موسم الحصاد يفقد طقوسه الإجتماعية
لم يعد موسم الحصاد مشقة كبيرة تستنزف طاقة الفلاحين طيلة الصيف وحتى منتصف الخريف،  فزمن المنجل اليدوي ونقل حزم السنابل في الشباك على ظهور الأحصنة و البغال قد ولى، كما أن عملية درسها بالاستعانة بحوافر هذه الحيوانات و تذريتها و تصفيتها يدويا، لم تعد تطرح كمشكلة  بعدما كانت مسؤولية ثقيلة يتحملها الفلاحون تحت أشعة الشمس الحارقة، فالتكنولوجيا الحديثة قلصت الجهد واختزلت الزمن  بفضل الحاصدة المكيفة التي عوضت الإنسان و أصبحت تتم العملية في ظرف أسابيع قليلة، يحصد خلالها المحصول و يدرس، وينقل مباشرة إلى مخازن تعاونيات الحبوب.
روبورتاج :ص/ رضوان
مكيفات الحاصدات تطفئ لهيب جويلية
تزامن انطلاق حملة الحصاد والدرس خلال شهر جويلية الجاري، مع تسجيل ارتفاع كبير في درجات الحرارة، التي كثيرا ما تضطر الفلاحين لتوقيف الحاصدات خصوصا في أوقات الذروة عندما تتوسط الشمس كبد السماء  و يبدأ غبار الهشيم في التطاير بفعل حركة الآلة، وهو ما دفع  بالكثير من ملاك الأراضي و الموالين إلى التخلي عن الحاصدات القديمة الخضراء الكبيرة            و تعويضها بحاصدات مكيفة حديثة، لا يتطلب تشغيلها الكثير، فالعامل الأول يقود الحاصدة فيما يقوم الثاني بجمع المحصول الجاهز من صندوقها ونقله مباشرة إلى مركبات الشحن المتوجه نحو مخازن تعاونيات الحبوب والبقول الجافة.
غابت الخصوصية الاجتماعية و ضاعت الحرف
بعدما بسطت التكنولوجيا علمية الحصاد، انتهت معها الحاجة إلى العمالة الكبيرة، و تضافر الجهود لتجميع محصول السنابل و تفريغه و نقله إلى مواقع التسويق، ما حول موسم الحصاد و الدرس إلى ذكرى غابرة، و ألغى تلك الخصوصية الاجتماعية التي كانت ترتبط به خصوصا في المناطق الفلاحية، فالموسم أصبح يحل و ينتهي دون أن يكون له وقع على أحد، كما الحال بمنطقة عيد عبيد جنوب شرق ولاية قسنطينة، بالرغم من أنه كان في السابق مناسبة لها خصوصيتها، تبعث الحياة في قرى و مداشر البلدية و تكرس لقدسية الأرض، فقد كان ينطلق باكرا مع بداية فصل الربيع، بمجرد أن تنضج السنابل الطرية في زمن لم يكن ينقطع فيه المطر، فكانت التحضيرات له تشمل الجميع و كان الاستعداد لاستقباله بمثابة أكبر حدث في السنة فصانع المناجل يشعل نارا كبيرة ليذيب فيها حديدا يصنع منه أهم أداة للحصاد، أو ليعيد تلحيم مناجل الفلاحين القديمة، وهي مهمة يشترك فيها مع العديد من الحدادين الذين يقومون بتصنيع الحدوات المخصصة لحوافر الخيل والبغال، ليكون وقعها أكبر على السنابل وهي تقوم بدرسها في ما يعرف « بالمطارح «.
