأكملها و لم يبق منها أحد.  
و أضاف المتحدث للنصر بأن مطلب الاعتذار سيبقى قائما لدى الشعب الجزائري حتى تستجيب فرنسا الاستعمارية و تعترف بما اقترفته من قتل و اختطاف و تعذيب في حق المتظاهرين و مناضلي الحركة الوطنية، الذين قادوا تلك المسيرة و الانتفاضة التاريخية الخالدة، داعيا إلى اعتبار يوم 8 من كل عام يوم عطلة بعد أن أصبح يوما للذاكرة الوطنية. 

عمار بوحفص العضو المؤسس لجمعية 8 ماي 1945 بقالمة
على الشـــــــــباب حمـــــل المشــعـــل و المـــحافــــــظة على الذاكـــــــرة
دعا عمار بوحفص الذي أصبح طريح الفراش، الشباب و كل الغيورين على تاريخ الجزائر إلى مواصلة النضال حتى لا يطوي النسيان مجازر ماي الأسود و معها كل الجرائم التي ارتكبها الاستعمار الفرنسي في حق الشعب الجزائري الأعزل قبل و أثناء ثورة التحرير، مؤكدا للنصر بأنه لا أمة بدون تاريخ، و للجزائر تاريخ حافل سيظل ينير درب الأجيال القادمة حتى تتذكر تلك المآسي الدامية التي تعرض لها الأجداد على مدى سنوات النضال و الكفاح و الانتفاضات التي لم تتوقف، حتى اندلع الكفاح المسلح مؤذنا بنهاية ليل الاستعمار الطويل.
و مع حلول كل ذكرى من ذكريات ماي الأسود تكون جمعية 8 ماي 1945 بقالمة في مقدمة الحدث التاريخي من خلال الأنشطة و الندوات التاريخية و المشاركة في الاحتفالات الرسمية و المسيرة الصامتة التي اعتاد عليها سكان ولاية قالمة كل عام، للتنديد بالجريمة و تذكير المجرمين بمسؤوليتهم عن ما حدث في تلك الحقبة الزمنية الدامية.  و في كل مسيرة صامتة من مسيرات السنوات الماضية بشوارع مدينة قالمة، يكون عمار بوحفص في المقدمة، و يعيد قراءة بيانها التاريخي بنبرة حزينة و تأثر كبير، داعيا إلى الاعتراف و الاعتذار، و جبر الضحايا الذين مازالوا مقيدين كأحياء في سجلات الحالة المدنية، و أصبح أهاليهم في حاجة إلى قرار وطني شجاع ينهي الوضع القانوني الغامض لهؤلاء الأبطال الذين اعدموا ظلما و بدون محاكمة، و أحرقت جثثهم الطاهرة بأفران الجير الرهيبة و كوشة الياجور.
و تعول جمعية 8 ماي 1945 بقالمة على المؤرخين الجزائريين و المثقفين و طلبة الجامعات لمواصلة المسيرة و حمل المشعل، حتى لا تتعرض الجمعية التاريخية للنسيان و الاندثار بعد رحيل قادتها و مناضليها الأوائل.

بين الجمعية و متحف المجاهد
أرشــــــــــــــيـــــــــــــف تــــــــاريــــــــــخــــــــــــي هـــــــــــــام
 تحتفظ الجمعية و متحف المجاهد بقالمة بأرشيف ثمين من الكتابات و الوثائق، و تقارير القادة الفرنسيين بالجزائر و مليشيا آشياري و المعمرين الذين قادوا عمليات القتل و التعذيب و الاختطاف، إلى جانب صور قادة و ضحايا المجازر و فريق ترجي قالمة العريق، الذي كان مشعلا منيرا للنضال و الحركة الرياضية في تلك الفترة من تاريخ الجزائر.
  و قرر الفريق العريق ارتداء اللون الأسود بعد المجازر حزنا على الضحايا و تضامنا مع أهاليهم بمدن قالمة، بلخير، بومهرة احمد و هليوبوليس مدينة الشمس التي كان لها النصيب الأكبر من الإعدامات و الحرق بكاف البومبة و أفران الجير الرهيبة.
و كانت منطقة هليوبوليس معقلا لكبار المعمرين الذين استولوا على أجود الأراضي الزراعية و حولوا الجزائريين إلى خماسة و عبيد بحقول القمح و بساتين البرتقال، بينهم المعمر «لافي» الذي أقام إمبراطورية للقمح بسهل سيبوس الخصيب، و مازالت مطحنته العملاقة إلى اليوم بمدينة هليوبوليس، شاهدة على حقبة دامية من تاريخ المنطقة و الجزائر كلها.   
