هكذا أنار ابن باديس دروب العلم أمام الجزائريات
يعتبر الشيخ عبد الحميد بن باديس شخصية فريدة في التاريخ الجزائري والإسلامي عامة، فقد كانت له رؤية مختلفة للأمور بما في ذلك قضية تعليم المرأة، و هو ما دفعه إلى إنشاء أول مدرسة مختلطة لتعليم الفتيات و الذكور بقسنطينة ألا وهي مؤسسة التربية والتعليم.

ويؤكد باحثون و أعضاء من مؤسسة الشيخ عبد الحميد بن باديس، بأن هذا التوجه عزز وعي المرأة الجزائرية بقضية التحرر، و زاد من مساهمتها الهامة في شحذ همم الرجال، حيث قدموا شهادات تبين مدى انفتاح العلامة على فكرة تعليم الفتيات داخل وخارج الجزائر، و كيف وضع اللبنات الأولى لتكرس تعليمهن عبر الوطن، و استطاع اكتساب ثقة الأهالي رغم تصلب الذهنيات و مضايقات الاستعمار وأتباعه و قدم للجزائر أول دفعة من النساء المثقفات اللواتي وخلافا لتلاميذ المدرسة الفرنسية، كن يتحكمن في اللغتين العربية والفرنسية بالإضافة إلى دراسة الحساب و تعاليم الدين.

بحسب عبد الجليل قربان، أستاذ محاضر بجامعة الأمير عبد القادر، فإن الشيخ بن باديس، كان صاحب رؤية واسعة وشاملة لمشاكل الأمة الجزائرية على رأسها مسألة تعليم المرأة، وهي مشكلة حضارية كانت تطرح بقوة في المجتمع الجزائري إبان الاستعمار. و لهذا استهدفها الاحتلال بالتجهيل ووظف ضدها البدع والخرافات والشعوذة، وأضاف الأستاذ قربان، أن ابن باديس كان يعتبر الضعف الذي يظهر عند الرجال و التخاذل في محاربة الاستعمار، و السير في طريق فقدان الهوية الوطنية، نتيجة لجهل المرأة و تحديدا الأم، التي تقع على عاتقها مسؤولية تربية النشء و الحفاظ على الأخلاق و توجيه الأبناء.
و أوضح، بأن التعليم الإسلامي القائم على القرآن والسنة الذي اعتمده الشيخ بن باديس، مهم لإدراك قيمة المرأة وأهميتها داخل بيتها و في المجتمع عموما، لأنه ساعد على تأهيلها للمشاركة في الثورة التحريرية جنبا إلى جنب الرجل، وهو ما أكده يوسف عباد عضو المكتب الوطني لمؤسسة الشيخ الإمام عبد الحميد بن باديس، مشيرا إلى إن العلامة أدرك أن الرجل وحده لا يستطيع أن يستمر ويجابه الاستعمار، وأنه من المستحيل التركيز على عنصر واحد في عملية إنشاء الحضارة، لهذا فقد رأى ضرورة  تحرير المرأة من الجهل و إطلاعها بدورها و وظيفتها التوعوية.

مدرسة التربية والتعليم جواب العلامة على مئوية الاحتلال
أنشأ الإمام عبد الحميد بن باديس، مدرسة التربية والتعليم ردا على احتفال فرنسا بمئوية احتلال الجزائر 1830-1930، وبحسب الأستاذ قربان فإن فرنسا جمعت مجموعة من الفتيات الجزائريات وأرسلتهن للتمرن على الاستعراض لأجل الاحتفالات، إلا أنهن فاجأن الجميع بخروجهن بلباس محتشم، ومن هنا أدرك الشيخ أن المرأة الجزائرية تكن الحقد لفرنسا تماما كالرجل، وكانت هذه الحادثة نافذة الأمل التي جعلت العلامة يخطو خطوته نحو تأسيس مدرسة خاصة بتعليم الجزائريين والجزائريات.
وأثناء تواجدنا بمؤسسة الشيخ الإمام عبد الحميد بن باديس بشارع العربي بن مهيدي بقسنطينة، التقينا بمسعودة طيار إحدى تلميذات مدرسة التربية والتعليم، التي أخبرتنا أن تأسيس المدرسة كان في سنة 1930 وضمت حوالي ثمانين فتاة من قسنطينة، يُضاف إليهن عدد الفتيات اللاتي كن يحضرن دروس الشيخ فقط دون التسجيل بالمدرسة بشكل دائم، و حسب ما أضافه الأستاذ قربان، فإن عدد المدارس تزايد بمرور الوقت إلى أن وصل إلى حوالي 150 مدرسة حول التراب الوطني، وقد احتوت قوائم جريدتي الشهاب والبصائر على أسماء تلميذات المدرسة الباديسية.

