ثاجماعث .. نظام للوساطة  و فض الخلافات داخل المجتمع
تتميز قرى منطقة القبائل بنظام «ثاجماعث» أو «مجلس العقلاء» الذي ورثته منذ عن الأجداد منذ عصور ، و يرتكز على الحوار من أجل تسيير شؤون القرى و سكانها  و حل مشاكلهم الداخلية و فض النزاعات والفصل في القضايا التي تعترض حياتهم اليومية.
و يُعتبر وجود «ثاجماعث» ضروري في كل قرية، لحماية السكان و تنظيم الشؤون الاجتماعية فيها و كذا الحياة العامة ، و يجتمع الرجال على الأقل مرة في الأسبوع بصفة دورية، و عند الحاجة ينظمون دورات استثنائية ، في مبنى يحمل نفس اسم «ثاجماعث»، يقع عند مدخل القرية أو يتوسطها من أجل النقاش والتحاور حول قضية ما، و يحضر جميع سكان القرية الراشدين، ماعدا النساء والأطفال الصغار الذين يُمنعون من لقاء «الرجال».
إطار للحوار والتكافل يشرف عليه  عقلاء  
تتكون «ثاجماعث» التي تؤدي دور حكومة صغيرة تهتم بالتماسك الاجتماعي والقواعد الديمقراطية في المجتمع القبائلي، من الشخصيات المهمة التي لها وزنها وكبار القرية و شيوخها الذين يتمتعون بالحكمة و البلاغة ورزانة العقل ولا يتم تحديد مدة عهدتهم ، و يعتمدون على لغة الحوار من أجل فض الخلافات و النزاعات بين المتخاصمين، دون تدخل أي شخص أجنبي أو غريب عن القرية، منها القضايا الخاصة بالميراث أو الطلاق أو الشجار وغيرها.
كما تتكفل «ثاجماعث» بمختلف الأزمات والكوارث التي تضرب القرية مثل العواصف الثلجية أو مخلفات الأمطار الطوفانية أو الحرائق، مع العمل على إمداد السكان بالمعونة وغيرها،  حيث يجتمع أعضاء «ثاجماعث» داخل مبنى يقع في الغالب عند مدخل القرية أو وسطها، مشيد بتبرعات السكان و سواعدهم، ولا يختلف مظهره الخارجي عن البيوت التقليدية القبائلية، فهو جزء لا يتجزأ من الهندسة المعمارية للقرية، جدرانه مبنية بالحجارة و الإسمنت وسقفه مغطى بالقرميد، له مدخل ومخرج دون أبواب أو نوافذ.
هذا المكان محظور على النساء و الأطفال الصغار و كل شخص لم يبلغ سن 18 عاما، و هناك يتحاور الجميع و يتشاورون للوصول إلى الحل الأمثل للنزاعات أو عواقبها، و يفصل فيه «طامن تدارث» أي العقلاء  الذين تسند لهم مهمة اتخاذ القرار النهائي لحسم النزاعات، و لا يمكن لأي فرد من أطراف النزاع أو يمثل عائلة من القرية، الغياب عن الاجتماع، إلا لسبب قاهر مثل المرض أو مبرر مقنع، و إلا فإنّه سيخضع لعقوبات قاسية تتمثل  في دفع غرامة مالية تختلف باختلاف أسباب غيابه، كما تُفرض الغرامة على كل من يغادر جلسة  الاجتماع  قبل الانتهاء منها.
علما بأنه يتم تمثيل كل عائلة على الأقل بعنصر واحد في «ثاجماعث»، عادة ما يكون الأكبر سنا، و له الحق في التحدث نيابة عن أفراد أسرته، و يعرف حقوقه و كيفية المطالبة بها بكل حرية، كما يعرف واجباته و الإدلاء برأيه أمام الجماعة إضافة إلى واجب الطاعة واحترام القرار الذي تتخذه لأنه يصدر عن الأغلبية، وبفضل هذا النظام القديم تلعب روح ثاجماعث التي تحظى باحترام و اهتمام الجميع دور الحاكم والقاضي والشرطي في حياة القرويين و سكان المداشر في منطقة القبائل منها ولايتي تيزي وزو وبجاية.