و عشية كل ذكرى من ذكريات ماي الأسود  يجتمع مكتب جمعية 8 ماي 1945 لوضع برنامج الاحتفال، و المشاركة مع السلطات المدنية و العسكرية التي لا تدخر جهدا في إحياء الذكرى و ترسيخها لدى الأجيال المتعاقبة حتى لا تنسى ما حدث للأجداد القدامى.   
فريد.غ

الدكتور بوعبد الله عبد الحفيظ (رئيس قسم التاريخ بجامعة اليامين دباغين الهضاب- سطيف 02)
المجــــازر انتقــــام فرنــسي من تنامـــي المدّ الوطنــــــي

يقول الدكتور بوعبدالله عبد الحفيظ ، إن مجازر الثامن ماي كانت مقصودة من السلطات الاستعمارية الفرنسية، بهدف كسر الجهود الوطنية التي كانت في النشوء في الأربعينيات، والتي كان الغرض من تأسيسها هو المطالبة بتقرير المصير والاستقلال، مضيفا أن الأحداث كانت "نقطة تحول إيجابية" في مسيرة الحركة الوطنية، لأنها أنشأت في النهاية جيلا جديدا من المناضلين الذين يؤمنون بفكرة "الكفاح المسلح" لطرد المستعمر.

وأشار رئيس قسم التاريخ  بجامعة اليامين دباغين بسطيف أن فرنسا بارتكابها تلك الجرائم ضد الإنسانية في حق الشعب الجزائري، قد انتهكت قواعد القانون الدولي وحقوق الإنسان، مؤكدا أن عدد الضحايا الجزائريين جراء الآلة الإجرامية الفرنسية قد تجاوز رقم خمسة ملايين شهيد، في الفترة الممتدة ما بين 1830 إلى 1962.
 - هل ترى أن مجازر مظاهرات 08 ماي 1945، تعد منعطفا هاما في مسيرة "الفكر التحرري" للشعب الجزائري، حول ضرورة الإعداد منذ ذلك التاريخ في التحضير العسكري لتحقيق الاستقلال، دون انتظار الوعود التي تقدمها السلطات الفرنسية أو حتى اجتهاد النخب السياسية الجزائرية آنذاك في انتزاع حق تقرير المصير سلميا؟
إن 8 ماي 1945 يبقى محطة مؤسسة و فاصلة من تاريخ الجزائر المستقلة. هذه الأحداث لم تأت عفوا، ولم تكن حادثة تسبب فيها بعض الأشخاص أو المنظمات، بل هي تسلسل تاريخي فرضته الأحداث المتتالية، وحتمته الظروف القاسية المعيشة، لقد كان هناك بين الجزائريين وبين الاستعمار سباق ضد الساعة فإما أن يأخذ الاستعماريون دفة الحكم بيد من حديد ويعيدون الحالة في الجزائر إلى ما كانت عليه قبل الحرب، وإما أن يتقدم الجزائريون إلى كسر شوكة الاستعمار ،وفرض وجودهم كأمة تسعى لتحرير نفسها" ، وحتى ولو لم يشارك الجزائريون في هذه المظاهرات لدبرت فرنسا مجازر أخرى ربما تكون أكثر وحشية وتاريخها الاستعماري مليء بذلك.
     ومجازر 8 ماي دخلت التاريخ على أنها إحدى أحلك صفحات الاستعمار الفرنسي للجزائر، ففي ذلك اليوم الأليم وبينما كان العالم يحتفل بانتصار الحلفاء على ألمانيا النازية، تحولت الاحتفالات إلى مأساة في كل من سطيف و قالمة وخراطة ومناطق أخرى من البلاد.
    الواقع أن الإدارة الاستعمارية حاولت أن تنتقم من تنامي المد الوطني الذي أصبح يعبر عنه المستعمر بلفظ العاصفة، وفي هذا الصدد تذهب بعض الدراسات التاريخية إلى تأكيد فكرة أحداث 08 ماي 1945 كانت أحداثا مقصودة من قبل المستعمر، هدفها تحطيم الوطنية الجزائرية التي أخذت في النشوء والتطور  والقضاء على كل مبادرة غرضها التحرر والاستقلال وفي هذه الأثناء كان قد تشكل حزب أحباب البيان والحرية في مارس 1944 بمدينة سطيف، وعندها جاءت فرصة الانتقام من الحركة الوطنية التي أخذت تثير مخاوف الإدارة الفرنسية.