 بالموازاة مع ذلك، تظهر في الأسواق الأسبوعية سلع خاصة بالموسم، كالمضلات الشمسية وكذا     « التبندات « وهي مآزر مصنوعة من قطع من الجلد المدبوغ  تحمي صدور وبطون الفلاحين و المتطوعين «الحصادة»، من بقايا السنابل الشوكية الحادة، كما تزدهر أيضا تجارة البرادع والشباك والحبال والرٌسن، و تعرض في الأسواق أنواع عديدة من اللجام الخاص بالحصان أو البغل وبعض أنواع الحمير، إضافة إلى سلع أخرى كثيرة يصنعها حرفيون يمتازون بمهارة عالية، فيما تشرع العائلات في تهيئة أمكان الدرس أو «الطرحة «  تحضيرا لموسم الدرس التقليدي، الذي يحضر له برش كميات كبيرة من الماء على قطعة أرض معينة، بعد تغطيتها بالتبن القديم، مع تسخير مساحة مناسبة لتدور فيها  الأحصنة، ترصّ أرضيتها جيدا لتكون صالحة لعملية الدرس وتحول دون اختلاط المحصول بالتراب، وهي عملية تستمر لعدة أيام ويكون أول ما يدرس فيها عادة هو «الفريك».
الفال و ذكريات الحصاد

عادات و طقوس اجتماعية كثيرة كانت ترتبط بموسم الحصاد و الدرس، ولعل أبزها هو « الفال»، عادة قديمة يقول عمي السعيد شعبي، أحد أعيان عين عبيد،بأنها تقوم على استقبال وقت الحصاد بذبح عظيم تبركا بموسم عامر، كما أن الفال يأتي من التفاؤل و الفرح بالموسم، و تعبيرا عن الشكر و الامتنان لله على رزقه، إذ تجمع في العادة أول كمية من القمح يتم حصادها و تدرس يدويا بالعصي و تطحن في نفس اليوم، و يحضر طبق الكسكسى من دقيقها، حيث يدعى إلى الوليمة مساء، كل سكان «الدوار»، وكذا بعض الأهل والأصدقاء مع إبراز مظاهر الفرح، وهو بمثابة إعلان رسمي عن انطلاق موسم الحصاد، الذي يسخر له عادة عدد كبير من العمال أو الحصّادة، كان البدو الرحل، يشكلون غالبيتهم في السابق، وقد كان أبناؤهم  يرافقونهم لالتقاط السنابل التي لم تطلها أسنان المناجل الحادة، حيث كانت تجمع في أكياس تعلق على الأعناق، يأخذونها معهم لاحقا عند مغادرتهم ويجففون محتوياتها و يفصلون حبات القمح بواسطة عن السيقان السنابل باستعمال جريد النخل، ويستخرجون منها غلة «عولة»، يأخذونها في رحلة عودتهم إلى صحراء الزيبان.
أما أصحاب الأراضي فيقومون بتجميع حزم السنابل وتكديسها وينقلونها بواسطة شباك خاصة على ظهور الأحصنة والبغال، إلى الركن المخصص للدرس «الطرحة»، أين تنثر بنية تجفيفها تحت أشعة الشمس في أوقات الذروة تحضيرا لدرسها بعد الزوال، بمجرد مغادرة العمال الذين يباشرون يوم عملهم مع ساعات الفجر أول، عندما تكون سيقان السنابل لينة يسهل ربطها، أما وجبة غذائهم فيتناولونها في حدود الساعة العاشرة صباحا، و تتمثل عموما في قطعة من «كسرة الشعير» وكمية من اللبن المحضر داخل جلد الماعز « الشكوة» ، تصب في إناء تتداوله الأيدي في المجموعة المكونة من 5 أفراد.
القليل من الحداثة و الكثير من البركة
العملية التي كانت تلي الحصاد الصباحي كانت تسمى  بـ « الدور»، و تقوم على ربط مجموعة من الأحصنة والبغال من أعناقهم وحثهم على الدوران بشكل مستمر لدرس حبات القمح التي كانت تلقى فوق بساط التبن المحضر سابقا، حيث يكون الدرس أسرع كلما كانت السنابل والسيقان أكثر جفافا، إذ يتحول حطامها إلى تنبن، يتم جمعه وتكديسه ويخزن في «النوادر» ليكون كلأ لهذه الحيوانات في الشتاء، وقد كانت هذه العملية تستمر إلى ما بعد العصر حين تهب ريح الشمال التي تسمى « الريح البحري» و التي يعتمد عليها بشكل كبيرة في إتمام عملية التذرية، أو فصل القمح عن التبن.