وسائل التواصل تعوض «البراح» للإعلان عن الاجتماعات
 يخضع نظام  ثاجماعث لقانون داخلي يتفق عليه كل الأعضاء، ولا أحد يستطيع التطاول عليه، مهما كان منصبه أو ثقافته أو مكانته الاجتماعية، ويرأس الاجتماع  الذي يتم الإعلان عنه عبر وسائل التواصل الحديثة، عوض «البراح» الذي كان يجوب في الماضي  أزقة القرية ، لإعلام السكان بالاجتماع الذي يترأسه «طامن تدارث» بمعنى «أمين القرية» الذي يتميز بفصاحة اللسان و النزاهة و الأخلاق العالية و الرصانة و يساعده «العقلاء» على أداء مهامه ويساهمون في تسوية الخلافات بين المتخاصمين بالإصغاء و الحوار و التشاور، و يكون حضور الإمام إجباريا و»واجبا مقدسا» في كل الاجتماعات، ليقوم بافتتاحها بقراءة  الفاتحة ويطلب من الجميع الصلاة على النبي محمد صلى الله عليه و سلّم، ثم يشرع العقلاء والأعيان و الشخصيات في طرح المشكل أو القضية التي اجتمعوا لأجلها حتى يتم معالجتها بالحوار، ثم يختتم الإمام الاجتماع بتلاوة الفاتحة و الصلاة على خاتم الأنبياء.  
ممثلو السلطة التنفيذية و القضائية و التشريعية للقرية، يضمنون تسيير المجتمع في جميع المجالات، و يرسخون في أذهان القرويين أن الأماكن العامة و ممتلكات الآخرين مقدسة فلا ينتهكونها، و لا حاجة للشرطة لردعهم، و حماية أفراد المجتمع .  
عقوبات تتراوح بين الغرامة المالية و الطرد
إن ثاجماعث تتدخل في كل القضايا مهما كان نوعها وتحلهّا بشكل سلمي بالحوار، و يتم فرض عقوبات تتراوح بين الغرامة و الطرد و الإقصاء من اجتماع ثاجماعث،و  تختلف عموما الغرامة حسب نوع المخالفات التي ارتكبت، فالسب و الشتم و التلفظ بكلام بذيء في الأماكن العمومية و السكر العلني والاعتداء على ملكية الغير أو أملاك الدولة، يُعرض من يقترفها لعقوبات و غرامات مالية يسددها المعني دون نقاش و لا جدال.
في قرى منطقة القبائل، تتمتع «ثاجماعث» بنفوذ كلي على السكان الذين يتقبلون  عن طيب خاطر قراراتها ، لأن حياتهم وحياة عائلاتهم تعتمد عليها، لأنها تسير مختلف الأعمال، مثل الربط بمياه الشرب ، و حفر الآبار ، وتصريف مياه الأمطار و الصرف الصحي، وعمليات إزالة الثلوج ، و تنظيف الطرق ، وفتح المسارات أو بناء المنازل والمساجد وغيرها،حيث تنجزها «ثاجماعث» بتضامن جميع سكان القرية وبإمكانياتهم الخاصة.
قال الحاج محمد أوقاسي نعلي من قرية بترونة، في بلدية تيزي وزو، أنّ «ثاجماعث» موجودة منذ العصور القديمة قبل الاحتلال الفرنسي للجزائر، وظلت صامدة إلى غاية اليوم، فهي السلطة التي تسير شؤون القرويين منذ غابر الأزمان و تسهر على المصلحة العامة للأفراد، و تُعتبر الهيئة التنفيذية والتشريعية والقضائية في نفس الوقت، أساسها الحوار البنّاء للوصول إلى حل نهائي يُرضي جميع الأطراف، سيما المتخاصمة، إضافة إلى حفظ حقوق الأفراد والانضباط الجماعي ، مشيرا إلى أن «طامن تدارث» المعروف ب»الأمين» يسعى إلى تفضيل التراضي والوساطة والعفو في حل المشاكل المطروحة في الجلسة، قبل الوصول إلى إصدار الحكم النهائي وتطبيق القانون و فرض العقوبات على المخالفات.
كما أكد بأنّ حضور الإمام ليفتتح ويختتم الجلسات مهما كان نوعها و موضوعها ضروري جدا، بل هو «إجباري»، مضيفا أنه رغم التوسع الحضري و الحداثة و التكنولوجيا، إلّا أنّ «ثاجماعث» لا تزال قائمة وصامدة على مر الأزمنة و تأقلمت مع التطورات الكبيرة التي تعرفها القرى و المداشر، تعمل وتطبق نفس القوانين القديمة وتخضع لتسيير الشيوخ والعقلاء
سامية إخليف

الرجوع إلى الأعلى