    إن صدى هذه المجازر ووقعها على الشعب الجزائري كان شديدا، كما أن تأثيراتها على مجرى الحركة الوطنية بدا بارزا للعيان؛ فهي لم تنه روح المقاومة لدى الشعب الجزائري، بل كانت بداية مرحلة جديدة، أعيد خلالها النظر في الإستراتيجية و في وسائل العمل و الكفاح المقبلة، وتتفق كل الدراسات  بأن الحوادث و إن انتهت بعد أيام قليلة لكن عواقبها لم تنته حتى على عواقب السنين، وحتى و إن قضى الفرنسيون على الحركة الوطنية الصاعدة من خلال التخلص من حركة  أحباب البيان و الحرية  إلا أنهم بفعلتهم تلك قد حفروا هوة سحيقة بين الجزائر وفرنسا.
   كما كانت هاته الأحداث المأسوية بمثابة نقطة تحول إيجابية في مسار الحركة الوطنية، وجاءت لتؤكد لمرة أخرى بأنه لا أمل يرجى في ظل النضال في ظل الشرعية الاستعمارية ذلك أن الوجود الاستعماري نفسه هو نفي للوجود الوطني للجزائر وعليه بنت الحركة الوطنية رؤاها و ضبطت خط سيرها النضالي في المرحلة التالية إنه الخط الثوري والتوجه نحو الإعداد للكفاح المسلح، هذا ما سيتكفل به حزب الشعب - حركة الانتصار للحريات الديمقراطية، بعد ذلك من خلال تأسيس المنظمة السرية مطلع سنة 1947م المهيأة أساسا لهذا الغرض.
- هل كانت مجازر الثامن ماي، في تقديركم، فرصة لإظهار الشعب الجزائري "وعيا سياسيا"، بالرغم من التجهيل المتعمد الممارس من قبل السلطات الفرنسية، وتطبيقها التضييق الممنهج في حق النخب الجزائرية السياسية والدينية؟
    كانت هاته الأحداث المأسوية محطة أساسية في تاريخ الجزائر، ونقطة تحول إيجابية في مسار الحركة الوطنية، وجاءت لتؤكد مرة أخرى بأنه لا أمل يرجى في النضال في ظل الاستعمار ذلك أن الوجود الاستعماري نفسه هو نفي للوجود الوطني للجزائر وعليه بنت الحركة الوطنية رؤاها و ضبطت خط سيرها النضالي في المرحلة التالية إنه الخط الثوري والتوجه نحو الإعداد للكفاح المسلح، هذا ما سيتكفل به حزب الشعب - حركة الانتصار للحريات الديمقراطية، بعد ذلك من خلال إنشاء حركة سرية قوية من أجل الكفاح المسلح وهي المنظمة السرية مطلع سنة 1947.
     مثل 8 ماي 1945 بالنسبة إلى عدد من قادة حزب الشعب الجزائري محطة وعي وقطيعة كما أشار إلى ذلك محمد بوضياف هي محطة للوعي بضرورة البحث ما وراء المطالبة البسيطة بالاستقلال، وقطيعة  مع المفاهيم القديمة للكفاح والتنظيم، وهكذا نتج عن أحداث ماي 1945 جيلاجديدا من الجزائريين والإطارات الوطنية ودعاة للكفاح المسلح. .
 كانت لأحداث الثامن ماي 1945 أهمية مضاعفة في تاريخ الجزائر كونها شكلت شهادة دامغة على طبيعة الاستدمار ووحشيته وتجرده من الإنسانية، إضافة إلى كونها نقطة انطلاق مرحلة حاسمة في مسار تجذير الحركة الوطنية وتوحيدها، وبداية عملها على التحضير لثورة التحرير المجيدة بعد أن اقتنعت من خلال تلك المجازر أن الحرية لن تمنح استجابة لوعود مستعمر وإنما تنتزع بالإرادة وبالكفاح المسلح.
