قال المشاركون في ملتقى «الكرمات» التاريخي و الأدبي حول مجازر 8 ماي 1945 المنعقد بقالمة يوم السبت، بأن ما حدث بقالمة و سطيف و خراطة و غيرها من مناطق الوطن المحتل هو جريمة دولة ارتكبتها فرنسا الاستعمارية في حق الجزائريين العزل لثنيهم عن المطالبة بالحرية و الاستقلال و الكرامة، متنكرة لتضحياتهم في الحربين العالميتين الأولى و الثانية، مؤكدين بأن مجازر ماي الأسود غير قابلة للتقادم و لا يمكن أن يطالها النسيان بعد أن قررت السلطات العليا للبلاد اعتماد هذا اليوم الحزين كيوم للذاكرة الوطنية التي ستبقى تجمع كل الجزائريين على مر الزمن و تذكرهم بماضي الأجداد الذين عاشوا الحقبة الاستعمارية و تعرضوا لأبشع أنواع الظلم و الإبادة و التطهير العرقي و طمس الهوية على مدى 132 عاما.

و دعا المتدخلون في الملتقى الذي نظمته جمعية 8 ماي 1945 و متحف المجاهد المعهد الوطني المتخصص في التسيير بقالمة، إلى تكثيف البحوث التاريخية و الكتابة حول مجازر 8 ماي 1945 و إنجاز الأفلام الوثائقية و جمع المزيد من الشهادات و توثيقها و التحدث إلى أحفاد الضحايا أين ما كانوا ليقولوا كلمتهم و يوصلوها من جيل إلى جيل حتى لا تتعطل الذاكرة الشعبية و تبقى الحقب التاريخية المأساوية راسخة في الأذهان و مرجعا تاريخيا تعود إليه الأمة كلما دعت الضرورة و تطلب المستقبل و متغيراته ذلك.
و في رمزية ذات دلالة سجل أحفاد ضحايا مجازر 8 ماي 1945 بقالمة حضورا قويا هذه المرة منذ بداية الملتقيات و الندوات التاريخية حول الذكرى على مدى السنوات الماضية، و قال هؤلاء الأحفاد بأنهم لن ينسوا الضحايا و سيظلون يطالبون بالاعتذار و اعتبار هؤلاء الضحايا كشهداء في سبيل الحرية كما رفع هؤلاء الأبطال شعار « فداء الجزائر روحي و مالي إلا في سبيل الحرية» و هم يغادرون ساحة الكرمات التاريخية بمدينة قالمة في مسيرة سلمية خالدة تحولت إلى بحر من الدماء و عجلت باندلاع الثورة المقدسة و رحيل الغزاة بلا رجعة تاركين ندوبا غائرة في الجسم الجزائري و جراحا تنكأها الأحداث المتعاقبة و الذاكرة الشعبية الحية التي تختزن كما هائلا من الحقائق التاريخية.

* المؤرخ و الشاعر أحمد عاشوري
رفــــع العلـــــم الجزائـــــري كشــــف نوايــــــا المعمريـــــــن
تطرق المؤرخ و الشاعر أحمد عاشوري في افتتاح الملتقى إلى بعض الحقائق الجديدة حول مجازر 8 ماي 1945 بقالمة و عاد بالذاكرة التاريخية إلى الأيام و الأشهر القليلة التي سبقت المجزرة مخاطبا الطلبة و أحفاد الضحايا بأن ما حدث في تلك الأيام الدامية كان مخططا له منذ البداية و كشف عن النوايا الحقيقية للمعمرين و كبار قادة فرنسا المنتشين بالنصر على النازية.
و قال أحمد عاشوري بأن فكرة تنظيم المسيرة السلمية كانت وليدة الحركة الوطنية المتجذرة وسط المواطنين الجزائريين حيث دار نقاش كبير عشية المسيرة حول رفع العلم الوطني وسط أعلام الحلفاء المنتصرين في الحرب العالمية الثانية، و من يرفع العلم و من أين تبدأ المسيرة و الشوارع التي تمر بها و ومقصدها النهائي و محتوى الشعارات التي سترفع فيها و الأناشيد الوطنية التي سيرددها المشاركون.
و حسب المتحدث فقد اتفق منظمو المسيرة على أن تكون الانطلاقة من ضاحية تقع غرب مدينة قالمة فيها سوق للمواشي و أشجار تين و لهذا سميت «الكرمات» و فيها اليوم نصب يخلد ضحايا المجازر و جدارية رخامية لشهداء ثورة التحرير.
و تقرر أن تجوب المسيرة شوارع عنونة و مجاز عمار مرورا بكنيسة صارت اليوم مسجدا بساحة الشهداء وسط المدينة ثم شوارع أخرى باتجاه نصب «جان دارك» راعية الغنم الفرنسية التي أحرقت في ساحة بالعاصمة البريطانية لندن، و صارت بطلة قومية يحتفل بها الفرنسيون في 8 ماي من كل عام كما ذكرى نهاية الحرب العالمية الثانية، و موقع نصب  جان دارك صار اليوم ساحة يتوسطها تمثال للرئيس الراحل هواري بومدين، و لهذا يقول أحمد عاشوري كانت مسيرة الجزائريين في سطيف و قالمة و خراطة في نفس اليوم و هو 8 ماي 1945.  
و قبل أن تصل المسيرة إلى نصب «جان دارك» توقفت بشارع 8 ماي 1945 اليوم، و قرر قادة المدينة من درك و شرطة و رئيس الدائرة و رئيس البلدية تفريق المسيرة و انتزاع العلم الذي كان بيد شاب شجاع وسيم هو علي عبدة الذي يحمل أقدم ملعب لكرة القدم بالمدينة اسمه اليوم.

