الاعتراف بجرائم فرنسا في الجزائر لا مناص منه

أكد باحثون أكاديميون في العلوم السياسية والتاريخ والقانون، من جامعة باتنة 01 الحاج لخضر، لـ "النصر"، بأن دفع وتطوير العلاقات بين الجزائر وفرنسا يظل مرهونا، بمدى اعتراف فرنسا بجرائمها خلال الحقبة الاستعمارية بالجزائر، واعتبر المتدخلون أن إقرار قانون تجريم الاستعمار الفرنسي للجزائر، يفرض من النخب الأكاديمية إلى جانب المجتمع المدني، الانخراط في النقاشات من أجل رفع الوعي بأبعاد هذا المشروع وتداعياته، والدفاع عن ملف الذاكرة الوطنية، حيث أوضح أستاذ التاريخ الدكتور جمال مسرحي، أن جرائم فرنسا وقائع تاريخية لا مناص منها، وأكدت الباحثة في القانون الدولي الدكتورة رقية عواشرية، أن أركان جرائم الاحتلال لاتزال قائمة، فيما ربط مدير مخبر الأمن الإنساني الدكتور حسين قادري تطوير العلاقات بين الجزائر وفرنسا بتسوية ملف الذاكرة.

إعداد: ياسين عبوبو

الدكتور جمال مسرحي أستاذ التاريخ بجامعة باتنة 01
وقــائع تاريخية تجبر فرنسا على الاعتذار والتعويض



قال أستاذ التاريخ بجامعة باتنة 01 الدكتور جمال مسرحي، إن الشعب الجزائري تعرض إلى احتلال استيطاني لم يتعرض له أي شعب في التاريخ، عدا نماذج محدودة جدا كالهنود الحمر في أمريكا، والشعب الفلسطيني في أرضه المحتلة فلسطين، وارتكب الاحتلال الفرنسي طوال المدة التي اغتصب فيها بلادنا أبشع الجرائم في تاريخ الإنسانية، من الإبادة الجماعية لقبائل بأكملها، إلى استبعاد السكان ومصادرة أراضيهم، إلى تشريد جزء كبير من الشعب الجزائري، وتهجيره عن أرضه إلى غير ذلك من الجرائم التي ستبقى وصمة عار في التاريخ الفرنسي الحديث.
واعتبر أنه من هذا المنطلق، كان على فرنسا أن تدرك أن صيرورة التاريخ حتمية طبيعية، فلا مناص من معالجة هذه القضية وفقا لما يتطلبه الواقع التاريخي، بل واقع العلاقات التي تربط البلدين، باعتبارهما يقتسمان التاريخ والجغرافيا، لكون فرنسا من أهم بلدان الضفة الشمالية للبحر المتوسط، والجزائر لها موقعها الجيوسياسي في الضفة الجنوبية لهذا الفضاء المتوسطي ذو الابعاد الثقافية والحضارية، التي كان من المفروض أن تجمع بين شعوبه لا أن تفرق بينها.
-ويضيف أستاذ التاريخ- بأنه من المعروف أن ما أثار حفيظة الجزائريين وجعل الطبقة السياسية، تشهر ورقة قانون تجريم الاستعمار في وجه السياسة الفرنسية، هو إقرار الجمعية الوطنية الفرنسية سنة 2005 وبإيعاز من الرئيس نيكولا ساركوزي، قانونا يقضي بتمجيد الاستعمار، ويسعى إلى تمرير أفكار عاريه من الصحة، ويدحضها الواقع التاريخي الاستعماري وهي إيجابيات الاستعمار؟ إذ يجمع المؤرخون الذين تطرقوا إلى ممارسات الاحتلال الفرنسي على الأقل في الجزائر، أنه لم يكن هناك شيئا إيجابيا يمكن أن يشار إليه أو يمكن تمجيده.
وأرجع إصرار فرنسا على عدم الاعتراف بجرائمها في الجزائر إلى التهرب من مسؤولياتها التاريخية، لأن الاعتراف يجر إلى الاعتذار، الذي يجر بدوره إلى التعويض، مؤكدا أن مثل هذه الجرائم لا تسقط بالتقادم ومن حق الجزائر شعبا وحكومة أن تطالب الدولة الفرنسية بالتعويض عن تلك الجرائم المرتكبة، واستعادة ما نهبه جنود الاحتلال أثناء غزوهم للجزائر من أموال سواء أموال الخزينة العامة للدولة الجزائرية آنذاك، والذي يقدر بملايير الدولارات وفقا للقيمة الحالية للعملة، والكميات الضخمة من الذهب التي سلبها أيضا جنود الحملة الفرنسية سواء من خزينة الدولة أو من بيوت السكان..
واعتبر أستاذ التاريخ بجامعة باتنة 01، أن القانون بقي حبيس الأدراج بعد أن توقف في وقت سابق دون عرضه على المناقشة بالإضافة إلى الحسابات السياسية التي طغت على الفاعلين في نظام الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة بمن فيهم الرئيس ذاته، واعتبر إرساءه مرتبطا بالتغيرات التي تشهدها الجزائر على جميع الأصعدة، وأن على البرلمان الحالي مسؤولية تناول الموضوع بكل استقلاليه ووفقا لما تقتضيه مصلحة البلاد.