- في رأيكم، ما هي الدوافع التي تمنع اليوم فرنسا الرسمية، من الاعتراف بالجرائم المرتكبة في الجزائر طيلة 132 سنة، بالرغم من كون كتابات ومذكرات العسكريين والسياسيين آنذاك، تؤكد مشاركتهم ومساهمتهم في الجرائم المرتكبة ضد الشعب الجزائري الأعزل؟
     ارتكبت فرنسا إبان فترة احتلالها للجزائر العديد من الجرائم التي كان ضحيتها الشعب الجزائري والأرض الجزائرية معا، مخالفة بذلك قواعد القانون الدولي لاسيما منها القواعد المتعمقة بالحرب، وفي هذا المجال لم يقتصر النقاش حول ضرورة الاعتراف الفرنسي بالجرائم المرتكبة في الجزائر إبان الفترة الاستعمارية فقط، بل امتد هذا النقاش ليشمل طبيعة المسؤولية حول هذا الاعتراف وهي مسؤولية اتجاه الشعب الجزائري الذي انتهكت حقوقه خلال الفترة الاستعمارية، واتجاه المجتمع الدولي بسبب انتهاك قواعد القانون الدولي وحقوق الإنسان. خاصة أنه توجد العديد من الأدلة التي تثبت وجود انتهاكات فرنسية لحقوق الإنسان بالجزائر، منها وثائق وتقارير تثبت هذه الانتهاكات على فرنسا. وجود أضرار لازالت باقية على ضحايا هذه الانتهاكات وجود بعض اعترافات فرنسية بالجرائم التي ارتكبتها فرنسا في الجزائر، ومنها : اعتراف الجنرال بول أوساريس بجرائمه وجرائم الجيش الفرنسي أثناء حرب التحرير في كتابه  مصالح خاصة، وهي الاعترافات التي فضحت كل الذين ينكرون الجرائم التي اقترفتها فرنسا في حق المناضلين من الشعب الجزائري، خاصة بعد اعتراف هذا الجنرال بقتل المتهمين دون إحالتهم على القضاء، واعترافه أيضا أن التعذيب كان ممارسا بكثرة في الجزائر، وكذلك اعتراف الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند في إحدى زياراته للجزائر بأن الاستعمار الفرنسي للجزائر كان جريمة وظلما قاسيا على الشعب ،وكذلك اعتراف الجنرال ماسو رئيس جهاز المخابرات الفرنسية السابق بالجزائر كانت هناك عمليات تعذيب وإعدامات سريعة كانت تمارس بطريقة روتينية خلال الحرب (1954 - 1962) .
  إن الإرث الاستعماري سيلاحق فرنسا، فهي لا تريد الاعتذار لأنها ارتكبت مجازر مروعة، حيث قتل أكثر من خمسة ملايين منذ 1832 إلى 1962، وضمنها مجازر جماعية، حيث أبيدت بعض القرى والمدن عن كاملها، كما تخشى الاعتذار أو الاعتراف بجرائمها، لما يترتب عن ذلك الاعتراف من آثار معنوية وقانونية(المسؤولية بنوعيها الجزائية والمدنية) ، ويدعم حق الضحايا الجزائريين في المطالبة بالتعويض، فارتكاب الدولة لفعل غير مشروع دوليًّا يترتب عليه مسؤوليتها الدولية، وهو أحد الجوانب الأساسية التي عملت الحكومات الفرنسية المتعاقبة على تجنُّبها.
     كما اعتقد أننا نحن الجزائريون لم نقم بخطوات جادة من أجل إرغام فرنسا على تقديم الاعتذار، فهل سنّ برلماننا قانونا يجرّم الاستعمار؟ ،علما أن البرلمان الفرنسي أصدر قانونا يعتبر الاستعمار الفرنسي في العالم ظاهرة إيجابية نشرت الحضارة في البلاد المستعمرة.
- صرح رئيس الجمهورية، عبد المجيد تبون، أن مجازر الثامن ماي من أهم الملفات العالقة بين الجزائر وفرنسا، هل ترى أن الوقت الراهن فرصة سانحة لإعادة فتح جميع ملفات الذاكرة المشتركة بين البلدين، خاصة بعد انتهاء الانتخابات الرئاسية الفرنسية وانتخاب الرئيس مانويل ماكرون لعهدة ثانية؟
     لا تزال ملفات الذاكرة والتاريخ من المحددات الرئيسية في تحديد بنية وطبيعة العلاقات السياسية بين الجزائر وفرنسا، وملف الذاكرة في غاية من التعقيد، ومواقف الطرفين متناقضة، تطالب الجزائر فرنسا بالاعتذار عما ارتكبته من جرائم في الحقبة الاستعمارية بينما ترفض الأخيرة، متذرعة بضرورة النظر إلى المستقبل، وليس إلى الماضي، محاولة التقليل من حجم الجرائم المقترفة في حق الجزائريين ، قائلة إنه لا يمكنها أن تنخرط في سلسلة اعتذارات لا نهاية لها، لأن عمل الذاكرة من اختصاص المؤرخين. بل سارت على نهج مخالف لأي مقاربة التسوية ملف الذاكرة، حيث أقر برلمانها في فيفري 2005 قانون تعترف به فرنسا بدور الفرنسيين خلال الحقبة الاستعمارية.
    إن مجازر 8 ماي 1945و الاعتراف بالجرائم ضد الإنسانية المرتكبة فيها تمثل المحور الأساسي لمسألة الذاكرة القائمة بين الجزائر و فرنسا ولذلك اختير كيوم وطني للذاكرة ،إضافة إلى ملف الأرشيف، وملف الجرائم النووية في الصحراء الجزائرية، ثم ملف ما تبقى من جماجم شهداء الثورات الشعبية وغيرها.