و كان جزائريون بالشرطة الفرنسية بينهم واحد أطلق النار على الطفل حامد بومعزة المدعو عبد الله فكان أول شهيد يسقط في انتفاضة 8 ماي 1945 بقالمة التي توسعت إلى عدة قرى و مدن كانت هي الأخرى مسرحا للتقتيل و الحرق و التشريد و النهب على مدى شهرين كاملين، في واحدة من أبشع المجازر التي عرفها العالم في القرن العشرين.   
* عمار الشواي للفرنسيين داخل المعتقل
رفعت علمكم لكني لست منكم أعدموني مع إخواني
و في تلك الأيام، يضيف أحمد عاشوري، كانت مدينة قالمة مقسمة إلى أحياء أوربية و أحياء شعبية جزائرية، و كان في المدينة مناضلون شجعان يقودهم كل من مبروك ورتسي و اسماعين عبدة، المخططان الرئيسيان للمسيرة، الشوارع التي تمر منها، من يرفع العلم و المقصد النهائي و الشعارات، حيث تقرر رفع العلم الجزائري مع العلم الروسي و العلم الأمريكي و العلم البريطاني و العلم الفرنسي.
و دار جدل كبير حول من يرفع العلم الفرنسي و وقع الاختيار على شاب يدعى عمار الشواي البطل الجزائري الذي رفض عطف الفرنسيين بالمعتقل عندما أرادوا شكره على رفع العلم و عزلوه عن المجموعة التي تقرر إعدامها ، فقال عمار الشواي بكل شجاعة بأنه جزائري ثائر على ظلمهم و طلب من القائد الفرنسي «أندري آشياري» إعدامه مع نخبة من المناضلين و قادة الحركة الوطنية بالمدينة تم اعتقالهم عقب المسيرة و اقتيادهم إلى الثكنة القديمة أين تم إعدامهم رميا بالرصاص و معهم عمار الشواي رمز الشجاعة و التضحية و الوفاء للوطن و الدين و الأمة. 

* الأديب و الباحث في شؤون الحركة الوطنية محمد برقطان
مليشيا المعمرين استعملت أسرى الحرب الإيطاليين في المداهمات
قال الأديب و الباحث في شؤون الحركة الوطنية محمد برقطان بأن مليشيا المعمرين التي تشكلت بقالمة عقب انتفاضة 8 ماي 1945 قد رفضت تطبيق أوامر الجنرال ديغول بوقف عمليات الاعتقال و القتل و استمرت في دهم المنازل بالمدن و القرى و الأرياف تعتقل و تعدم  بلا حدود في 20 بلدية من بلديات قالمة الحالية، بينها بومهرة أحمد أين قام المعمر شمول باستعمال 14 أسيرا إيطاليا من الحرب العالمية الثانية في عمليات الدهم و الاعتقال و الإعدام السري للجزائريين.
و أضاف محمد برقطان بأنه مقابل 11 معمرا فرنسيا تم قتلهم في انتفاضة 8 ماي 1945 أبادت مليشيا الموت 18 ألف جزائري بقالمة وحدها حسب مصادر غير موثقة، و من بين هؤلاء الضحايا مسافرون بالقطار العابر لمدينة قالمة، حيث كانت الشرطة و الدرك تصعد الى القطار و تنزل الجزائريين الموجودين فيه و تقودهم الى مواقع الإعدامات السرية، كما ورد في مذكرات توفيق المدني الذي كان داخل أحد القطارات لكنه نجا من الاعتقال و القتل حيث حسبته الشرطة رجلا فرنسيا.
مليشيا القتل على الهوية
و حسب المتحدث الذي كتب عدة مؤلفات حول مجازر 8 ماي 1945 بقالمة و الحركة الوطنية و حرب التحرير، فإن مليشيا المعمرين بقالمة كان يقودها 65 شخصا من أعيان فرنسا بقالمة، منهم الطبيب و المهندس و الممرض و المزارع و الصناعي و التاجر.

و كانت هذه المليشيا مدعومة من قوات الشرطة و الدرك و الجيش من ولايات عنابة، سكيكدة و قسنطينة، حيث تم قصف القرى و المداشر بالمدافع و سلاح الجو، و كان القتل على الهوية يطال رموز الحركة الوطنية دون توقف، بينهم 11 عضوا بارزا تم إعدامهم داخل الثكنة العسكرية بعد أن أحضر الجناة إماما و مفتي المدينة البارز لتلقينهم الشهادة.
و عاد محمد برقطان إلى الأسباب التي أدت الى انتفاضة 8 ماي 1945 و عجلت باندلاع ثورة التحرير، موضحا بأن قادة الحركة الوطنية من مناضلي الأحزاب الجزائرية قد وجهوا مذكرة إلى الجنرال ديغول عشية الحرب العالمية الثانية تتضمن المطالبة بدستور جزائري و حكومة جزائرية و تقرير المصير، و كان رد الحكومة الفرنسية بالرفض المطلق و كل ما استطاعت فعله هو منح الجنسية الفرنسية لنحو 500 ألف جزائري.
و بعد هذا الرد تم حل عدة أحزاب و التضييق على نشطاء الحركة الوطنية الذين تكتلوا في تنظيم جديد أسموه أحباب البيان الذي عرف إقبالا كبيرا من الجزائريين حتى بلغ 500 ألف منخرط في السنة الأولى لتأسيسه في 14 مارس 1944،
و بلغ عدد فروعه 165 فرعا عبر الوطن بينها 14 فرعا بقالمة وحدها، و تحولت الأسواق إلى مواقع للنشاط السياسي المتنامي و توجس الاستعمار الفرنسي خيفة من الوضع الجديد الذي قاد إلى انتفاضة 8 ماي 1945 و ثورة التحرير المقدسة.

