الاستقــلال بــروايـــة صـــانعيــــــه

النصر تدخل متحف المجاهد بقسنطينة
ألبسة مجاهدين ما تزال ملطخة بالدماء و صور حية لجرائم المستعمر


يضم متحف المجاهد بولاية قسنطينة بين جدرانه، كنوزا ستظل شاهدة على بسالة ثوار الولاية التاريخية الثانية، الذين قاوموا بالسلاح و القلم الاستعمار الفرنسي، فتركوا خلفهم أمجادا يُحتفَظ بآثارها لليوم بهذا المرفق، الذي زارته النصر و تجولت في جميع أركانه لتنقل صورا حية عن مقتنياته النادرة.
أول ما يلفت الانتباه لدى دخول هذا المتحف المدشن سنة 2002، هو صور نادرة للمجاهدين و قادة الثورة، فعلى اليمين يقابلك زعماء الحكومة المؤقتة خلال لقاءاتهم مع مسؤولي الدول العربية التي وقفت إلى جانب الجزائريين لتحقيق الاستقلال، حيث تجمع الراحل أحمد بن بلة بالزعيم المصري جمال عبد الناصر و ملك المغرب حسن الثاني، إضافة إلى صورة لاجتماع الحكومة المؤقتة برئاسة بن يوسف بن خدة، و أخرى للقاء فرحات عباس بمسؤولين في ليبيا.
و مع التوغل في المدخل، نكتشف صورا أكثر لشهداء و مجاهدي الثورة، التي وضعت بشكل أفقي لتمتد إلى غاية الرواق المؤدي إلى قاعة العرض، و من بنيها صور زيغود يوسف و ديدوش مراد و شيهاني بشير و فضيلة سعدان و مسعود بوجريو و غيرهم من أبطال الولاية التاريخية الثانية.
و مع دخول معرض الصور و الأغراض، يزداد تعمقنا في تاريخ النضال ضد المستعمر، فالأمر هنا لا يقتصر على الصور النادرة، بل يتعداه إلى أسلحة المجاهدين و مقتنياتهم الشخصية، إذ توجد الكثير من البنادق و المسدسات و حتى الرصاص و البارود و القذائف المستعملة لمحاربة المستعمر الفرنسي، و التي دُون أسفل كل منها اسم المجاهد الذي استخدمها و تاريخ تسلميها للمتحف.
و يوجد أيضا بالمرفق، وثائق نادرة حول الثورة منها ما خطّ حروفها المجاهدون باليد، و منها ما هو مكتوب بالآلات الراقنة، و الجميل أن المتحف يتضمن أيضا صورا و وثائق حول تاريخ جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، التي كان لها دور كبير في تنوير عقول الشباب الجزائريين الذين استلموا فيما بعد راية التحرير، فيما تم وضع مجسمات لمؤسس الجمعية العلامة عبد الحميد بن باديس و رفيقه في النضال البشير الإبراهمي و كذلك للشاعر الثوري محمد العيد آل خليفة.
أعلام مظاهرات 11 ديسمبر أيضا موجودة

كما يمكن للزائر أن يطلع على مراحل تصميم العلم الوطني للدولة الجزائرية المستقلة، من خلال رايات تم خياطتها على فترات مختلفة قبل نيل الاستقلال، فيما تُبيّن المجسمات نموذجا عن مخبأ أرضي للمجاهدين، يجعلنا من خلال التفاصيل التي تضمنها، نتخيل طريقة عمل الثوار في ظروف قاسية و بإمكانيات جد بسيطة، لم تثنهم عن النضال و الاستمرار في القتال و الاستشهاد من أجل تحقيق النصر، و هو الأمر نفسه بالنسبة لمجسم اجتياز خط شال، الذي يجسد مجاهدا فارق الحياة أثناء محاولة المرور عبر الأسلاك الكهربائية بمساعدة اثنين من رفقائه.