    وفيما يخص الجدل القائم بيننا كجزائريين مع الفرنسيين حول الذاكرة والتاريخ ،فإن التاريخ يجمع الجزائريين والفرنسيين، لكن الذاكرة تفرقهم، إن الفرنسيين بحاجة إلى شجاعة سياسية للاعتراف بالأخطاء التي وقعت خلال المرحلة الاستعمارية ، وأن أهم العراقيل التي وقفت في وجه كتابة  موضوعية للتاريخ ، هي أن فرنسا لما خرجت من الجزائر في 1962 أرادت نسيان خسارتها للجزائر، وليست الدولة وحدها التي أرادت نسيان هذا التاريخ ، بل المجتمع الفرنسي أيضا أراد النسيان وهنا ننتقد الصمت الكبير للسياسيين الفرنسيين إزاء التاريخ الفرنسي الطويل مع الجزائر.
   في ملف الذاكرة ترفع الجزائر من سقف شروطها مقابل أي خطوة اتجاه مصالحة تاريخية مع فرنسا لا تنزل عن سقف الاعتراف والاعتذار عن الماضي الاستعماري، بعيدا عن الاستعلاء الذي تضمنه تقرير بنجامين سطورا حول ملف الذاكرة بين البلدين الذي اعتقد أنه جاء مخيبا للآمال  ويكتفي بالرمزيات دون الاعتراف بالجرائم الاستعمارية وأنه يقترح معالجة الذاكرة المشتركة بشكل غير حقيقي ومتوازن ويساوي بين الضحية والجلاد. كما أن الفرنسيين بتوجههم لتجزئة ملفات الذاكرة وشخصنتها يحاولون التنصل من جريمة الدولة، ويسعون لإعطائها الطابع الشخصي عوض التعامل معها كمنظومة.
حاوره: أحمد خليل

الدكتور كمال خليل أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر  قسم التاريخ والآثار بجامعة محمد لمين دباغين - سطيف 2
مجـــــازر الثامن ماي مهّدت الطريــق لقيـــام الكفــاح الثـــوري

يؤكد الأستاذ في قسم التاريخ والآثار بجامعة لمين دباغين بسطيف، الدكتور كمال خليل، في حديث للنصر أن السلطات الفرنسية ومباشرة بعد انتصار الحلفاء في الحرب العالمية الثانية، أطلقت يدها للمعمرين الأوروبيين والعسكريين، لممارسة الأفعال الوحشية اتجاه شعوب المستعمرات، وذلك حتى "لا تشوّش عليها" فرحة الانتصار، مضيفا أن المجازر الوحشية في الثامن ماي "لم يتم تدويلها" في لحظتها، بسبب اعتماد السلطات الفرنسية الغلق المحكم لمستعمراتها دون السماح لشعوبها الاتصال بالخارج.

ويرى الأستاذ خليل كمال ضرورة التحلي بالشجاعة الكافية، من أجل فتح صفحة جديدة في الذاكرة بين الجزائر وفرنسا، وتناول الكثير من المواضيع العالقة والشائكة بكل صدق من الطرفين.
- هل يعتبر تاريخ 08 ماي 1945، بمثابة "القطيعة النهائية" للفكرة التي روّجتها السلطة الاستعمارية حول "الجزائر فرنسية"؟
الحقيقة  أن مجازر 8 ماي 1945 جاءت في ظرف عالمي و وطني حساس، أي نهاية الحرب العالمية الثانية وتوقيع الهدنة وانتصار الديمقراطية على الفاشية، واعتبرت فرنسا بعض المستعمرات مثل الجزائر، والمغرب الأقصى وسوريا تشوش على فرحة انتصارها، لذلك أطلقت يدها للمعمرين والعسكريين في تلك المناطق للقيام بما يريدونه من قمع وقتل وإرهاب. كما جاءت من جانب آخر في غياب السياسيين الجزائريين وقادة الحركة الوطنية لأن فرنسا أوقفت العمل السياسي مع بداية الحرب عام 1939. مع نفي مصالي و وضعه في الإقامة الجبرية في برازافيل، ووفاة الشيخ ابن باديس عام 1940، ونفي الإبراهيمي إلى أفلو. كل ذلك ترك فرحات عباس لوحده معزولا داخل زخم الأحداث التي عرفها العالم والجزائر منذ نزول الحلفاء بشمال إفريقيا في نوفمبر 1942 .
أما مشروع الجزائر الفرنسية لم يكن يؤمن به هؤلاء ماعدا فرحات عباس الذي استمر في مخاطبة الرأي العام الفرنسي حول حقوق الجزائريين، وأن إيمانه بفرنسا لم يفقده النضال داخل بوتقتها، واستمر ذلك حتى الثورة الجزائرية، لكن الفكرة سقطت عند الجزائريين منذ 1945 ومع نضال حزب الشعب الجزائري و دعواته المتكررة للاستقلال.