* المؤلف و الأستاذ الجامعي حسن تليلاني
هذه جريمة دولة و صدمة عنيفة لتأجيل الثورة  
وصف المؤلف و الأستاذ الجامعي حسن تليلاني ما حدث من مجازر في حق الجزائريين العزل بأن جريمة دولة و صدمة مروعة تعمدها الاستعمار الفرنسي لإسكات الجزائريين و ثنيهم عن المطالبة بالحرية و الكرامة و تأجيل الثورة لأطول مدة ممكنة.
و أضاف حسن تليلاني المهتم بالكتابة و التأليف حول تاريخ الحركة الوطنية و الثورة الجزائرية بأن قوة الصدمة التي أحدثها الرد الفرنسي العنيف و الدامي جعلت المؤرخين و المثقفين الجزائريين غير قادرين حتى على الكتابة عن تلك المجازر الرهيبة و توثيقها في حينها بسبب الخوف الشديد و تأثير الصدمة التي أحدثتها المأساة الخرساء كما وصفها كاتب ياسين الذي شارك في المظاهرات و سجن و كتب عنها في مسرحية الجثة المطوقة، و نجمة التي ولدت في السجن الذي كان سببا في جنون أمه و طرد والده من العمل.

و حسب المتحدث فإن البشير الإبراهيمي رئيس جمعية العلماء المسلمين الذي سجن في تلك الانتفاضة الدامية كتب عنها بعد مرور 3 سنوات، ثم تبعه مالك حداد و الربيع بوشامة و عبد المالك مرتاض الذي وصف ما حدث في ماي الأسود سنة 1945 بالجزائر بأنه كان مستوحى من جريمة هيروشيما باليابان.
و يرى حسن تليلاني بأن عدد ضحايا تلك المجازر يفوق 45 ألف قتيل من الجزائريين العزل، مؤكدا بأن الأدب و الكتابة و الإبداع هو من يوثق الذاكرة و يحفظها من النسيان، مشيدا بقرار رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون بإقرار يوم 8 ماي من كل عام كيوم للذاكرة الوطنية.
و ذهب المحاضر إلى القول بأن الاستعمار الفرنسي كان غبيا عندما اعتقد بأن صدمة 8 ماي 1945 ستؤجل الثورة لخمسين سنة قادمة، لكن ما حدث كان مخالفا لذلك حيث عجلت المجزرة الرهيبة باندلاع الثورة و الجهر بمطالب الحرية و تقرير المصير.
و تأسف حسن تليلاني لنقص التأليف و الكتابة حول تاريخ الجزائر، و قال بأنه لا يوجد حتى الآن شريط وثائقي رسمي حول مجازر 8 ماي 1945 التي أصابت الكثير من الجزائريين بالجنون، مشيرا إلى تزايد عدد المجانين بسبب مشاهد القتل و الحرق و التدمير و الإعدامات الجماعية.
و خلص تليلاني إلى القول بأن الجزائريين مقصرون تجاه تاريخهم، متوقعا جيلا جديدا محافظا على الذاكرة و مقبلا على الكتابة و الإبداع و بناء الجزائر الحرة القوية.  
* أحفاد ضحايا مجازر 8 ماي 1945 بقالمة
لن ننسى وسنبقى على العهد

كان حضور أحفاد ضحايا مجازر 8 ماي 1945 بقالمة قويا هذه المرة بمقام الشهيد، منهم المقعد الذي جاء على كرسي متحرك و منهم الطالب و الأستاذ و ربة البيت و الطفل الرضيع، تابعوا مداخلات ملتقى «الكرمات» التاريخي باهتمام بالغ و شاركوا في المناقشات المفيدة و طرحوا الأسئلة الجريئة و جددوا العهد مع قوافل الشهداء الذين سقطوا على مدى 132 عاما من أبشع احتلال عرفته البشرية حتى نهاية القرن العشرين.
و بدا هؤلاء الأحفاد مدركين تمام الإدراك لما وقع بمدينة قالمة و القرى و المداشر التي طالتها مليشيا المعمرين بالقتل و الحرق و النهب، مؤكدين بأنهم سيبقون بذاكرة حية لا تنسى و سيخبرون الأجيال القادمة بما حدث للأجداد من مآسي.
و كلما تم تكريم حفيد من أحفاد ضحايا ماي الأسود تعالت الزغاريد مدوية قاعة المحاضرات بمتحف المجاهد الذي يحتفظ ببعض من ذاكرة الأمة التي تعاقب عليها غزاة كثيرون كان آخرهم أبشع استعمار عرفه التاريخ الحديث.
 فريد.غ

البرفيسور سفيان لوصيف (قسم التاريخ بجامعة محمد لمين دباغين- سطيف 2)
"التقارير الفرنسية صوّرت أحداث 8 ماي  تمــرّدا لتبيــح ارتكــاب جــرائمـهـا"
يقول البروفيسور سفيان لوصيف، إن التقرير الصادر عن محافظ الشرطة المركزي الفرنسي "تور" حول أحداث الثامن ماي 45 بسطيف، يمثل وجهة النظر الفرنسية فقط، وتفاصيله تبين بوضوح التحيز في تحري الأحداث ومجرياتها بمدينة سطيف وضواحيها، والتي كان مهدا للانتفاضة الشعبية العارمة، وكل التعزيزات الأمنية التي كانت والقوات التي حشدت لمراقبة المتظاهرين والتعليمات الصارمة والمشددة التي أعطيت لهم توحي أن هناك سبق إصرار وترصد لكبح أي مطالب سياسية كانت أعطيت من قبل وعود،  ووأد أيّ انتفاضة في مهدها ولو بقتل المشاركين فيها.
كما أشار المتحدث للنصر، إلى أن اعتبار الأمن الفرنسي والمحافظ المركزي للشرطة بسطيف، انتفاضة الجزائريين حركة تمردية، كان غطاء أستخدم من أجل الانتقام من سطيف عاصمة الحركة الوطنية الجزائرية، وارتكاب مجازر رهيبة في حق المدنيين العزل، وهي الممارسات الخارقة للقوانين الدولية والمبادئ الإنسانية، غير أنها لا تحوز موقعا في تقارير الجهات الأمنية الفرنسية ولا إعلامها الذي سار في نهج التحيز الفاضح لتوشيه الوقائع الفعلية.
