اعتبر الأستاذ الباحث في تاريخ الجزائر بجامعة باتنة 01، الدكتور جمال مسرحي، بأن صفحة الاستعمار الفرنسي، يمكن طيها لكن لا يمكن تمزيقها، وربط طي الصفحة بشروط تتماشى ومصلحة البلاد، مؤكدا بأن الجرائم التي ارتكبتها فرنسا الاستعمارية لا تسقط بالتقادم وتعاقب عليها الأعراف والقوانين الدولية، وتطرق الباحث في هذا الحوار مع النصر، إلى الدلالات التي تحملها احتفالية إحياء الذكرى الستينية لاستقلال الجزائر، مبرزا أيضا دواعي الجزائر في مساندة الشعوب المناهضة للاستعمار، وأوضح بأن دور المؤرخ الجزائري إماطة اللثام عن القضايا الخلافية لصد أبواب الفتنة  والمؤامرات الخارجية.

  حاوره: يـاسين عـبوبو

النصر: ما الذي تحمله احتفالات ستينية الاستقلال من دلالات تاريخية وسياسية؟
إن إحياء الجزائر للذكرى الستين لاستعادة السيادة الوطنية وتحرير البلاد من نير الاحتلال الفرنسي الغاشم هي بكل تأكيد أغلى الذكريات التي يحييها ويحتفل ويحتفي بها الشعب الجزائري منذ ستين سنة، بكل تأكيد تحمل دلالات سياسية وتاريخية هامة يمكن أن نلخصها في مجموعة من القيم التي يجب علينا جميعا إدراكها وهي:
1 -تخليد هذه الذكرى في أذهان الأمة الجزائرية باعتبارها تجسد حدثا استثنائيا يمثل عودة الروح لجسد الدولة الجزائرية التي حاول الاحتلال الفرنسي القضاء عليها طيلة قرن ونصف قرن من الزمن.
2 -رسم صورة جديدة للشباب على أن جزائر اليوم ليست جزائر الأمس، جزائر اليوم هي جزائر جديدة ومتجددة بأبنائها برجالها، بنسائها، بجيشها، وبكل فئات المجتمع التي ما فتئت تساهم في بناء وطنها بسواعدها وبعرقها وبفكرها وبجهدها الذي لا ينضب أبدا طالما تعلق الامر بالوطن.
3 -إحياء هذه الذكرى لاستعادة السيادة الوطنية وترسيخها في أذهان الشباب والجيل الصاعد إن دل على شيء إنما يدل بوضوح على عزم قيادة الدولة على إيصال رسالة هامة إلى كل المعنيين في الداخل والخارج مفادها أن الجزائر نعم قد تطوي صفحة الاحتلال اذا توفرت مجموعة من الشروط، وذلك حسب ما تقتضيه مصلحة البلاد، لكنها لن تمزق هذه الصفحة السوداء في تاريخ الاحتلال أبدا، وستبقى لعنتها تلاحق فرنسا الاستعمارية إلى الأبد، وللشعب الجزائري كل الحق في أن يطالب فرنسا بالاعتراف بجرائمها المرتكبة ضد الشعب الجزائري، والاعتذار عنها، ثم تعويض الضحايا، لأن مثل هذه الجرائم لا تسقط بالتقادم وتعاقب عليها القوانين والأعراف الدولية.
4 -التأكيد على ممارسة السيادة الوطنية على التراب الجزائري، وأن الشعب هو السيد فوق أرضه، فهو صاحب السيادة وبالتالي له كل الحق في أن يحتفل باستعادة سيادته على أرضه.
5 -إحياء مثل هذه المناسبات يتيح الفرصة للباحثين وللمهتمين باستحضار المواقف التي اتخذها الشعب الجزائري إزاء الاحتلال الفرنسي، ثم إبراز البطولات والتضحيات التي قدمها الشعب من أجل أن يعيش الأبناء هذه اللحظة التاريخية..
6 -استحضار مآثر القوافل من الشهداء التي قدمت الغالي والنفيس، والاستلهام من تلك الروح العبقرية التي كان عليها الآباء والاجداد، فاستطاعوا بفضلها تحرير البلاد، ثم الاقتداء بها لخوض معركة البناء والتشييد..