- في رأيك، هل كانت فرنسا الرسمية جادة في الوعود التي قدمتها للمستعمرات في منح شعوبها حق تقرير مصيرها، وذلك في حال انتصار الحلفاء على حساب دول المحور في الحرب العالمية الثانية؟
مع اندلاع الحروب العالمية الأوروبية ، سواء الأولى أو الثانية  كانت فرنسا تخشى على الجبهة الداخلية ونقصد بها المستعمرات التي تشكل قواعد خلفية لتزويدها بما تحتاج إليه سواء من مختلف المواد كالحبوب، والوقود، والمنتجات المختلفة، وحتى من حيث القوة البشرية التي كانت في الصفوف المتقدمة في صراعات فرنسا الخارجية. ومنذ 1912 ( قانون التجنيد الإجباري ) وهي تقدم الوعود المختلفة للتخفيف من الضغط عليها، وتدرك جيدا أن الشعوب تريد بعض الحقوق الهامشية مثل: المواطنة، والجنسية، والتمثيل النيابي، والمساواة داخل مختلف المجالس، والضمان الاجتماعي، والتعليم الرسمي ... لذلك كانت تقدم ذلك في إطار ضيق للمتعاونين معها ، أو أصحاب النفوذ والعائلات الكبيرة، أو بعض الموظفين .. أما بقية العشب الجزائري الضعيف والمحروم والذي يشكل أغلبية فإن الحرب تأخذ من جهده وقوته وأبناءه ولا تقدم له أي شيء.
لذلك فإن الشعب الجزائري لم يكن يثق في وعود فرنسا لأنه يعرف مدى مقاومتها لممثليه ومنتخبيه والزج بهم في المعتقلات والسجون، لذلك مع نهاية الحرب تنكرت فرنسا لكل ما رفع من شعارات حول الديمقراطية في المستعمرات، واعتبرت مشروع تقرير المصير خاص ببعض الشعوب الأوروبية التي كانت تحت حكم ألمانيا والنمسا وايطاليا واليابان ( القوى المنهزمة في الحرب ) ، لذلك عادت فرنسا إلى مستعمراتها وخاصة الجزائر بوجهها المعهود وهو القمع والعنف والإرهاب الذي امتد طيلة شهر ماي 1945 في كامل القطاع القسنطيني، و انتهى بمقتل أزيد من 45 ألف شهيد.
-ألا ترى أن مجازر الثامن ماي كانت فرصة للتعريف "دوليا" بقضية الشعب الجزائري التوّاق للحرية من الاستعمار الفرنسي؟
لقد ذكرنا آنفا أن مجازر 8ماي 1945 قد حدثت في سياق عالمي دقيق وفريد وهو نهاية الحرب العالمية الثانية، لذلك فإن العالم كان مشغولا بتسويات ما بعد الحرب، وبالاحتفالات بعد سنوات الدم والدموع، لذلك فإن الصحافة العالمية كانت مشغولة بذلك، وهو ما سمح ليد الإجرام أن تمتد إلى الشعب الجزائري في غفلة من الجميع، ولا ننسى أن فرنسا أحكمت إغلاق المستعمرات عن الاتصال بالخارج وخاصة الجزائر، وبذلك عاشت العزلة التامة ورفع المعمرون شعار (( صيد البيكو )). ولم تظهر تلك المجازر في الصحافة العالمية إلا بعد نهايتها أي بعد 25 ماي، حيث كتبت لوموند عن انتفاضة فاشلة، أما بقية الصحافة العالمية  التي كانت تستقي أخبارها من فرنسا التي تؤكد تحكمها في الوضع، وأن العنف الذي وقع له ما يبرره، وحتى اللجنة التي أرسلها "شارل ديغول" لتقصي الحقيقة تم وأدها في حينها وذهب تقرير (( تيبر )) على الرفوف المظلمة. لذلك فإن الصحافة العالمية لم تلعب أي دور يذكر لصالح القضية الوطنية، وهذا ما أدركه الشعب الجزائري الذي اعتبر القضية بينه وبين الاستعمار الذي يجب تصفيته بأي طريقة خاصة الكفاح الثوري.