- كانت لكم عودة بتمحيص ما جاء في تقرير المحافظ المركزي لشرطة مدينة سطيف حول مجازر 8 ماي 1945، بصفته ممثلا بارزا لوجهة النظر الفرنسية، فما هو الدافع إلى البحث في هذا الجانب على وجه التحديد؟
إن فرنسا تسعى وتعمل دائما على طمس الحقائق التاريخية وتشويهها، بما يحفظ مصالحها ويبرئها من مجازر في حق الإنسانية، ومن جرائم غير مسبوقة في حق الشعب الجزائري الذي نطق مطالبا بحقه المشروع من منطلق وعود الاستعمار، وهذا ما يلخصه التقرير الذي أعده ورفعه المحافظ المركزي للشرطة بسطيف الفرنسي "تور" الذي استعرض ما حدث في 7 و8 ماي 1945 من وجهة فرنسية خالصة دون الإشارة إلى منظور الضفة الثانية التي أصبحت دامية، نتيجة التقتيل والإبادة التي تعرض لها الجزائريون الأبرياء على أيدي الضباط والجنود الفرنسيين، وهو حال الإعلام الفرنسي التضليلي. و لهذا، فالوضع يستوجب منا العمل على نقل وجهة النظر الجزائرية بالحجج والأدلة، وبكل موضوعية لأننا في نهاية المطاف أصحاب حق صادقون لا نحتاج إلى تشويه الأحداث لبلوغ حقائق واقعية.
- ما هي المضامين التي حملها هذا التقرير، والتي تثبت المساعي الفرنسية لتجريم الجزائريين الذين اعتبرت مطالبهم الشرعية تمردا عن النظام؟
هذا التقرير عبارة عن نص مفصل حول أحداث الثامن ماي من وجهة نظر فرنسية، استند فيه إلى معطيات استقتها الشرطة بدءا بالتحضير للمسيرة التي نظمتها الحركة الوطنية الجزائرية في سطيف، ثم الاستعدادات الفرنسية لمواجهتها، ووقوع الاشتباك بين المتظاهرين، بما يقود الأحداث نحو مواجهة الاستعمار الفرنسي لحالة تمرد من الشعب الجزائري، ما يتيح له استعمال القوة خلف ستار حفظ النظام العام، وبالتالي تحويل الطرف الأوربي إلى ضحية وتكريس نظرية المؤامرة في تحميل الجزائريين المسؤولية واعتبارهم متمردين وانفصاليين لا سيما الناشطين السياسيين، مثل فرحات عباس  وأفراد الكشافة الإسلامية، كما عمد التقرير إلى دفن الحقيقة التاريخية وطمس آثار الجريمة النكراء والبشعة المرتكبة في حق الجزائريين، حيث لم تتم الإشارة تماما إلى الجرائم وعمليات التقتيل التي ارتكبت في القرى والمداشر النائية.
- إسقاط المزاعم الفرنسية على غرار ما يحتويه تقرير المحافظ المركزي لشرطة سطيف، يتطلب إثباتات تدافع عن وجهة النظر الجزائرية،  فهل توصلتم إلى جزء  منها خاصة ما يتعلق بالنقاط التي جاءت في التقرير الفرنسي؟
في قراءتنا لمضمون تقرير المحافظ "تور"، لا يوجد ما يوحي بوجود جريمة وبسبق إصرار وترصد من جهة، ومن جهة أخرى نجد التقرير يختلف تماما  عما ورد في تقرير "تيبير" الذي يشير إلى العدد الهائل من القتلى الجزائريين، ويؤكد عكس الأطروحات الفرنسية أن الجزائريين كانوا موضوع احتقار من طرف الأوربيين وأنهم بمجملهم يريدون الاستقلال، كما أن الشهادات الموثقة لجزائريين شاركوا في المسيرة، في صورة المناضل محمد الهادي الشريف، تذكر تفاصيل تثبت استعداد الفرنسيين لاستعمال السلاح مسبقا، مبادرين إلى الهجوم على حاملي اللافتات العزل، وتروي تعاقب الأحداث التي وقعت في وسط مدينة سطيف، أين سقط الشهيد سعال بوزيد، وتحول الشوارع الرئيسية للمدينة إلى مسرح لسماع طلقات الرصاص من كل الاتجاهات، من طرف الشرطة والمعمرين من نوافذ العمارات، خاصة في شارع "كليمونصو" الذي يسمى حاليا شارع 8 ماي 1945، بالإضافة إلى الأشرطة الوثائقية التي تكرس بشاعة الجرائم التي ارتكبها الاستعمار في القرى والمناطق النائية، في انتظار تحقيق مكسب استرجاع الأرشيف من فرنسا الذي سيزيل اللثام عن جرائم لا تغتفر في حق الجزائريين.
- بعد استرجاع جماجم الشهداء، يبقى تفاوض الجزائر متواصلا من أجل استرجاع الأرشيف المحتجز لدى فرنسا، فما قولكم في هذا الملف بحكم تواجدكم كباحثين ضمن حلقات الدفاع والحفاظ على ملف الذاكرة؟
أولا، نثمن القرار الجريء لرئيس الجمهورية بجعل يوم الثامن ماي 45، يوما للذاكرة الوطنية، وهذا يؤكد أن الدولة الجزائرية بجهودها الحثيثة تسعى إلى الحفاظ على الذاكرة من خلال استرجاع الجماجم ومسألة التفاوض وتسليم ما تبقى من الأرشيف السمعي والبصري والتاريخي، وكل ما سلبته فرنسا من مخطوطات وكلّ ما يمت بصلة للتاريخ الجزائري، وأعتقد أن الأشهر والسنوات القادمة ستكون حاسمة لاستعادة كل ما سلبه المستعمر الفرنسي من أرض الجزائر.