بعد ذلك تتم غربلة المنتج بواسطة غربال خاص كبير الحجم  يسمى «غربال الزرع»، دوره تصفية القمح من الشوائب والتبن، قبل أن توزن الغلة بواسطة مكيال يزن 20 كيلوغراما، وتعبأ في أكياس سعة كل كيس منها 5 أكيال، وكمية إضافية ليصل الكيل النهائي إلى قنطار، وبمجرد انتهاء المهمة، تكون صلاة المغرب قد مرت، والفلاحون بلغوا حد الإنهاك، فيتناولون طعام العشاء وهو عادة طبق «العيش  بالحليب»، المحضر بمزيج من الخضر الموسمية.
وحسب عمي السعيد، فإن هنالك من الفلاحين من كانوا يتركون الحبوب في سنابلها و يغطونها بالتبن تحضيرا لدرسها في الربيع القادم، نظرا للبركة في المحصول و الوفرة الكبيرة في الإنتاج و انقضاء الموسم قبل إتمام الانتهاء من فرز كل ما تم حصده.
التخزين والزكاة و خبزة الراحة

 بعد انقضاء موسم الدرس وجمع الغلة، تأتي مرحلة دفع المستحقات والتي تكون عادة نسبة يتفق عليها من محصول القمح والشعير، ومبلغا من المال إضافة إلى حصة من الزكاة، كما يباشر الفلاحون أيضا في عملية التخزين، إذ يتم تخزين المحصول وتقسيمه إلى نوعين النوع الأول موجه للاستغلال على للمدى الطويل، وهي نسبة توضع في ما يعرف بالمطمور، أما النوع الثاني فيستغل في فترة وجيزة ولذلك يخبأ في  الزراديب ليستهلك مع بداية الربيع، و هي نفس الطريقة التي تخزن بها البذور، بعد أن يتم استبدالها مع فلاحين آخرين لتغيير التربة من المناطق المرتفعة إلى المنخفضة والساحلية والعكس.
 أما آخر ما يدرس، فهي البقول الجافة من حمص وبازلاء وحلبة، لتختتم بذلك حملة الحصاد والدرس، بتحضير وجبة فاخرة يطلق عليها اسم خبزة الراحة، وتقتصر على الذين ساهموا في نجاح الموسم وكذا أفراد العائلة وتكون عادة طبق                 « شخشوخة بلحم الماعز أو الدجاج»، يتفرغ بعدها أهل البيت، لتخزين  كلأ الحيوانات من تبن وحصيد ، في شكل أكوام تسمى « النوادر» تغطى عادة بطمي أبيض مقاوم للمطر ممزوج بالتبن، كما تستمر في نفس الوقت عملية درس ما تبقى من  المحصول بالاستعانة بالحيوانات، تحضيرا لما يطلق عليه «عولة العام» وهي كمية كبيرة من القمح تتجاوز العشرة قناطير و تحدد بحسب عدد أفراد الأسرة، تخزين بعد غسل القمح في الآبار والينابيع وتكون  تلك فرصة لتجمع النسوة اللائي ساهمن في الموسم.
 بعد ذلك ينقل المحصول مساء، إلى المطحنة وهي بداية عملية أخرى شاقة، تخص إعداد مختلف أنواع الدقيق والنخالة المخصصة للحيوانات وكلاب الحراسة و الدجاج، كما يبدأ أيضا، موسم الأفراح والأعراس في انتظار موسم حصاد جديد.
كل هذه الأعمال الشاقة تقوم بها اليوم حاصدة متطورة ومكيفة، يوجه منتجوها من الحقل إلى مخازن تعاونيات الحبوب مباشرة ، وقليلة جدا هي العائلات التي ما تزال تحافظ على عادة العولة، في حين يفضل الكثيرون شراء دقيق السوق، واستهلاك الخبز الجاهز، وبذلك تكون المكننة قد قضت على حرف عديدة و غيبت مظاهر  احتفالية كثيرة و أنهت عادات كانت مصدر رزق للكثيرين، خصوصا ما تعلق بتقاليد جمع المنتج ونقله وتخزينه.
ص/ رضوان

الرجوع إلى الأعلى