- هل توصلت النخب السياسية الجزائرية في تلك الفترة، أي بعد انتصار الحلفاء في الحرب العالمية الثانية، ووقوع مجازر الثامن ماي، إلى قناعة "الكفاح المسلح" لطرد الاستعمار دون التفكير مجددا في خيار الكفاح السياسي السلمي؟
الحقيقة أن فكرة العمل المسلح كانت تدور في فكر الكثير من المناضلين خاصة عناصر حزب الشعب الجزائري، وهو ما دفع بالبعض بهم إلى محاولة الاتصال بالألمان خلال الحرب لمساعدتهم بالأسلحة والمال للقيام بذلك، لكن ذلك بقي عملا فرديا لم يمتد داخل أوصال الحزب وهياكله، ومع نهاية الحرب جاءت الأفكار للمطالبة بضرورة القيام بعمل قاعدي يحضر مستقبلا للكفاح الثوري، ونقصد تأسيس المنظمة الخاصة عام 1947 خلال مؤتمر الحزب، وقد رفع حسين آيت أحمد ( تقرير زدين) تقريرا يبين رأي الشبان حول هذا الطريق. ومن هنا بدأت هذه المنظمة في العمل الدؤوب في تنظيم صفوفها، وشراء الأسلحة، والتدريب، والدخول في العمل السري، وبذلك شقت طريقها للكفاح الثوري الذي اندلع يوم الفاتح من  نوفمبر 1954 .
على الرغم من الضربة القاصمة التي تعرضت لها منذ مارس 1950 ( اكتشافها في قضية تبسة )، لكنها تعتبر النواة الحقيقية التي قادت إلى الثورة، أما باقي المؤسسات  التي جاءت بعدها فقد قامت على أنقاضها وكانت بالفعل الجهاز الذي أنهى أي علاقة بالاستعمار.
-ألا ترى أن قانون تمجيد الاستعمار المصادق عليه من قبل البرلمان الفرنسي بتاريخ 23 فيفري 2005، هو "رسالة مشفّرة" من قبل النخبة الفرنسية بعدم اعترافها مستقبلا بالجرائم الإنسانية التي ارتكبتها طيلة تواجدها في الجزائر؟
الحقيقة أن هذا المشروع جاء في سياق وظروف خاصة خلال مرحلة الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي الذي وقع تحت ضغط اليمين الفرنسي والاعتراف بكل من دافع عن الاستعمار الفرنسي مثل الحركى والقومية واللفيف الأجنبي، وهو ضرب لمعاهدة الصداقة الجزائرية الفرنسية التي تأجلت إلى الآن. و هذا المشروع من الصعوبات والمشاكل التي تواجه الطرفين في محاولة تجاوز عقبة الذاكرة ومد جسور التعاون بين البلدين على أساس التعاون والاحترام. لذلك نجد أن هناك أطرافا في الإليزيه مازالت أسرى أفكار وأحلام قديمة لم تستطع التحرر منها وهي التي تعيق مد الجسور بين الشعبين لتجاوز هذه الحقبة المؤلمة. لكن مع مجيء الرئيس إيمانويل ماكرون حاول العودة إلى تصحيح مسار العلاقات بين البلدين، وهو يعمل على ذلك من خلال التقرير الذي رفعه إليه المؤرخ الفرنسي "بينجامين ستورا" مطلع عام 2021 كالاعتراف ببعض الجرائم والاغتيالات، وتسمية بعض الساحات بالأبطال الجزائريين، وفتح الأرشيف الفرنسي للباحثين والمختصين وإعادة جماجم المقاومين الجزائريين ( 5 جويلة 2020)، كلها تدخل في صلب الجهود بين الدولتين للتقارب.
-هل يمكن اعتبار استرجاع الدولة الجزائرية لجماجم الشهداء من فرنسا، خطوة هامة في سبيل الاعتراف قريبا بالجرائم التي ارتكبتها لأكثـر من قرن واحد طيلة تواجدها بالجزائر؟
لقد ذكرنا من قبل أن مجيء الرئيس الفرنسي الحالي إيمانويل ماكرون  إلى سدة الحكم و الذي يعتبر نفسه من الجيل الجديد الذي لم يعش فترة الصدام الفرنسي الجزائري، فهو بعيد عن أي تأثير عاطفي للإمبراطورية الفرنسية الذي مازال يحلم بها الكثير ( اليمين الفرنسي )، قد فتح صفحة جديدة في العلاقات مع الجزائر وما زالت الجهود قائمة يوميا للتحرر من عبء الذاكرة، لذلك يجب توفر الشجاعة من الطرفين ومد الجسور لربط ضفتي المتوسط على أسس صحيحة تقوم على التعاون الحقيقي في جميع المجالات ومناقشة مختلف القضايا العالقة مثل : المفقودين خلال الثورة، وحقول الألغام، وكل الملفات الشائكة. ومن هنا فيجب على الجميع الهدوء والجلوس إلى الحوار البناء الذي يساهم في تجاوز الحقب المظلمة والتصدي للمشاريع الهدامة التي تسعى إلى إبقاء الجفاء بين البلدين ، والذهاب إلى القضايا الآنية ومعالجتها بحكمة كمشكلة الهجرة السرية، والإرهاب، وتبييض الأموال، ومشاكل البيئة وهي كلها تفتح الباب للعمل نحو مستقبل أكثر أمنا وازدهارا للجميع.