نجد في المتحف أيضا الأعلام التي حملها الجزائريون في مظاهرات 11 ديسمبر، و الأغطية التي كان يستعملها المجاهدون، بل و حتى المناديل التي قاموا بتطريزها بالأخضر و الأبيض و الأحمر، إضافة إلى حقائب وضع المؤونة خلال تواجدهم في الجبال، و لعل أكثر ما يلفت الانتباه هو برنوس قائد منطقة الأوراس، شيهاني بشير ابن مدينة الخروب بقسنطينة، حيث سلمته عائلته للمتحف سنة 2010، و هو لا يزال على حاله منذ آخر مرة ارتداه فيها الشهيد، حيث توجد عليه آثار دماء و غبار فيما كانت أجزاء منه ممزقة.
و برفقة مدير المتحف السيد محمد خشة، شاهدنا أيضا صورا عن التعذيب الوحشي و القتل الجماعي للجزائريين، كما استوقفتنا صورة وثّقت لحظة التقاء أحد المجاهدين بعائلته، حيث كان ينظر إلى والدته العجوز و هي تحمل ابنه، فيما كانت الزوجة تنظر إلى الأسفل خجلا. و لعل أبشع ما يمكن أن يتذكره الجزائريون هو المقصلة التي استشهد أسفلها ما يزيد عن 200 مجاهد، فقد وُضع مجسم لها يبين ببراعة كيف كان ينزل سكين حاد يزن قرابة 151 كيلوغراما، على رقبة المجاهدين الذين تحلوا بشجاعة خارقة، فمعظمهم كانوا يرددون في ثبات عبارة “الله أكبر”، قبل أم تسقط رؤوسهم على إسفنجة ثم توضع داخل دلو، بينما يُحمَل الجسد إلى سلة كبيرة، بحضور العسكري الفرنسي و الإمام و القتّال الذي يتكفل بمهمة سحب الحبل.         
ياسمين بوالجدري

جاء بعنوان “مزرعة أمزيان وما بعدها”
كتابٌ جديدٌ يؤرّخ لأبشع مركز تعذيب استعماري بقسنطينة
يصدرُ بمناسبة 5 جويلية عن دار “ميديا بلوس” بقسنطينة كتاب جديد يضمّ شهادة هجيرة المجاهدة التي استطاعت الصّمود داخل أبشع مركز استعماري للتعذيب خلال ثورة التحرير بقسنطينة، حيث جاء بعنوان “مزرعة أمزيان وما بعدها” ألفته المؤرخة كلير موس كوبو.
ويقوم هذا الكتاب على شهادة مؤلمة للمناضلة المسماة هجيرة، التي تعرضت إلى الاعتقال من منزلها بحي “بيانفي” بقسنطينة على يد فرقة من المظليين في إحدى الليالي الربيعية من بلوغها سن 21 سنة، ليتم اقتيادها مع مجموعة أخرى من الأشخاص إلى مزرعة أمزيان القريبة من وسط المدينة، والتي حُوّلت من طرف السلطات الاستعمارية في عام 1958 إلى مركز للاستعلامات والتدخل، أين كانت القوات الفرنسية تمارس أبشع أنواع التعذيب في حق الجزائريين. وتقول المجاهدة هجيرة أن شهادتها لا تتضمن الرغبة في الانتقام أو أي نوع من الكراهية، إلا أنها تسعى فقط إلى الاقتراب من الحقيقة، بحسب ما جاء في بيان صادر عن دار النشر.
ويؤكد الكتاب من غلافه وفي العديد من المقاطع على عبارة “من أمزيان، لا يمكن الخروج أبدا”، التي كررتها المجاهدة هجيرة في شهادتها، كما يتّتَبّع مسيرتها وبداية التحاقها بالتيار الوطني من خلال من سبقنها من المناضلات، وخصوصا المناضلة المسماة فضيلة. وتقول هجيرة، بحسب ما اطّلعنا عليه من مقاطع، إنّها يوم أُدخِلت إلى المركز وجدت نساء مستلقيات على التبن، حيث تشير إلى أن أكبرهن سنا كانت تبلغ من العمر 45 سنة، بينما لا يتجاوز عمر أصغرهن 16 سنة، وكانت تسمى رانيا. وتضيف الشاهدة بأنهن كنّ جميعًا نساءً عاديّات، وربات بيوت من المدينة أو من مناطق قريبة منها، في حين تؤكّد بأنهن كن يسمعن صرخات مرعبة وأصوات غريبة، فيما يمضين الفترات الصباحية جالسات على الأرض في انتظار ما قد تكشف عنه الليالي.