وقالت الأستاذة طيار، إن عمتيها درستا على يدي الشيخ بن باديس، وعلى عكس الفتيات اللواتي كن يدرسن في المدارس الفرنسية، فإن تلميذات الشيخ كن يتقن اللغتين العربية والفرنسية بطلاقة، إضافة إلى تعليمهن التاريخ و الحساب و الأدب و القرآن و الحديث النبوي، كما نظم العلامة أقسامه وكان يفصل المواد عن بعضها البعض، بالإضافة إلى تحديده لحجم ساعي لتقديم المنهاج.
علوم وحرف
وإلى جانب التعليم الأكاديمي، لم يفوت الإمام فرصة إنشاء ورشات لتعليم الحرف، فقد كانت الفتيات يتلقين تعليما منزليا من جهة أخرى، وهو ما علقت عليه الأستاذة طيار، قائلة إنه كان يمتلك نظرة واسعة وتجديدية جعلت المنهاج الذي اعتمده في التدريس مميزا ومفيدا على مستويات مختلفة، كما كان يوظف كُتابا وشعراء ذوي مكانه علمية كبيرة ساهموا في تربية النشء.
وأضافت أن المدرسة الباديسية كانت مختلطة وهو ما أراد الشيخ ترسيخه لدى الجزائريين، وجعلهم يدركون أن المجتمع يسير على خطين متوازيين هما الرجل والمرأة ويلتقيان في شخص واحد وهي العائلة، وهذا شيء جميل يُحسب للمدرسة الباديسية، حسب ما قالته لنا عضو المكتب الوطني لمؤسسة الشيخ الإمام عبد الحميد بن باديس.
واستطاع الشيخ التأثير في ذهنية الرجل الجزائري آنذاك، وكسب ثقة آباء كانوا يرسلون بناتهم للتعلم داخل المدرسة الباديسية، وهو ما أكدته الأستاذة طيار مضيفة :  «كان تعليمي كله في المدارس العربية الحرة نظرا لتوجهات والدي الذي أراد أن يكون تعليم بناته مرتكزا على اللغة العربية، وذلك لاقتناعه بالرسالة التي يحملها العلامة». كما أخبرتنا طيار، أن ابن باديس أراد أن يكون فرقا مسرحية للفتيات بالإضافة إلى برمجته لبعثات تدريسية تضم حوالي ثماني فتيات كان أراد إرسالهن إلى سوريا سنة 1937، لكن الأوضاع التي تسببت فيها الحرب العالمية الثانية عرقلت هذا المشروع.
 من جانبه، قال الأستاذ قربان، إن الشيخ استطاع خلق ثقة متبادلة بينه وبين أهالي الفتيات، كان أساسها من الدروس التي كان يقدمها لسنوات في المساجد، والتي غيرت نظرة المجتمع لفكرة تعليم الفتيات، بعد أن كان السواد الأعظم  من الناس يعتقد بأن تزويج البنات وهن صغيرات أفضل لهن.
ورغم الفكر التطوري الذي أراد بن باديس تفعيله في المجتمع الجزائري وتكريسه لبعض المظاهر العلمية والثقافية التي سعى الاستعمار إلى طمسها، إلا أنه كان دائما يهدف إلى تثبيت العقيدة أكثر لدى النساء الجزائريات، وتمسكهن أكثر بهويتهن والمحافظة على ثقافتهن الإسلامية الجزائرية.

وحسب يوسف عابد عضو مؤسسة بن باديس، فإن العلامة واجه عقبات ومشاكل كثيرة بسبب تعليمه للمرأة خاصة من رجال الطرقية الذين جندتهم فرنسا لعرقلة المسيرة الفكرية والحضارية التي بدأها، ولم تسلم الفتيات المتمدرسات أيضا من هذه المضايقات، إذ قالت لنا الأستاذة طيار، إن زميلاتها كن يسردن عليها ما يتعرضن له من مضايقات كبيرة عندما يخرجن من المدرسة، وذلك من قبل المعارضين لفكرة تدريس المرأة.
إيناس كبير

الرجوع إلى الأعلى