حاوره: خليل-ل

الدكتور محمد بن ساعو (قسم التاريخ والآثار- جامعة سطيف 2)
" فـرنـسـا استهــدفـت المركز السيــاســي للحــركــة الوطنيــة"  
يرى الدكتور والباحث في التاريخ، محمّد بن ساعو من جامعة سطيف 2 (محمد لمين دباغين)، أن تمركز الانتقام الفرنسي من المتظاهرين على محور سطيف- خراطة- قالمة، مردّه تمركز الحركة الوطنية في سطيف من جهة، ومن جهة أخرى التواجد الكثيف للمعمرين في هذه المناطق، التي تتميز بطابعها الزراعي الخصب الذي استقطبتهم، والذين كان لهم دور فعال في انتقال المظاهرات من طابعها السلمي إلى مجازر دموية بشعة بدعم من القوات الأمنية الفرنسية.
كما يسلط الدكتور نفسه، الضوء على مسيرة الشهيد الربيع بوشامة ومجازر الثامن ماي 45 بمدينة خراطة، باعتبار أنه كان معلما في المدرسة العربية هناك، وشهد المجازر وشارك في المظاهرات، وكلفه ذلك  اعتقاله و الحكم عليه بالإعدام، ومن هذا المنطلق يمكن الانتقال إلى مشاركة جميع الجزائريين باختلاف انتماءاتهم السياسية واختياراتهم الإيديولوجية، بما كانت تدعو له من شعارات التحرر والخروج من رقابة الاستعمار الفرنسي.
- بداية، هل لك أن تعطينا لمحة موجزة عن الشهيد الربيع بوشامة الذي اخترت التطرق إلى سيرته بربطها مع مجازر الثامن ماي بمنطقة خراطة؟
أهم ما ميّز شخصية الشهيد الربيع بوشامة، المنحدر من منطقة قنزات، والذي تزامنت مظاهرات 8 ماي 1945 مع استقراره في مدينة خراطة، هو كثرة حركته وتنقلاته، حيث خاض العديد من التجارب داخل الوطن وخارجه، سواء في إطار المدارس العربية الحرة أو مدارس جمعية العلماء المسلمين التي مثلها في فرنسا من خلال انتقاله إليها على مرتين، ويبدو أن اقترابه من التيار الاستقلالي دفع ببعض المحسوبين على تيارات أخرى داخل الجمعية إلى محاولة عزله عن هذا الفضاء وإعادته للجزائر، وبفضل اللقاءات التي عقدها لاحقا مع العقيد عميروش انخرط في الصورة التحريرية، وكان في تواصل دائم مع الولاية الثالثة رغم أنه كان يقطن في العاصمة ويشغل منصب معلم في مدرسة الثبات، لينتهي به الأمر إلى اعتقاله وتصفيته سنة 1959. وتسليطي الضوء على هذه الشخصية ومنطقة خارطة، بحكم أنه كان فيها عند وقوع مظاهرات ومجازر الثامن ماي.
- هل تعتقد بأن مشاركة هذه الشخصية في المظاهرات ووجود شهادات أخرى لمشاركة مناضلين من مختلف التوجهات الإيديولوجية ، يثبت بأن مظاهرات الثامن ماي 1945 توسعت لتأخذ بعدا شعبيا هدفه موحد، بعيدا عن اختلاف وجهات النظر من التيارات السياسية؟
انطلاقا من الوقائع والأحداث التي تخص الشهيد الربيع بوشامة، ومشاركته في مظاهرات 8 ماي 1945، وهو وقتها معلم في المدرسة العربية الحرة بخراطة، يمكن أن نتحدث عن مشاركة جميع الجزائريين باختلاف تياراتهم وانتماءاتهم السياسية والإيديولوجية، بما كانت تدعو له من شعارات موحدة حول مطلب الحرية من الاستعمار، وهذا ما يؤكد فعلا بأن المظاهرات كان لها بعد شعبي، رغم محاولات بعض المؤطرين لجعلها مظاهرات سلمية بعيدا عن العنف، في ظل الدور الكبير الذي لعبته المليشيات الفرنسية في تحويل مسار  المظاهرات  التي أصبحت دامية نتيجة عنف المعمرين والقوات الفرنسية التي قابلت الحشود البشرية  من الجزائريين المتظاهرين والمحتفلين في الوقت ذاته، بطريقة انتقامية ضد حاملي شعارات عزّل تعكس تطلعاتهم بعد نهاية الحرب العالمية.
- بحكم أن المظاهرات أخذت طابعا شعبيا، فما هو مدى توسعها في اعتقادكم على المستوى الوطني، وما هي خلفيات تمركز العمل الإجرامي الفرنسي على بعض المناطق في شرق البلاد؟
بالنسبة للمظاهرات، فقد شملت أغلب جهات الوطن، لكن الانتقام الفرنسي تركز على محور سطيف، خراطة وقالمة، لأسباب عديدة، فسطيف مثلا كانت تعتبر مركزا سياسيا للحركة الوطنية، أين يقيم بها فرحات عباس، وهي مستقر للشيخ البشير الابراهيمي وكان يزورها مصالي الحاج، وبالتالي كانت تحتوي على كل التيارات الوطنية التي أسهمت في الدفع بالنضال من أجل القضية الجزائرية، كما أن المنطقة معروفة بمجالاتها الخصبة في الزراعة وعليه تعتبر مركزا استيطانيا مهما، ونحن نعرف أن المعمرين كان لهم دور كبير ومباشر في هذه المجازر.  