 ما القيم التي نستخلصها من احتفاء الجزائر بأول ملتقى لأصدقاء الثورة التحريرية هذه السنة؟
بالفعل، احتفت مؤخرا الجزائر بأصدقاء الثورة التحريرية بأن نُظم ملتقى خاص بهذه الفئة المناضلة، وهي رسالة ذات قيمة حضارية بالغة الأهمية، كما لها بعد إنساني عظيم تؤكد من خلاله الدولة الجزائرية مرة أخرى أنها وفية لمبادئها الثابتة المناهضة لكل أنواع الظلم والاستعباد، وأنها تدعم كل الحركات المكافحة من أجل نيل حريتها، كما أن عقد هذا الملتقى يبرز قيمة حضارية ميزت الجزائر شعبا وحكومة هي أننا لا ولن ننسى فضل الذين ساندونا، ووقفوا إلى جانبنا في كفاحنا المرير ضد أعتى القوى الاستدمارية في  العالم، وأن هؤلاء الذين وقفوا إلى جانبنا هم أيضا أبناء الجزائر، ولهم منا كل الاحترام والتقدير بالأمس في معركة الكفاح واليوم وغدا في معركة البناء والتشييد، وهذا كله يجب أن يكون مبعث فخر واعتزاز لكل جزائري، بل لكل حر أبي باعتبار أن الجزائر كانت دوما قلعة للأحرار في العالم.
 ما الضوابط العلمية في التعامل مع الأرصدة السمعية البصرية للشهادات الحية حول الثورة التحريرية؟
التعامل مع الأرصدة السمعية البصرية للشهادات الحية حول الثورة التحريرية يتطلب مهارة تقنية وكفاءة علمية ومنهجية دقيقة تتماشى مع حساسية الموضوع وأهميته، فمن الضروري جدا تجهيز مراكز الأرشيف والمتاحف التي تحتفظ بهذه الشهادات بالوسائل المتعلقة بعمليات التسجيل، مثل القاعات الخاصة (أستوديوهات) لتوضيح الصوت، ووسائل حفظ تلك التسجيلات في  درجات الحرارة الملائمة تجنبا لتلفها، كما  أن هناك جوانب أخرى مرتبطة بالعملية تتعلق بضبط عملية اختيار الفئة المستهدفة في تسجيل هذه الشهادات ومدى أهميتها، ثم تحديد المحاور الرئيسية التي يجب أن تثار لإبراز الحقيقة ومن ثمة أهمية الشهادة، ثم يأتي الجانب الاكاديمي المتعلق بترتيب الشهادات حسب أهميتها، أو ترتيبها  وتصنيفها كرونولوجيا، وبعد ذلك تأتي عملية التحليل والمقارنة.
 ما الدور المنوط بالمؤرخين الجزائريين لإبراز الحقائق التاريخية حفاظا على الوحدة الوطنية؟
الدور المنوط بالمؤرخين الجزائريين لإبراز الحقائق التاريخية حفاظا على الوحدة الوطنية بلا شك، دور أساسي وذلك كون مادة التاريخ مادة استراتيجية، وهي سيف ذو حدين يمكن استخدامه للبناء، كما يمكن استخدامه للهدم ولنا في استخدام الاحتلال الفرنسي لهذه المادة أحسن نموذج لهدم وتدمير الامة الجزائرية، حيث كرست جهود علمائها في التاريخ والاثار بالخصوص لتوجيه التاريخ الوطني عموديا نحو الشمال لتكريس الهيمنة الأوربية، من خلال تمجيد الفترة الرومانية بكل ما تحمله من دلالات إيديولوجية، في حين أهملت الفترة السابقة للاحتلال الروماني بشكل كبير، وذلك محاولة منها أي من المدرسة التاريخية الفرنسية قطع كل صلة تربط بين الجزائر والمشرق العربي  حضاريا بإهمال المرحلة الفينيقية ببلاد المغرب القديم، ثم استخدام مصطلحات تخدم مشروعها الاستعماري. ومن ثمة فمسؤولية المؤرخ الوطني مسؤولية خطيرة جدا عليه أن يدرك أهميتها من خلال بحثه عن الحقيقة وايصالها كما هي، ثم عليه أي المؤرخ أن يبرز الروابط التي تجمع بين أفراد الأمة وتوحد بينهم، كما أن عليه البحث في مآثر وسير الشخصيات الوطنية التي صنعت تاريخ الأمة في  القديم والحديث، لأن الامة تعيش وتستمد قوتها من شخصياتها ومن رموزها التاريخية، ومعروف ان العدو إذا أراد تدمير مجتمع ما من بين أدواته: ضرب الرموز التاريخية والتشكيك في مسيرتها لخلق الارتباك في صفوف المجتمع، كما أنه من الضروري والواجب على المؤرخ الوطني، توضيح بعض القضايا الهامة التي نثير إشكاليات خلافية او تطرح جدلا في السياق الوطني العام ،حتى يتسنى فتح نقاش شامل حولها للوصول إلى حلول مناسبة تصد أبواب الفتن والمؤامرات الخارجية.