ويقع الكتاب في 136 صفحة، تروي فيها هجيرة تفاصيل مؤلمة عن عمليّات التّعذيب والاحتجاز التي تعرضت لها داخل مركز أمزيان، قبل أن تُنْقل إلى معسكر الحامة لفترة، ثم تعيد القوات الاستعمارية اقتيادها إلى المركز مجدّدا لأنها رفضت الإدلاء بمعلومات، لكنّ الجلادين استعملوا معها أساليب أفظع من المرة الأولى خلال تلك الفترة. وقسّمت المؤرّخة كلير موس كوبو الكتاب إلى ستّة فصول، تتطرّق في الأول منها إلى الذاكرة التي يتخللها العنف ثم عن حياة هجيرة ما بين 1942 إلى غاية 1956، بالإضافة إلى مسارها كمناضلة ما بين 1956 إلى غاية 1959، لتمُرّ إلى فصل بعنوان “هجيرة في ليالي أمزيان”، فيما يُختتم الكتاب بفصل أخير موسوم بـ”مطلع الفجر وما بعده”.
سامي .ح

 

المجاهد باهي محمد بن عمارة
راعي الغنم الذي قهر الكومندوس الفرنسي وأرعب الخونة
يعتبر المجاهد باهي محمد بن عمارة  أحد الذين نمرّ بقربهم دون أن نحسّ بهم، لكن لو اقتربنا منهم أكثر، لشممنا عبق التاريخ الخالد، وأريج الثورة التحريرية المباركة، إنه من القلة القليلة الباقية، التي لا تزال تحتفظ في ذاكرتها بالكثير من الذكريات و الأحداث.
ولد باهي محمد بن عمارة في شهر نوفمبر من عام 1924 ببحيرة الأرنب، جنوب تبسة، والده عمارة بن مصباح و أمه هنية، و كعادة أهل البادية، تربى على الفلاحة و رعي الأغنام، و هو لا يزال صبيا، و لما بلغ سن 14 سنة ، التحق بالمسجد العتيق بمدينة بئر العاتر، أين حفظ عددا من سور القرآن الكريم على يد المعلم الشيخ عمارة فارس، و المعلم بدري مبارك، ليعود من جديد في سنة 1939 إلى رعي الغنم بمنطقة صبرة،  و ممارسة بعض النشاطات الفلاحية، و تشاء الأقدار أن يفقد والده سنة 1945، فتولى مسؤولية العائلة المتكونة من زوجة والده و إخوته، فعرف قيمة المسؤولية و تداعياتها، و هو لا يزال في بداية مرحلة الشباب، و رغم صغر سنه إلا أنه ساهم بطريقته في نشاط الحركة الوطنية آنذاك، من خلال الاتصال بالمجاهد زمالي الهادي، الذي استشهد في ما بعد بجبل “غيفوف” سنة 1955، و ساهم بمبالغ مالية في إطار التحضير للثورة، رفقة جيلاني السوفي الذي لقي ربه بعد ذلك شهيدا.
معارك طاحنة على  طول  الحدود الشرقية
 لقد اكتوى المجاهد محمد بن عمارة كغيره من أبناء هذا الوطن، بنيران الاحتلال البغيض، و ما كان يمارسه ضد أبناء وطنه، فما كان منه ، إلا أن قرر تلبية نداء الثورة والالتحاق بصفوف المجاهدين، فجند في منطقة صبرة من طرف  الشهيد التونسي عبد الله لقطاري، و إبراهيم منصوري، و الشهيد السبتي، تحت قيادة الشهيد لزهر دعاس، الذي سقط شهيدا هو الآخر، لينطلق المجاهد محمد بن عمارة في أداء دوره في صفوف الثورة، و كانت البداية في سنة 1955، أين تم الاتصال بالشهيد البطل شيحاني بشير رفقة 42 مجاهدا بمنطقة مسحالة الواقعة بوادي هلال قرب الجبل الأبيض، أين حث شيحاني رفقاء المجاهد بن عمارة على مواجهة العدو و زيادة عدد المجاهدين، ليتوجه بعد ذلك إلى سوق أهراس.