- برأيكم، ما هو المستوى الذي تحقق في الأبحاث الأكاديمية حول هذه المأساة الوطنية التي تحتفل بها الجزائر في كل سنة، نظرا لما خلّفته من آثار وتبعات سلبية متوارثة من جيل إلى آخر؟
أعتقد ما تحقق بالنسبة للبحث من وجهة نظر وطنية مازال ضعيفا، لأن الأرشيف مازال خصبا للبحث، ومازالت الكثير من القضايا القانونية والإنسانية المتعلقة بهذه الأحداث لم تفتح تقريبا، أو معالجتها من زوايا فقط دون أخرى، وبالتالي فإنه من شأن فتح الأرشيف مستقبلا أن يتيح الزوايا التي تبرز الجرائم الاستعمارية الفرنسية التي تصنف جرائم ضد الإنسانية.              
حاوره: خليل- ل

صاحب كتاب مجازر 8 ماي 45 في الجزائر–الحقيقة الممنوعة- كمال بن يعيش
حان موعد صيانة التاريخ وما نهبه الكولون يستوجب التعويض  

يؤكد الكاتب والصحفي المخضرم، كمال بن يعيش، في هذا الحوار الخاص، للنصر، أن الحدث المهم في نضال الشعب الجزائري ضد الاستعمار، والطوفان الذي حدث في 8 ماي 45، لا يزال مجهولا لدى الكثير من الناس. ومن أجل محو ولو جزء من هذا النسيان والجهل بالموضوع، اختار البحث مجددا في الماضي البعيد، حتى توصل لأن يضع بين أيدي المهتمين بتاريخ الجزائر المجاهدة، وثيقة تاريخية ثمينة واستثنائية، تمتد لتحقيق صحفي بدأه في عام 2005، أخرج إلى الوجود مولودا أول، في أكتوبر 2016 بعنوان سطيف -المقبرة الجماعية-، ليُتبعه بتحقيق طويل، أثمر مؤخرا كتاب مجازر ماي 1945 في الجزائر - الحقيقة الممنوعة-.
الأدلّة التي يعرضها الكتاب تحطّم أكاذيب الاستعمار
بداية، ما دوافع إصدارك الجديد حول مجازر 8 ماي 45؟
هذا المولود الجديد، جاء تكملة للكتاب السابق "سطيف المقبرة الجماعية"، الذي حمل ردّا على أصحاب الذاكرة الاستعمارية، الذين نفوا ارتكاب الاستعمار والمليشيات واللفيف الأجنبي آنذاك، مجازر وجرائم بشعة في حق الشعب الجزائري، وفندوا وجود مقابر جماعية في سطيف والشمال القسنطيني، لكن هذه المزاعم تسقط أمام ما توصلت إليه من حقائق بالسند والدليل، التي تؤكد أن كل شبر من المنطقة، يحمل مقابر جماعية لجثث ضحايا الجرائم الاستعمارية. الإشارة في العنوان إلى ارتكاب مجازر 8  ماي في الجزائر، أساسه أن نتائج التحقيق تثبت بالدليل المادي، أن المأساة مسّت الجزائر من شرقها إلى غربها، من خلال القمع والبطش الذي مارسته الإدارة الاستعمارية آنذاك، أمّا الشق الثاني من العنوان "الحقيقة الممنوعة"، فإن مردّه أن كل ما ارتكبه الاستعمار منذ 1830 إلى 1962 في الجزائر، من قتل ونهب وسرقة، هي حقائق ممنوعة في الواقع عن الرأي العام في الجزائر وفرنسا، حتى لا تحكم محكمة التاريخ على فرنسا بالتعويض، وهذا هو الجانب المحجوب الذي أردت إماطة اللثام عنه، من خلال عمل امتد سنوات طويلة.
كيف عملت على إجراء هذا التحقيق الطويل؟
منطلق عملي، كان بالعودة إلى مسرح الجريمة من أجل تزويد التاريخ، بمعلومات إضافية وجديدة لم تنشر من قبل، بالعمل على فك أقفال كثيرة، وفتح أبواب أوصدت بإحكام، بحثا عن ما يقف وراءها، من مذابح فظيعة، ارتكبت بعد ساعات قليلة فقط من نهاية الحرب العالمية الثانية، حتى أصل إلى حقائق مدعمة بالوثائق والأدلة، تفنّد الحجج المرويّة بخلفيات تضليلية، وأقطع حلقات الكلام المحشو والمرويّ بغير سند، بناء على العمل الميداني الذي فتح أعيني لأسبح في بحر الواقع، متجسسا ومستكشفا لحقائق تكسر جدار الإنكار.
مآسي الشعب الجزائري توارثتها الأجيال بتوارث مخلفات القمع والتقتيل، فما هي الحقائق المخفية التي توصلت إليها في هذا الجانب؟
التحقيق المنجز، على مرّ السنوات، بحث في جبل من الأرشيف بقطع مسافات بعيدة، وتطرقت فيه إلى القضايا التي كانت على صلة بالموضوع، مثل معاناة آلاف الجنود من فرقة السابعة للرماة الجزائريين، الذين خلفوا وراءهم أكثر من 7500 جندي جزائري سقطوا في ميدان الشرف، من أجل تحرير فرنسا من ألمانيا النازية، والتي تنكشف لأول مرة، فضلا عن عمليات نهب ممتلكات مئات العائلات من عين عباسة وبني عزيز وخراطة وعين الروى وقجال، التي تطفو إلى السطح من جديد، لتفند مزاعم حاملي الذاكرة الاستعمارية، ويكشف الكتاب أيضا المعاناة الشديدة التي عاشها آلاف الأيتام الصغار، ومزاعم الاستسلام بشاطئ مالبو،المذبحة التي ارتكبت في قالمة وبني يجيس (جيجل) وأماكن أخرى، وهذا جزء قليل من كثير سلطت عليه النور في هذا الكتاب، من أجل رسم الصورة الحقيقية الصادقة للجرائم التي ارتكبت آنذاك.