حاوره: أحمد خليل

أستاذ التاريخ محمد الصالح فركوس
ليستــــراد كاربونـــال كــان شاهـــدا على مجـــازر قالمـــــــــة
قال أستاذ التاريخ و الباحث في شؤون الحركة الوطنية محمد الصالح فركوس بأن روح الانتقام البغيض و التعالي على الجزائريين العزل، و الرغبة في البقاء على أرض الجزائر، و نهب خيراتها كلها عوامل مباشرة أدت إلى قمع الانتفاضة السلمية يوم 8 ماي 1945 بقالمة، و غيرها من مناطق الوطن الأخرى، و لهذا اغتنم  المعمرون و من ورائهم جنرالات فرنسا بالجزائر فرصة خروج الجزائريين للاحتفال بنهاية الحرب العالمية الثانية، و المطالبة بالاستقلال، لتنفيذ مخططهم الدنيء سعيا منهم إلى إجهاض أي محاولة للمطالبة بالحرية و الكرامة الإنسانية، و استرجاع الأرض.

و أضاف محمد الصالح فركوس متحدثا للنصر بأن فرنسا المنتشية بالانتصار على النازية قد انتهجت خيار القمع و الحصار و مصادرة الحقوق ضد الشعوب المستعمرة، و في مقدمتها الشعب الجزائري، و لذا كان رد الفعل عنيفا داميا يوم 8 ماي 1945 و استمر العنف و التقتيل و الاعتقالات و الاختطافات حتى اندلاع ثورة التحرير، و يخطئ من يعتقد بأن تلك المجازر كانت محدودة و توقفت بعد أيام قليلة.
و تطرق المتحدث إلى الأرشيف الفرنسي الخاص بمجازر 8 ماي 1945 المفرج عنه بين سنتي 2007 و 2008، مؤكدا بأنه اطلع على بعض التقارير السرية التي يتحدث فيها والي قسنطينة ليستراد كاربونال عن جولة الاستطلاع التي قادته إلى قالمة بعد الانتفاضة الدامية، قائلا بأنه شاهد عددا كبيرا من الجثث لم تدفن على جوانب الطرقات و الحقول و الأودية بمنطقتي بلخير و بومهرة أحمد الواقعتين بسهل سيبوس الكبير، أين وقعت أكبر المجازر على امتداد عدة أشهر.
و أضاف محمد الصالح فركوس بأن التقارير المتعلقة بتلك المرحلة أوضحت بأن والي قسنطينة كان محاطا بكبار القادة العسكريين عندما زار قالمة عقب الانتفاضة الدامية التي تعتبرها فرنسا مجرد أحداث، و كان من بين المرافقين رئيس دائرة قالمة السفاح آندري آشياري قائد مليشيا الموت بمدينة قالمة و سهل سيبوس بأكمله، أين كان يعيش كبار المعمرين الذين استولوا على أجود الأراضي الزراعية بالمنطقة.
و حسب المتحدث فإن القمع و القتل و الاختطاف و التعذيب لم يكن دون موافقة وزير الداخلية «أدريان تيكسي» و الحاكم العسكري بالجزائر الجنرال «ديفال»، اللذين أطلقا يد المعمرين تقتل و تختطف و تعذب مناضلي حزب الشعب و جمعية العلماء المسلمين، و الكشافة الإسلامية الذين قادوا الانتفاضة التاريخية التي مهدت لقيام حرب التحرير بعد سنوات قليلة من مأساة ماي الأسود.
فرنسا لم تكن تؤمن بالسلمية و حقوق الإنسان
و حول أرقام الضحايا قال محمد الصالح فركوس بأنه مهما كان العدد فإن قتل مواطن جزائر واحد ظلما و بدون محاكمة يعد جريمة ضد الإنسانية يعاقب عليها القانون الدولي، مضيفا بأن الإدارة الاستعمارية تزعم بأن عدد القتلى من الجزائريين لا يتجاوز 1500 ضحية في حين قدر القنصل الأمريكي بالجزائر عدد الضحايا بنحو 45 ألف قتيل دون الحديث عن أعداد كبيرة من المفقودين، و هو نفس العدد الذي صرحت به الحركة الوطنية.
و خلص المتحدث إلى القول بأن فرنسا لم تكن تؤمن بالسلمية و حقوق الإنسان، و لذا كان رد فعلها قويا و دمويا عندما اندلعت انتفاضة 8 ماي 1945 و غيرها من الانتفاضات الشعبية التي لم تتوقف منذ وطأت أقدام المستعمر أرض الوطن.                            فريد.غ  

 

الرجوع إلى الأعلى