أثناء الطريق ألقي القبض على شخص متعاون مع الاستعمار بجبل الحوض القبلي، و تم القضاء عليه من طرف المجاهدين، و قبل الوصول إلى ولاية سوق أهراس، دخلوا في مواجهة ساخنة مع قوات الاحتلال بالحوض الظهري، بالقرب من مرسط، استشهد فيها أحد السكان كان يحمل الطعام للمجاهدين، لينتقل فوج المجاهدين إلى عين الزرقاء، و هناك استقبلوا استقبال الأبطال من طرف السكان.
واصل محدثنا طريقه رفقة زملائه باتجاه الونزة، و منها انتقل 20 مجاهدا إلى مدينة الكاف التونسية، فيما اتصل البقية بجبار عمر، الذي حدثه الشهيد عفيف علي بضرورة القيام بعمليات فدائية ضد قوات الاحتلال وسلمه سلاحا لمساعدته على القيام بمهمته.. و عاد المجاهد محمد بن عمارة رفقة 8 آخرين إلى منطقة « الدكان» بضواحي مدينة تبسة.
استمر نشاط المجاهد محمد بن عمارة، الذي عاد في نوفمبر 1955 إلى منطقة الدكان ، و تمكن من الحصول على كميات هامة من السلاح تم شراؤها من تونس و هي عبارة عن 12 بندقية و 4 آلاف خرطوشة، و حولت إلى منطقة الصلب بالحدود التونسية الجزائرية، لتدعيم القوة الدفاعية للمجاهدين ليشارك بعدها المجاهد باهي محمد في معركة آرقو الشهيرة، التي استشهد فيها عفيف علي، و جرح عباس لغرور، رفقة مجموعة أخرى من رفاق السلاح في هذه المواجهة، التي يصفها بالعنيفة مع قوات الاحتلال.
ظل رفقة عدد من المجاهدين يحرسون الشهيد عباس لغرور لمدة 3 أشهر في وادي الضايع بجبل بودخان،  و بحلول سنة 1956 جاءت الأوامر بالهجوم على مركز»زوي»، الذي توجد به كتيبة 400 مغربي مجند من طرف الاحتلال و 5 فرنسيين، إلا أن ذلك لم يتم لأن المغاربة أقنعوا المجاهدين بأنهم لا يريدون إيذائهم، فانصرف عناصر المجموعة، وواصل ذات المتحدث حديثه الشيق، حيث لا يكاد يخرج من معركة إلا و يدخل أخرى رفقة زملائه، و هذه المرة كانت مواجهة
« تازربونت» الغربية في ثليجان في شهري أفريل و ماي، استشهد فيها 4 مجاهدين و جرح 11 آخر.
وقد تقرر بعد ذلك الخروج إلى منطقة « الطباقة» حيث تم تجنيد المجاهد محمود الشريف، الذي لبى النداء على الفور، و كلف بتنفيذ عملية رفقة الشهيد الصيفي ضد فرقة « كومندوس» فرنسية، ثم نفذ عمليتين أخريين بمدينة تبسة، و تمكن من القضاء على مجموعة من الخونة، إلا أنه أصيب بجروح استدعت تحويله إلى تونس، أين تلقى العلاج إلى أن عين وزيرا للتسليح والتموين، ومن اللحظات المؤثرة في حياة المجاهد محمد بن عمارة وفاة الشهيد مسعد محمود سنة 1956 بمنطقة « قارة الطين»، بعد الحصار الذي فرضته عليهم قوات العدو الفرنسي..
و في سنة 1957 تقلد بن عمارة أول رتبة عسكرية، و هي رتبة مساعد تابع للكتيبة الثالثة، اعترافا من القيادة  بتفانيه و نشاطه في صفوف المجاهدين، و قد عرفت هذه السنة مشاركة في معركة الزرداب بضواحي أم علي الحدودية، أين نجحت قوات الاحتلال في الاستيلاء على كمية هامة من السلاح القادم من تونس، واستشهد عدد كبير من المجاهدين، و ألقي القبض على نحو35 مجاهدا، تم تحويلهم إلى الماء الأبيض لاستنطاقهم، واستولى العدو على 14 رشاشا وبندقيات نصف آلية..