نكتب التاريخ دون عقدة لأننا أصحاب الحق
كانت لك لقاءات مع شهادات عايشت المجازر وأخرى عانت من آثارها، فضلا عن نفض الغبار عن وثائق هامة من الأرشيف، فما الذي تحفظه هذه العقول والرفوف من حقائق مُنع نشرها سابقا؟
هذا الكتاب يعيد للوثائق المدفونة حياة، ومعها شهادات حُجب عنها الضوء، بفعل وتواطؤ حكومة الجنرال ديغول، فالوثائق التي تنشر لأول مرة، تفضح الدعاية الكاذبة لليستراد كاربونيل (حاكم قسنطينة)، الجنرال دوفال (قائد الكتيبة الإقليمية لمقاطعة قسنطينة)، الجنرال هنري مارتان (قائد الفيلق التاسع عشر للجيش في الجزائر العاصمة)، إيف شاتانيو (الحاكم العام للجزائر) وأدريان تيكسيي (وزير الداخلية) الذي أخفى اعترافات نائب محافظ قالمة أندري أشاري، الذي قام بإعدام تسع شبان جزائريين في 10 ماي 1945، والكتاب يكشف أيضا عمليات النهب التي تعرض لها المواطنون آنذاك، وسرقة لأموالهم ورؤوس ماشيتهم، إضافة إلى الحلي من ذهب وفضة، على غرار ما وقع في عدة مناطق بولاية سطيف والمناطق الأخرى، التي طالها القمع والنهب من كل جانب، وهذا الكتاب يدوّن حجم الخسائر بالأرشيف، الذي يحفظ أيضا أن هذه العائلات قدّمت شكوى لرئيس الجمهورية المؤقتة فرحات عباس، من أجل التكفل بالقضية وقام بواجبه، لكن الرد لم يأت من الطرف الآخر، ولهذا فمطلب التعويض من فرنسا يبقى قائما لكلّ ما سرقته من 1830 إلى 1962.
العنوان يحمل إشارة إلى ارتكاب مجازر 8 ماي 45 في الجزائر، فهل نجد فيه ما يؤكد شمل الأحداث والمجازر لكل مناطق الوطن؟
هذا جزء من الحقيقة المهمة التي أخفاها الاستدمار الغاشم عن العالم، ومحتوى كتاب مجازر 8 ماي 1945 في الجزائر، يثبت بالدليل القاطع أن رجالا سقطوا في البليدة وعنابة وأماكن أخرى، الاضطرابات اجتاحت كامل التراب الوطني من الشرق إلى الغرب، ولم يعد من الممكن حصر المساحة الجغرافية للحدث على سطيف، قالمة وخراطة، فمن خلال لقاءي مع المواطنين الذين عانوا في هذه المأساة وتفقد الوثائق، تمكنت من الإثبات بأن كل المناطق في الجزائر واجهت ويلات التعذيب والنهب والتقتيل في تلك الفترة، وهذا الكلام مدوّن في الكتاب بالأدلة والصور المعبرة، التي تعكس واقعا خطيرا وجرائم بشعة.
الذاكرة الحيّة لفاقدة رضيع في 1945 تكشف عمق الجراح
ما هي المحطات والروايات التي تركت فيك أثرا عميقا خلال رصد الشهادات؟
أكثر ما لفت انتباهي خلال قيامي بهذا البحث الميداني، هو احتفاظ الشاهدين بتفاصيل الأحداث، واستحضارهم لما وقع بتفاصيل دقيقة، وأذكر أني في مارس 2021 التقيت عجوزا، تبلغ من العمر 99 سنة، من مدينة عموشة بسطيف، ورغم مرور سنوات طويلة، إلا أنها استحضرت المجازر والقمع والنهب، وقتل رضيعها، وما تعرض له جيرانها من عائلة طبيش الذين فقدوا توأما وُلدا قبل أقل من أسبوع عن ارتكاب المجازر، والأشياء الفضيعة التي روتها "نانا علجية" كانت بأدق التفاصيل بذاكرة حيّة، ظلت المعاناة والحرقة راسخة في أعماقها، وهذا ما يكشف حجم عمق الجراح. كما كان لي شرف محاورة اليتيم المجاهد احمد معان، الذي فقد والده في عين السمارة قريبا العلمة، عند خروجه لأداء صلاة الجمعة، أين استشهد على يد الكولون في 10 ماي 1945، وإلى يومنا هذا يحفظ الرواية بالتفصيل، وهو الذي اختار الالتحاق بصفوف جيش التحرير للمشاركة في الثورة المجيدة وكتب له أن يعيش في جزائر الاستقلال. وفي منطقة بوذريعة بني ياجيس في جيجل، رصدت شهادات حول إبادة عائلات ومداشر وعروش عن آخرها، وهي المنطقة التي جاءت زيارتي لها لتكشف حقائق صادمة.
رغم الثمن الباهض الذي دفعته الجزائر إلا أنها خرجت منتصرة على الاستعمار، فهل آن الأوان للمنتصر أن يصحح مغالطات التاريخ؟
يقول الألماني "بيرتولت بريشت" في عبارته الشهيرة "التاريخ يكتبه المنتصر ويشوه الضحية ويزيّن قبرها بالأكاذيب" وهذا ما حدث من الجانب الفرنسي، لكن هذا المبدأ لم يعد له مكان له في الجزائر، في وجود القدرات والإمكانات التي تؤهلنا لتصحيح المسار نحو الطريق الصحيح، من خلال إسقاط الأكاذيب وتنوير الحقائق المحجوبة، وكتابي يدخل في هذا المسعى، وميزتنا أننا نكتب التاريخ دون عقدة أو تزييف، وهذا يقودني إلى استذكار شهادة العربي بورمان  من منطقة بني عزيز، الذي استفتح كلامه معي بطلب أساسي وهو نشر كلامه بكل موضوعية ونقل الحقائق كما وقعت فعلا، وهذه هي كتابة التاريخ الحقيقية، ومن منظوري أرى أن التاريخ هو علوم دقيقة، لهذا نجد في الكتاب مقارنات وعند الحديث عن عنصر ما فالدليل يلازمه.
