تاريخ عريق و إصرار على المقاومة من أجل البقاء 
لا تزال مدينة قالمة تحتفظ بذكريات جميلة عن الباعة المتجولين الذين ظلوا يتصدرون مشهد الحياة اليومية منذ عقود طويلة، دون أن تنال منهم التحولات الاجتماعية  و الاقتصادية التي تعرفها مدينة عريقة تعاقبت عليها حضارات و أمم عديدة، و تركت فيها أثرا بليغا لا يزال يسري بين سكانها إلى اليوم.  
في زاوية من زوايا البريد المركزي، التحفة الهندسية الجميلة التي تزين قلب مدينة قالمة و تبعث فيه الحياة، ظل عمي وحيد، بائع الفوقاص الشهير، صامدا يقاوم متغيرات الزمن و المجتمع، خلف عربة صغيرة تختزن بداخلها قطعا لذيذة من البيتزا الشهيرة، الغذاء المفضل لموظفي البريد، و دار المالية و البنك المجاورين، وكذا تلاميذ متوسطة محمد عبده التاريخية و ثانوية محمود بن محمود العريقة التي كانت تجمع طلاب العلم من كل مناطق قالمة النائية و القريبة.
ظل عمي وحيد، كما يسميه سكان المدينة، لسنوات طويلة صامدا صابرا مبتسما في نفس المكان، حتى تحول إلى رمز من رموز و معالم ساحة البريد المركزي، كان بارعا في تحضير أكلة الفقراء و الموظفين، و التلاميذ و زوار المدينة الباحثين عن طعام سريع، و ظل هكذا حتى أقعده المرض و أبعده من مشهد الحياة اليومية بمدينة قالمة التي فقدت فيه تلك الصورة الجميلة التي تبعث على الأمل المتجدد، و تختزل المعنى الحقيقي لصراع الإنسان مع الطبيعة ومتغيرات الزمن من أجل البقاء، وإسعاد الآخرين حتى يحين موعد الرحيل.  
ويعد وحيد ،بائع الفوقاص الشهير، واحدا من أشهر الباعة المتجولين بمدينة قالمة، و قبله قدور الزبيري وباعة السمك بساحة السوق المغطى، وباعة الجرائد والفول السوداني «الكاكاو» و السجائر، و ما لذ و طاب من الخضر و الفواكه الموسمية.  
و بالرغم من التحولات الجذرية التي عرفتها المدينة على الصعيدين الاجتماعي و الاقتصادي و التجاري، فإن مهنة الباعة المتجولين، لا تزال قائمة تتحدى كل المتغيرات، فهي تستمد قوتها و أسباب بقائها من البساطة و التواضع و الإنسانية و العلاقات الاجتماعية المتجذرة.
في كل صباح يخرج الباعة المتجولون إلى شوارع المدينة يدفعون عربات خشبية صغيرة تحمل صناديق الخضر و الفواكه و أطباق البيتزا الساخنة، لتقديم خدماتهم للناس، بعيدا عن زحمة الأسواق الكبرى و المراكز التجارية و المطاعم المغلقة.  
و يتضامن الناس مع هؤلاء الباعة و يشترون منهم دون تردد، فهم يبيعون أجود أنواع السمك و الخضر و الفواكه و أطباق البيتزا بأسعار منخفضة، و كلمة طيبة و ابتسامة جميلة، تخفي متاعب الحياة اليومية و صراع الإنسان من أجل الكرامة و الكسب الحلال.  
في الحر اللافح و البرد الشديد، لا يغيبون عن مشهد الحياة اليومية بشوارع و ساحات قالمة القديمة، التي تحتفظ بشيء من الماضي الجميل المجسد في مخابزها و متاجرها، و أزقتها و مقاهيها العريقة، و الباعة المتجولين، رمز الإنسانية و التواضع و الزهد في الحياة، فكل شيء عندهم إلى زوال، و لن تبقى إلا الذكريات الجميلة بين الناس البسطاء، أمام هذا المبنى الجميل، و في هذا الشارع العتيق، مر ناس كثيرون و باعة صنعوا الحياة و الأمل.  
فريد.غ             

الرجوع إلى الأعلى