وظل المجاهد يشارك في كل المعارك و المواجهات، التي وقعت أثناء الثورة عبر الحدود الشرقية، و منها منطقة الحويّة، ومعارك جبل غيفوف، وزريف، والتي استشهد فيها 13 مجاهدا وتم إسقاط طائرة حربية محملة بالسلاح بمنطقة الشبيكة بالتراب التونسي.

من ساحة  القتال إلى التدريب العسكري
وعرفت سنة 1958 الكثير من المعارك الطاحنة بين المجاهدين وقوات الاحتلال ومنها المواجهة، التي شهدتها منطقة «الحجار الصفر» وتم خلالها استخدام مدفع هاون ضد مركز فرنسي متقدم بنته فرنسا، لمراقبة تحركات المجاهدين، كما تم استهداف مراكز بالماء الأبيض وتنوكلة، وفي هذه المواجهات استشهد بوزنادة محمد الصالح . وفي سنة 1959 تحول نشاطه إلى التدريب رفقة 68 مجاهدا بمنطقة الكاف التونسية، حيث مكث هناك 9 أشهر، ما مكنه من تلقي تكوين عسكري، ومع سنة 1960 عين نائبا في الفيلق الذي كان يضم 800 مجاهد، وذلك بمنطقة وادي السدرة «بالقالة»، برتبة ملازم أول إلى غاية 19 مارس 1962 ذكرى توقيف القتال .
يقول المجاهد باهي محمد بن عمارة ، أن فرحته بالاستقلال لا توصف، فهو الأمل والحلم لكل الجزائريين، ففي 9 أوت 1962 انتقل إلى العاصمة ،وظل بها إلى غاية سنة 1966، وحول إلى مدينة  قسنطينة في نفس السنة لأسباب شخصية، حيث أشرف على الكتيبة العامة لقيادة الناحية العسكرية والإشراف أيضا على لجنة الاعتراف بالعضوية، حيث أشرف على دراسة 52 ألف ملف، وسلم المهام بعدها للمجاهد مقداد جدي، وعرفت سنة 1970 مغادرة المجاهد محمد بن عمارة الحياة العسكرية بصفة نهائية، والانتقال إلى مدينة بئر العاتر، أين يوجد الأهل والأصدقاء، وإيمانا منه بضرورة المشاركة في الحياة السياسية للبلاد، ما دام قادرا على العطاء، قرر المشاركة في الانتخابات البلدية، التي جرت يوم 14 فيفري سنة 1971، وفاز برئاسة المجلس الشعبي البلدي لبلدية بئر العاتر لمدة 4 سنوات، ثم فاز بعهدة ثانية خلال الفترة من 1975 إلى 1980 وأصبح عضوا بذات البلدية من عام 1980 إلى 1985 .
وفي الانتخابات التي جرت سنة 1985 فاز بمنصب نائب رئيس البلدية إلى غاية 1990 و يرى السيد محمد بن عمارة أن خدمة الوطن لا يمكن أن تتوقف بمجرد الحصول على التقاعد، بل هي عمل دائم ومستمر ولعل هذه القناعة جسدها محدثنا ميدانيا، وذلك من خلال قبوله بمهمة منسق للمقاومين منذ مارس 1997 خلال سنوات الجمر والدموع.
وفي آخر لقائه بالنصر، يتوجه المجاهد باهي محمد إلى شباب جزائر اليوم قائلا له» إن ما عشته أنا من أحداث هو قطرة من بحر اسمه الثورة الجزائرية، التي أصبحت بفضل الله ثم بفضل تضحيات أبنائها، من أكبر الثورات في العالم، حيث تدرس في أكبر جامعات الغرب والشرق، هذا النموذج الفريد المتفرد في خصوصيته، انطلق ذات يوم فكان على موعد مع البعث، حرّر الإنسان قبل أن يحرّر الأرض، ورسّخ مفهوم الحرية وتقرير المصير، فانبعثت الشعوب من جديد، لتحطّم أغلال العبودية والاستعمار، إن جزائر الأمس كانت بحاجة إلينا، أما جزائر اليوم فهي بحاجة إليكم أنتم يا جيل الاستقلال، أنتم الحماة والبناة ومنكم سيشرق غد باسم، ينشر نوره على ربوع الوطن».