لا حدود للمجازر والمقابر الجماعية في كل أنحاء الجزائر
من منطلق منظورك بأن التاريخ علوم دقيقة لا يعتدّ بمحتواه إلا بوجود الدليل، هل ترى لكتابك موقعا في الدفاع عن ضحايا الاستعمار لدى الهيئات الدولية؟
سألخص إجابتي حول هذا السؤال بالعودة إلى ما كتبته في مقدمة الكتاب من حقائق تكسر الإمبراطورية الكاذبة للاستعمار الفرنسي، التي تقول أن الدولة في الجزائر نشأت بقدوم الفرنسيين في 1830، فبالدليل والوثائق، يؤكد الكتاب أن الجزائر قديمة قدم العالم، وهي مهد الإنسانية بشهادة علماء الآثار والمؤرخين، وكيان الدولة الجزائرية موجود منذ 2500 سنة، ويفند مزاعم فرنسا الظالمة، التي تدعي قدومها بحضارة للجزائر، وهي التي كانت تعاني الأمية والجهل، والرد لا يكون إلا بالدليل، ففي 1830 كانت توجد بالعاصمة مائة مدرسة ابتدائية، وفي قسنطينة أبناء الجزائر كانوا يتمدرسون في ستة وثمانون مدرسة ابتدائية، وبتلمسان كانت توجد 50 مدرسة، وكانت تحوز المدن الكبرى على ست إلى ثمانية متوسطات وثانويات، وعشر زوايا بمستوى جامعة، وكانت نسبة التعلم تفوق ستين بالمائة وعند خروج الاستدمار انخفضت إلى خمسة عشر بالمائة، وهذه الحقيقة الممنوعة.
حاوره: خليل. ل

عرض كتـاب وشريط وثــائقي يكشف بشاعة جرائم 8 ماي 1945
عرف إحياء اليوم الوطني للذاكرة   وذكرى مجازر 08 ماي بسطيف  عرض تقارير وشهادات توثق   لبشاعة الجريمة وذلك في ملتقى احتضنته دار الثقافة – هواري بومدين- بسطيف،  ونظمته جمعية النبراس الثقافي وتحت إشراف بلدية سطيف، وحمل الملتقى في طبعته الثالثة عنوان "مجازر 8 ماي 1945 في الجزائر- تقارير- شهادات وأعلام".
وتميز الملتقى الوطني التاريخي الثالث، بإعداد وطبع مسبق لكتاب، جمع ونسق فيه رئيس اللجنة العلمية للملتقى البروفيسور سفيان لوصيف، مع الأستاذ نبيل غندوسي رئيس جمعية النبراس الثقافي، مجموعة من التقارير والشهادات والأعلام، إذ يتضمن سبع دراسات أكاديمية لدكاترة وأساتذة جامعيين من جامعات جزائرية، تمحورت حول إبادات جماعية ارتكبها المستعمر الفرنسي، نقلا عن شهادات شفوية لشخصيات عايشت هذه المأساة والجريمة الإنسانية، ممن شهدوا عمليات التنكيل والحرق والاعتداءات ونهب الممتلكات الذي تعرض لها الشعب الجزائري.
الملتقى شهد أيضا، عرض فيلم وثائقي بعنوان "مجازر 8 ماي 1945 جريمة لا تغتفر"، يتضمن شهادات مرعبة تبين فظاعة المستعمر وبشاعته في تقتيل الجزائريين وإبادتهم، حرّكت مشاعر وأحاسيس الحاضرين في هذا الملتقى، نظرا لما يحتويه من صور ومقاطع فيديوهات تؤكد حجم معاناة الشعب الجزائري جرّاء  جرائم ارتكبت في حقه، لا لشيء سوى لأنه طالب بحقه في الحرية المشروعة، وهو الشريط الوثائقي الذي سيتم عرضه بجامعة محمد لمين دباغين سطيف 2، مرة ثانية، غدا في الملتقى الرابع حول مجازر الثامن ماي.
كما كان لدكاترة وباحثين بارزين في التاريخ، مداخلات حول عديد المواضيع ذات الصلة المباشرة بمجازر الثامن، خلال هذا الملتقى الوطني الثالث، على مداخلة البروفيسور سفيان لوصيف بعنوان "تقرير تور tort المحافظ المركزي لشرطة مدينة سطيف حول المجازر وجهة نظر فرنسية"، ومداخلة البرفيسور كمال خليل حول تداعيات المجازر على المجتمع السطايفي، ومداخلة أخرى للدكتور محمد بن ساعو حول الشهيد الربيع بوشامة ومجازر الثامن ماي بخراطة، ومداخلة الدكتور قدادرة من قسم التاريخ بجامعة قالمة الذي تناول موضوع مجازر الثامن ماي 45 من حيث الخلفيات والانعكاسات.   
وأكد الأستاذ نبيل غندوسي، للنصر، على هامش هذا الملتقى، أن من واجب جمعية النبراس الثقافي التي يرأسها، بما تزخر به من دكاترة وأساتذة ومفكرين، الدفاع عن ملف الذاكرة والتمسك برسالة الشهداء التي يجب المحافظة عليها من جيل لآخر، مشيدا بمحتوى الكتاب الذي جمّع فيه شهادات حيّة تحفظها الوثائق والألسنة والأذهان مهما طال الزمن، رافضا بلسان كل الجزائريين التخلي أو التواني للحظة واحدة في مطالبة فرنسا بالأرشيف الذي حتما يدينها بجرائم لا تغتفر في حق الجزائريين وفي حق الإنسانية.
خ. ل

الرجوع إلى الأعلى