عمي محمد دواس.. موهبة يحتضنها الشارع بعد التقاعد
يرى العالم من زاوية مغايرة، و هو على مشارف الستين، محطما عادات  شيوخ قرروا بعد التقاعد الجلوس على هامش المجتمع، بعد أن تخلصوا من  مسؤولياتهم المهنية، فقد أثبت عمي محمد دواس أن مغادرته للمصنع الذي كان يشتغل به، ليست نهاية لنشاطاته، بل بداية لحياة أخرى كلها فن و إبداع، فاحتضنه الشارع ليمتع زبائنه بتحف فنية فريدة من نوعها.
عمي محمد دواس، ذو الـ58 ربيعا، ابن مدينة حامة بوزيان بقسنطينة، اسم ذاع صيته في قلب المدينة منذ نحو سنتين، و أصبح أحد أهم رموز الشارع الرئيسي،  فارضا نفسه بكل ثقة، بجوار تحف فنية تبدعها أنامله  تجمع بين الفن، التقنية و العصرنة، و تستقطب الأنظار و تلقى إعجاب كل من يمر على قارعة شارع جبهة التحرير الوطني.
كنا بالقرب من ثانوية عبد الرحمان بوراس، عندما لفت انتباهنا شخص يجلس على مقعد و هو منهمك في النقش و الرسم على الخشب، مشكلا مجموعة جميلة من التحف المتعددة الاستعمالات، يقف أمامها كل من يمر أمامه، اقتربنا منه و تابعنا حركاته السريعة و هو يداعب الخشب تارة و القلم تارة أخرى، سألناه عن طبيعة نشاطه، فرد “ أنا بكل بساطة أعمل، و هذا العمل أحبه أكثر من أي شيء و أجد نفسي مرتاحا و أنا بين وسائل بسيطة،  تلهيني و يغمرني شعور جميل و أنا أمارس حرفة أحببتها و سأبقى أحبها إلى الأبد”.
و عن بداياته مع حرفة الرسم و النقش على الخشب، أكد عمي محمد بأنه خرج إلى الشارع و اتخذ من مدخل محل أحد معارفه مقرا له، من أجل العمل و عرض منتجاته ،  بعد أن أحيل على التقاعد من إحدى المؤسسات الصناعية التي قضى بها 34 عاما من عمره، مضيفا بأنه بدأ رسميا ممارسة الحرفة و بيع القطع للزبائن منذ نحو سنتين، إلا أن علاقته بها تعود إلى طفولته، حيث كان يحب الرسم و النقش و هو في سن السابعة أو الثامنة، و ظل حريصا على أن ترافقه هذه الهواية طوال حياته، قبل أن يقرر ممارستها كمهنة اليوم.
التقاعد يلهم عمي محمد
السيد دواس لا يفكر كباقي المتقاعدين، و ينظر إلى  هذه المرحلة من زاوية مشرقة، رافضا الجلوس في البيت و النوم فقط، أو اتخاذ كرسي في أحد المقاهي أو حجرة في أحد أركان حيه، فهو يعتبرها انطلاقة لمشوار جديد حاسم مليء بالإنجازات و الإبداعات التي أجمع من التقت بهم النصر قربه ، بأنها أكثر من رائعة، فقد بدأ نشاطه الجديد بعد التقاعد من الوظيفة الأصلية في مجال الميكانيك، ليصبح بعد ذلك حرفيا فنانا لديه زبائنه.
أكد عمي محمد أنه يمارس حرفته عن حب، و بالرغم من تخصصه في مجال الصناعات الميكانيكية، إلا أن يديه لم تتوقفا عن الرسم، قبل أن يختارها كحرفة يمارسها اليوم بشغف و يملأ بها أوقات فراغه، و يستمتع بمداعبة   قطع الخشب الصغيرة و بعض صفائح الحديد و الغراء، ليشكل قطعا تلقى اليوم رواجا كبيرا في أوساط الشباب و المراهقين بشكل خاص، الذين يشكلون أكبر نسبة من زبائنه،فضلا عن صناعة قطع أخرى تحت الطلب مثل الساعات، الرسومات و القطع التذكارية الخاصة بحناء العروسين، مضيفا أنه يحاول التأقلم مع تطورات العصر و يصنع قطعا عصرية تعتبر صديقة للبيئة و كذا من خلال نشاطه عبر صفحته الخاصة في موقع التواصل فايسبوك.
بين ورشة صغيرة و الخليفة ضياء الدين أحلام بغد أفضل
حدثنا عمي محمد عن تفاصيل حرفة الرسم و النقش على الخشب التي قال بأنه لا يتعب منها بل تسعده، موضحا بأنه يعتمد في ذلك على مواد بسيطة جدا، في مقدمتها الخشب الذي يزوده به نجارو المنطقة، فهو لا يحتاج سوى إلى قطع صغيرة هي في الواقع بقايا لا حاجة لهم بها، بينما يشتري باقي المواد غير المكلفة، و يرسم في ذهنه كل تحفة ينوي تجسيدها، قبل إخراجها إلى النور.
و بالرغم من أن عمي محمد أكد أنه لا يعاني من أي عراقيل، خاصة و أنه يملك بطاقة حرفي تمكنه من عرض منتجاته، غير أنه لا يمتلك ورشة للعمل أو محل لتسويقها، ما عدا زاوية بشارع يتحتم عليه مغادرتها عند عودة التلاميذ للدراسة حتى لا يزعجهم.
و إن كان هذا الكهل يتمنى امتلاك ورشة أو مكان صغير للعمل بكل راحة، فإن طموحه الأكبر أن يتعلم ابنه ضياء الدين ذات يوم حرفته الفنية و يتقنها مثله، حيث يؤكد بأن لا أحد من أبنائه ورثها عنه، ما عدا هذا الطفل البالغ من العمر 12 عاما، الذي يحاول تقليد الفنان الذي حافظ على الحرفة لعقود طويلة، ليعود إليها و هو كهل ، و يبدأ حياة جديدة و كأنه في ريعان الشباب، يقوده شغفه و حبه للرسم للوقوف بكل ثقة و ثبات على قارعة الطريق،  في انتظار الحصول على ورشة لاحتضان تحفه.                                 
إ.زياري

الرجوع إلى الأعلى