عبد العزيز نصيب

المجاهد المحكوم عليه بالإعدام عبد الوهاب بن يمينة يفتح قلبه للنصر
هكذا قضيت أيامي في زنزانة الموت و فرحة الاستقلال بقسنطينة كانت استثنائية
يُعتبر المجاهد عبد الوهاب بن يمينة أحد أبزر مناضلي الثورة التحريرية المحكوم عليهم بالإعدام في قسنطينة، فقد عُيّن رغم صغر سنة كاتبا في الناحية التاريخية الثانية و هو ما يزال طالبا يافعا، و واجه بشجاعته جنود المستعمر بالسلاح إلى أن تم إلقاء القبض عليه في معركة تشهد عليها إحدى بنايات شارع “سان جان”. و يستذكر  ابن حي سيدي لجليس في لقاء مع النصر، قصة التحاقه بإضراب الطلبة و ظروف تنظيم استفتاء المصير و بعدها فرحة الاستقلال، كما يكشف عن تفاصيل مؤثرة حول مكوثه داخل زنزانة كان ينتظر فيها الموت كل يوم.
إعداد: ياسمين بوالجدري
عبد الوهاب بن يمينة الذي التقته النصر بمتحف المجاهد، من مواليد 11 جانفي سنة 1930 بحي سيدي الجليس العتيق بمدينة قسنطينة، أين درس و نشأ يتيم الأب، و ذلك وسط عائلة تتكون من 8 أبناء، سهرت والدتهم على تربيتهم، و يضيف المجاهد أنه كان رفقة الطلبة يسمعون عبارة “الفلاّقة جاو الفلاقة جاو” و تصلهم أخبار عن هجمات 20 أوت 1956، لكنهم لم يعلموا ما كان يحصل بالضبط، لكن في شهر مارس من نفس السنة، فُتحت أعينهم أكثر على جرائم فرنسا و مقاومة المجاهدين لها، عندما وقعت عملية فدائية بمركز الشرطة “سان مارسيي” بحي رحبة الصوف، ثم أحداث 12 و 13 ماي حين قام سكان يهود مدعومين بالمستعمر بقتل جزائريين.
من طالب مجتهد إلى كاتب في الثورة
و أمام توالي هذه الأحداث، قرر عبد الوهاب بن يمينة و عمره لا يتجاوز حينها 16 سنة، الالتحاق بصفوف المناضلين ضد المستعمر رفقة الطلبة مضحين بمقاعد الدراسة في سبيل تحرير الوطن، فبدأوا في اتصالاتهم مع المجاهدين، ليأتي نداء 14 ماي الذي دعي فيه الطلبة الجزائريون إلى شن إضراب يوم 19 ماي، فلم يتأخر عن تلبية الدعوة و تمت مقاطعة الامتحانات، قبل أن تزداد العمليات ضد المستعمر و يزيد معها الحصار على قسنطينة.
و عن قصة التحاقه بالنضال، قال بن يمينة إنها بدأت في أكتوبر من سنة 1956 مع صديقه رشيد عقابو الذي كان جاره و طالبا أيضا، حيث قام حينها بأخذ مسدس من والده بمساعدة أخته التي جلبته من برميل الدقيق، ثم استقلا معا سيارة أجرة في ساعة مبكرة دون علم أحد، و وصلا إلى غاية منطقة المدايس بطريق القرارم، أين التقيا لأول مرة بمسؤولين في جيش التحرير، و هم محمد الصالح بلميهوبي و بوذراع صالح و مصطفى بوغابة و بوقندورة، و الذين أوصولهما فيما بعد إلى مسعود بوجريو ثم تقرر تجنيدهما.
و قد كان أول تعيين للشاب بن يمينة في مستشفى المجاهدين بالقل، و الذي كان عبارة عن أكواخ وسط الغابة يشرف عليه طبيب جراح، حيث ظل هناك لحوالي 20 يوما، ثم عين كاتبا في المنطقة الثالثة التي تشمل القل و سكيكدة و عزابة و قالمة و ذلك لمدة 4 سنوات، و يضيف المجاهد أن المهام التي أسندت إليه تمثلت في الترجمة و الكتابة خلال مرافقة مسؤولي المنطقة، و ذلك إلى غاية سنة 1960، و هي فترة شهدت فيها هذه المنطقة التاريخية عدة معارك خلفت خسائر بشرية و مادية للعدو.