 ما القيم والأهداف التي تنشدها الجزائر من مبدأ عزمها على دعم الشعوب المناهضة للاستعمار؟
إن دعم الجزائر لحركات التحرر في كل العالم سواء في افريقيا أو آسيا أو أمريكا اللاتينية لم يأت من اعتباط أو محل صدفة، بل كان نتاجا لنضال طويل خاضه الشعب الجزائري ضد أعتى أنواع الاحتلال، ومن ثمة فالشعب الجزائري أعرف الشعوب بالاحتلال، وأكثر الشعوب معرفة بأوضاع المقهورين والمعذبين والمستعمرين في العالم، لذلك مساندة الجزائر للشعوب التي تسعى للتحرر نابع من قناعات راسخة ومتجذرة لدى الجزائريين شعبا وحكومة، وله طبعا أولويات رسمتها السياسة الخارجية للدولة الجزائرية عبر ما يمكن أن نسميه  دوائر ثلاث: أولا دائرة القضايا العربية و طبعا تأتي على رأسها أم القضايا وهي القضية الفلسطينية التي يعتبرها الجزائريون قضية مقدسة ويبقى الشعار الذي رفعه الرئيس الراحل هواري بومدين حول الموضوع حيا لدى كل الجزائريين ألا وهو: «نحن مع فلسطين ظالمة أو مظلومة» ثم قضية الصحراء الغربية ومعاناة الشعب الصحراوي الشقيق من القمع والتشريد على يد الالة العسكرية المغربية، والجزائر كما أكد مرارا السيد رئيس الجمهورية لن تتخلى عن واجبها في الدفاع ومساندة الشعب الصحراوي حتى يستعيد سيادته فوق أرضه تحت قيادة جبهة البوليساريو، والدائرة الثانية هي الدائرة الافريقية والتي أعطتها الجزائر منذ استقلالها أهمية بالغة باعتبارنا بلدا إفريقيا ويهمنا استقرار افريقيا و تحررها السياسي والاقتصادي وفي هذا السياق ساندت الجزائر كفاح الشعب الناميبي كما دعمت بكل الوسائل السياسية والعسكرية كفاح شعب جنوب افريقيا ضد سياسة الأبارتيد ولنا في مقولة الزعيم الافريقي نيلسون مانديلا كل الفخر والاعتزاز ببلدنا حين قال: «إن الجزائر هي التي صنعت مني رجلا».
ثم تأتي الدائرة الثالثة وهي دائرة العالم الثالث حيث نجد أن كل حركات التحرر في آسيا وأمريكيا اللاتينية تلقت الدعم العسكري والمادي والمساندة السياسية من الجزائر، فقد دعمنا الفيتنام وحركة التحرير في نيكاراغوا والشيلي وغيرها..
إن دعم الجزائر لهده الحركات يهدف إلى تكريس التضامن بين الشعوب  لا سيما بين الشعوب المستقلة حديثا لمواجهة مستعمر الأمس، أي أن الجزائر كانت تسعى إلى وقت مضى إلى خلق تكتل اقتصادي يجمع بين دول الجنوب في إطار ما سمي بالتعاون جنوب جنوب للمرور بدول العالم الثالث من التحرر  السياسي إلى التحرر الاقتصادي وهو ما عبرت عنه الجزائر في السبعينات من خلال مطالبتها بضرورة إعادة النظر في  النظام الاقتصادي العالمي القائم على الجور في العلاقات الاقتصادية الدولية بحيث يعطي الأولوية لبلدان الشمال على حساب بلدان الجنوب. وقد طالبت الجزائر بضرورة تغيير ذلك الوضع بإنشاء نظام اقتصادي عالمي جديد يأخذ بعين الاعتبار مصالح جميع الدول أي دول الشمال المتطور، ودول الجنوب المتخلف، وهو ما عبر عنه الرئيس بومدين في الأمم المتحدة في خطابه الشهير سنه 1974 بقوله: إن النظام الاقتصادي الحالي تمت صياغته بعيدا عن بلداننا، فيجب أن تعاد صياغته بحضورنا.. «
ويجب ألا ننسى أن الدفاع عن حركات التحرر يعزز مكانة الجزائر الدولية وينمي احترام المجتمع الدولي لها..
 ما تأثير استرجاع الأرشيف الجزائري من فرنسا في كتابة التاريخ؟
طبعا استرجاع الأرشيف من فرنسا له تأثير فعال وإيجابي للغاية على كتابة التاريخ لا سيما الوطني منه، فحصول المؤرخين على الوثائق الارشيفية يتيح لهم المجال لمضاعفة الأبحاث من جهة، ومن جهة أخرى يزيح الغموض ويدعم الكثير من القضايا التي كانت محل شك أو ريب أو تكهنات، فكما هو معروف لدى المختصين أن سلاح المؤرخ وثائقه، إذن فالأرشيف يمنح لنا الوثيقة التي تعطي المصداقية لما يكتبه المؤرخ، وعليه تبقى المطالبة باستعادة الأرشيف من فرنسا مطلبا ملحا لمؤرخي الثورة التحريرية والحركة الوطنية، بل حتى الفترة العثمانية بما أن فرنسا هربت أرشيف الفترة العثمانية عند مغادرتها التراب الوطني بعد استعادة السيادة الوطنية في  سنة 1962.

الرجوع إلى الأعلى