الدكتورة رقية عواشرية أستاذة القانون بجامعة باتنة 01
الاحتلال الفرنسي للجزائر جريمة دولية قائمة الأركان



أكدت أستاذة القانون بجامعة باتنة 01 الدكتورة رقية عواشرية أن تاريخ فرنسا الاستعماري بالجزائر، شهد مجازر منذ دخولها الجزائر وإلى غاية الاستقلال عام 1962، وحتى أن بعض الممارسات لازالت آثارها الضارة إلى اليوم (التجارب النووية في الصحراء الجزائرية، زرع الألغام على طول خطي شارل وموريس)، وهو الوضع الذي اعتبرته لا يشرف البتة الوجه الحضاري «المزعوم» لبلد الحقوق والحريات الذي جاءت به الثورة الفرنسية لعام 1789.
وأكدت المختصة في القانون، أن احتلال فرنسا للجزائر يعد في حد ذاته جريمة دولية كاملة الأركان، لأن الجزائر كانت دولة قائمة بذاتها، وليس كما قال عنها ديغول أنه: «لم تكن هناك أبدا في أي ظرف من التاريخ وتحت أي شكل دولة جزائرية»، والتي أعادها بعد سنوات طوال الرئيس الفرنسي ماكرون، وبذلك يكون النسؤولان واتباعهما قد تجاهلوا تلك الاتفاقيات والعلاقات الديبلوماسية التي كانت بين الجزائر وفرنسا قبل 1830، إلا اذا كان لهم ان يثبتوا أن فرنسا تعاقدت مع نفسها وان فرنسا كانت لها علاقات دبلوماسية مع نفسها، هذا من جانب .
وأضافت المتدخلة أنه من جانب آخر ما جاء في البيان الفرنسي الموجه الى الشعب الجزائري، غداة الاحتلال والذي تضمن إقرارا صريحا باحترام سيادة الشعب الجزائري، وهو تصريح بإرادة منفردة مشكلا لالتزام دولي، وأخيرا وردا على ما كتبه شارل زورغبيب بأه» ولو افترضنا أنها كانت موجودة، فإن الاحتلال و128 عاما من السيطرة الفعلية كانت كافية لنقل السيادة الى فرنسا»، فانه ادعاء بلا أساس قانوني، ذلك أن الاحتلال لا ينقل السيادة، اما الاستناد الى التقادم فهي فكرة منبوذة في القانون الدولي فقها وقضاء، فضلا عن عدم توفر مقوماته.
وأوضحت الأستاذة عواشرية، بأن الجزائر لم تكن أرضا خالية من السكان، مثلما تدعي أطراف تمجد الاستعمار، كما أن سكانها قاوموا التواجد الأجنبي طيلة مدة الاحتلال، مما يحجب شرط الاستمرارية والثبات، حسبها، وأن هناك في الحقبة الطويلة فترات متقطعة من الهدوء، كانت عبارة عن فترات وقف إطلاق النار، هذا من جهة، ومن جهة أخرى عدم ثبوت فعالية الإدارة الفرنسية في الجزائر، لكون الرأي السياسي في فرنسا وقوانينها تجاه الجزائر تبين أن الإقليم الجزائري له وضع خاص يختلف عن التراب الفرنسي.
وفيما تعلق بمساءلة فرنسا عن جرائمها، اعتبرت أن ذلك لا يتأتى إلا باسترجاع الأرشيف الوطني، كونه الدليل المهم لأي دعوى قضائية يمكن ان ترفع في المستقبل لتجريم فرنسا، وقالت بأن سلب الأرشيف الجزائري بنوعيه أرشيف الفترة العثمانية، والحقبة الاستعمارية ونقله الى فرنسا يعد في حد ذاته جريمة من جرائم الحرب، ويعد مخالفا للوائح لاهاي لعامي 1899 و1907 اللتين تحضران تدمير ممتلكات الغير او حجزها.
 وحتى وان تذرعت فرنسا بأن الأرشيف من انتاج أجهزتها الإدارية، حسب الباحثة في القانون فإن اتفاقية فيينا لعام 1983 بشأن التوارث ما بين الدول، وميثاق اليونسكو تقضيان بأن الأرشيف حق للإقليم او الدولة التي انتج فيها بغض النظر عن الطرف المنتج له، وذلك تفاديا لاستغلاله من طرف المعتدي في طمس ذاكرة وهوية المعتدى عليه، وهو ما كانت تصبوا اليه فرنسا فعلا، كما ان هذا الحق –تضيف- يؤكده مبدأ إقليمية الأرشيف ومؤداها ان يبقى الأرشيف في إقليم الدولة الذي نتج فيه، كما يجد الاسترداد أساسه في حق الشعوب في تقرير مصيرها، ويعد التاريخ والذاكرة قوام السيادة.واعتبرت الدكتورة رقية عواشرية، بأن مشروع قانون تجريم الاستعمار، يأتي، بعد تعثر المحاولات التي سبقته كرد فعل لقيام البرلمان الفرنسي بتمجيد استعماره للجزائر، ليشكل لو تم اعتماده ورقة ضاغطة على الحكومة الفرنسية، بالرغم من النقائص التي اعترته ومخالفته لبعض مبادئ القانون الدولي، وذلك راجع لعدم اشراك المختصين في صياغته، والصعوبات العملية التي قد تعترضه خصوصا ما ورد في اتفاقيات إيفيان في إعلان الضمانات تحت عنوان «حماية الافراد» والذي يجسد الإفلات من العقاب.وأكدت الباحثة القانونية، بأن شروط المسؤولية الدولية بشقيها المدني والجزائي ثابتة في حق فرنسا بما لا يدعو للشك لأن هذه الاخيرة ارتكبت كل أنواع الجرائم في حق الشعب الجزائري، من إبادة وجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وكذا الجرائم المستمرة، وهاتين الاخيرتين لا تسقطان بالتقادم ولا تكون محلا للعفو، غير ان الاشكال المطروح- حسبها- يبقى في سبل واليات المحاكمة في واقع الأمر، نظرا لأن اختصاص المحكمة الجنائية الدولية لا يسري على الجرائم التي ارتكبت قبل دخول نظامها حيز النفاذ، تبعا لمبدأ عدم رجعية القوانين، وعليه فهذا الطريق مستبعد، حسب الباحثة وتبقى اليتين احداها حل ضعيف من الناحية الواقعية، ويتعلق الامر بإنشاء محكمة جنائية خاصة لمحاكمة فرنسا عن جرائمها في الجزائر، وهو حل ضعيف لأن هذا النوع من المحاكم ينشأ بقرار من مجلس الأمن، ولا يوجد ما يوحي أن فرنسا ستقبل هذا الأمر بل سوف تشهر حق الفيتو في مواجهته ليصبح كأنه لم يكن. وعليه فان الالية المعول عليها هي المحاكم الوطنية، حسبما تؤكده الدكتورة عواشرية بتفعيل مبدأ الاختصاص الجنائي العالمي، ولكي يؤتي ثماره يجب تضمين هذا المبدأ في القوانين الوطنية بداية بالدولة الجزائرية، وتجريم الأفعال المشكلة لجرائم الحرب والإبادة والجرائم ضد الإنسانية، مشيرة إلى عدم إغفال دور المجتمع المدني في هذا المجال.