و بعد مجيء ديغول ازدادت القوة العسكرية في الجزائر و زاد الجنرال شال من محاصرة المجاهدين في الجبال و عزل الشعب عنهم، ليتقرر خلال اجتماع نظم في مارس 1960 بحضور صالح بوبندير، تدعيم مدينة قسنطينة بالمجاهدين و تعيين عبد الوهاب بن يمينة مسؤولا على الناحية الثالثة للمنظر الجميل مع كروش عبد الحميد و مليكة حمروش، حيث تمثلت المهمة في الاستخبارات و التموين و توفير الأدوية.
استيقظت من الغيبوبة على ملف الحكم بالإعدام
و يستذكر محدثنا ليلة القبض عليه التي وقعت يوم 27 أفريل 1960، عندما داهم جنود المستعمر المركز الذي كان يعمل به المجاهدون بحي “سان جان”، حيث استشهد حينها المجاهد كروش عبد الحميد و صاحبة المنزل مشتاوي علجية و طفلتها ذات العامين، بينما تعرض هو لجروح خطيرة في معظم أنحاء جسمه، و ذلك بعد ساعتين من الاشتباك التي قام خلالها الشاب بن يمينة بإصابة قائد جنود المستعمر “شوفاليي”، ليؤخذ من هناك إلى سجن أمزيان وهو في حالة غيبوبة دامت لحوالي 5 أشهر و تلقى خلالها العلاج من أجل الاستفادة منه لكشف أسرار الثوار.
«استفقت بعدها من الغيبوبة لكني كنت بين الموت و الحياة بعدما حُكِم علي بالإعدام”، هكذا واصل المجاهد المحكوم عليه بالإعدام سرد تفاصيل ما حدث معه، حيث أضاف أنه و عندما استقيظ شهر جويلية قام الجنود الفرنسيون باستجوابه لساعات و حاولوا معرفة أسباب التحاقه بالثورة و ترك دراسته، قبل أن يعدوا له ملفا قضائيا.
 قابلت حكم القاضي بابتسامة و هذه آخر عبارة قلتها له
و يعود المجاهد بن يمينة بذاكرته إلى يوم الحكم عليه بالإعدام بالمحكمة العسكرية بالقصبة، عندما اقتيد إليها محاطا بالجنود الفرنسيين و مكبلا بالأصفاد، ثم طلب منه القاضي قول كلمته الأخيرة، فقال باللغة الفرنسية “أنا لست ضد فرنسا بل ضد الاستعمار الفرنسي»، لينطق القاضي بقرار تطبيق المادة 302 أي الإعدام، و ذلك بحضور والدته المرحومة التي بكت كثيرا لهول الصدمة، لكنه قابل ذلك بابتسامة شجاعة، ثم حول مباشرة للسجن العسكري بالقصبة أين مكث هناك لـ 6 أشهر و نصف.
و عند تحويله إلى سجن القصبة، تم إدخال بن يمينة إلى غرفة لا تزيد مساحتها عن مترين مربع، كان بها فراش و وسادة و إناء ماء و دلو ليقضي فيه حاجته، و بهذه الزنزانة التي كان النور مشتعلا فيها طيلة اليوم، وجد المجاهد، مثلما يضيف في حديثه للنصر، آثار السجناء السياسيين الذين مروا من ذلك المكان، و الذين كانوا يقومون بنقش علامات يعدّون من خلالها أيام مكوثهم.
«في ذلك الوقت لم نكن نعرف ما هي المقصلة، فكل منا كان يتصورها بشكل معين”، يتابع بن يمينة ثم يضيف «لكني كنت قد درست من قبل في كتب التاريخ أن الفرنسي الذي اخترعها، قال إن الهدف منها هو تخفيف الموت على المحكوم، لكنها كانت أبشع طريقة للقتل أخذت معها أول شهيد مقصلة و هو المجاهد أحمد زبانة».
أدينا صلاة العيد في ساحة المقصلة و نحن مكبلون بالأصفاد

و يضيف محدثنا أن الخروج من الزنزانة كان لنصف ساعة فقط طيلة اليوم، يُسمح فيها بالتجول داخل الساحة بالأصفاد، ما جعله يعيش أياما صعبة و موحشة، كما وصفها، و ذلك بين 4 جدران يأكل و يشرب و ينام فيها، لكنه يستذكر بمرارة الظروف التي عاشها السجناء خلال محاولة الانقلاب ضد ديغول، أين كان يتم الاستعداد لإعدامهم في حال نجاح الانقلاب، إلى درجة أن أحد الحراس خاطبه ساخرا “سيد بن يمينة لقد حضرنا لك آلة الغسيل”، في إشارة منه إلى المقصلة.
و يروي لنا المجاهد ما حصل خلال شهر رمضان من سنة 1961، عندما قام رفقة المجاهد السعيد بولحليب بصفتهما ضمن لجنة حقوق السجناء، بطلب تأدية صلاة العيد، و فعلا استجيب لطلبهما و تم لأول مرة تأديتها في ساحة السجن، التي علموا فيما بعد أن عمليات القتل بالمقصلة كانت تتم على مستواها، و في مشهد غير مألوف صلى السجناء و هم مكبلون بعدما أمّهم مجاهد من الشقفة.
و يضيف محدثنا “كنت أعيش بآية قرآنية أرددها دائما و هي لن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها، فلم نكن نعلم إنا كنا سنصبح أو لا.. لقد عشت عذابا نفسيا توقف مع العفو عني من طرف الجنرال ديغول بفضل الدور الذي لعبته الحكومة الجزائرية المؤتقة”.
و يستطرد عبد الوهاب بن يمينة مبتسما “عندما جاء العفو صباح 24 ماي 1961، كان الأمر يختلف فقد بكيت حينها و فرحت في نفس الوقت» و هنا يذرف المجاهد الدموع بتأثر شديد و يضيف “لقد كان الأمر صعبا”، ثم يتوقف لثوان و يستجمع ذكرياته قائلا “لقد فرح أفراد عائلتي عندما رأوني بعد العودة من فرنسا أين خضعت للعلاج.. القليل فقط يمكنهم أن يشعروا بما أحسست حينها و عمري 22 سنة فقط”.
بن يمينة يرأس اليوم جمعية المحكوم عليهم بالإعدام التي تأسست سنة 1991، حيث تعمل على إنشاء موسوعة وطنية بالصور و الوثائق، للتعريف بالمحكوم عليهم بالإعدام الذين وصل عددهم إلى 2200 مجاهد، توجد وثائق أرشيف الحكم العسكري الفرنسي و شهادات وزارة العدل الجزائرية الخاصة بهم، و من ضمن هؤلاء نفذ الحكم بالمقصلة في حق 207، بينهم 56 بقسنطينة لوحدها إضافة إلى 71 بالعاصمة و 58 بوهران و 22 بفرنسا.
و قد شارك المجاهد في تحضيرات استفتاء تقرير المصير مباشرة بعد عودته من رحلة العلاج و استقباله بحفاوة كبيرة من طرف أفراد عائلته، حيث تم التجهيز لكل التفاصيل بدء من النقل و التمريض، إلى غاية تنظيم حركة المرور. و عن يوم الاعلان عن الاستقلال و الفرحة العارمة التي عمت البلاد يروي بن يمينة مبتهجا “لقد خرج الشعب يوم 3 جويلية عن بكرة أبيه و كنا حينها بلباسنا العسكري لأول مرة وسط المدنيين، فحملونا على الأكتاف و تجولوا بنا بالشارع.. لقد فرحنا مع الشعب»، قبل أن يضيف «بقسنطينة كانت الاحتفالات بحي باب الواد، و كذلك ساجن جان و الأقواس.. كانت هناك حالة من الهستيريا التي استمرت لأسبوع كامل.. عشنا فرحة عارمة و كبيرة شملت كل الجزائريين بمختلف الأعمار، أما الأعلام الوطنية فعلقت في كل مكان و الزغاريد سُمعت أينما حللنا»، بهذه العبارات ختم بن يمينة كلامه و هو يأمل من شباب اليوم أن يستذكروا تضحيات المجاهدين و يساهموا في استمرار مسيرة بناء الوطن.
ي.ب

يتبع

الرجوع إلى الأعلى