الدكتور حسين قادري مُدير مخبــر الأمن الإنســاني
لا يمكن إغـفال ملف الذاكرة في العلاقات بين البلدين



اعتبر الدكتور حسين قادري الباحث في العلوم السياسية ومدير مخبر الأمن الإنساني بجامعة باتنة 01، أن العلاقات الجزائرية الفرنسية لطالما شهدت تجاذبات كبيرة جراء ما يحكمها من ضوابط سياسية واقتصادية، تجعلها تتأرجح بين الصعود والهبوط، ومن بين الملفات الحساسة التي تتحكم في هذه العلاقة، حسبما أكده ملف الذاكرة، قائلا أنه "إذا لم يتمكن الطرفان من ضبط قضايا الماضي فإنه لا يمكن الخوض في رسم المستقبل".
وأكد بأنه، إذا لم يتم الاعتراف بجرائم فرنسا المرتكبة في الجزائر طيلة الحقبة الاستعمارية، ومن ثم تجريم هذه الأفعال الشنيعة وتقديم اعتذار بشأنها، فلن تكون هناك علاقات تؤسس الى وضع جديد يضع البداية على حافة واحدة من الواجبات والحقوق.
وأضاف المتدخل، بأنه مهما تكلمنا عن إرادة البداية في تحسين العلاقة بين البلدين، ومهما تعددت وتكررت، وتكثفت الزيارات مثلما حصل مؤخرا بزيارة رئيسة الوزراء الفرنسية الى الجزائر رفقة 16 وزيرا، فإن الوضع لا يشجع على التقدم في الملفات السياسية والاقتصادية، إلى ما يصبو اليه البلدين، استجابة لتحديات المرحلة الحالية، خاصة حاجة فرنسا الى الطاقة، إلا من خلال التقدم في معالجة ملف الذاكرة والاعتراف وتجريم الحقبة الاستعمارية.

ي/ع

الرجوع إلى الأعلى