متوسطة الإخوة بسكري.. إرث معماري عمره 140 سنة
تتميز متوسطة الإخوة بسكري، المتواجدة بحي الأمير عبد القادر بقسنطينة، بهندستها الفريدة التي تشد انتباه المارة، و تعكس مدى عراقة هذا الصرح التعليمي، فالبناء لا يزال يحافظ على الحجارة الزرقاء التي بنيت به، بالرغم من مرور أكثر من 140 سنة على تشييده، حيث كان الهيكل إبان الاستعمار  كنيسة لتكوين الكهنة و رجال الدين المسيحيين  قبل أن يحول إلى مدرسة لتكوين الأساتذة ثم معهد تكنولوجي للتربية ثم ثانوية و بعدها متوسطة.
بورتريه / أسماء بوقرن
هندسة تشبه مداخل القصور
زرنا متوسطة الإخوة بسكري، في محاولة لمعرفة المزيد عنها، خصوصا و أنها واحدة من المؤسسات  التعليمية التي تشتهر بعمرانها القديم المعمر لأكثر من 140 سنة، طبعا أول ما استوقفنا عند وصولنا إلى وجهتنا، هي  البوابة الرئيسية للمتوسطة،  بتصميمها « نيو موريسكي»، فالبناية شيدت سنة 1879  بالحجارة الزرقاء التي لا تزال محافظة على بهائها و لمعانها و تماسكها و لم تستسلم لقسوة الطبيعة، كما لايزال  بابها الخشبي شامخا محافظا على جماليته مرصعا بقطع نحاسية مزخرفة، وهي بوابة مقوسة عند الجهة العلوية على طريقة بوابات القصور  والمنازل القديمة، أما جدار الواجهة الرئيسية للمتوسطة يتزين بساعة كبيرة  دائرية  الشكل تشبه إلى حد ما ساعتي البريد المركزي و محطة القطار، و هي قطعة مصنوعة من مادة الجبس تتوسطها أرقام رومانية  و عقارب من حديد، تزين محيطها رسومات هندسية ملونة بالأخضر و الأزرق و الأحمر، لا تزال هي الأخرى في حالة جيدة.
حديقة عمرها قرن
دخلنا إلى المبنى، سالكين رواقا لا يتعدى طوله المترين، وصولا إلى فناء فسيح يعد جنة خضراء تشبه في تصميمها الحدائق التي تتوسط قصر الحاج أحمد باي، تزينها أشجار النخيل و أصناف نباتية أخرى يزيد عمرها عن المائة سنة،و ككل القصور و المنازل الفاخرة، تتوسط الحديقة مساحات إسمنتية للجلوس تزينها مقاعد خشبية، أما في وسطها فتوجد منحوتة جبسية لطائر الطاووس.
 يمكن للجالس في المكان أن يستمتع بالهواء المنعش و بجمال  التمازج اللوني بين أوراق الأشجار  الخضراء و الصفراء المتناثرة على الأرض خصوصا وأن كل تفاصيل الفناء الداخلي للمؤسسة متناسقة بشكل لافت إذ تعكس طابعا كولونياليا، رائجا في العديد من البنايات القديمة بقسنطينة بتفاصيله التي تميزها الأقواس مختلفة الأحجام، وكثرة الاعتماد على الحجارة الزرقاء و الآجر الأحمر الصغير كمواد أساسية للبناء على مستوى المرافق الداخلية خصوصا في الجناح الأول المخصص للإدارة  و الذي يضم الأمانة إلى جانب قاعات الأساتذة و الأرشيف و المكتبة، في حين يتميز الجناح الثاني بالبساطة و يحوي على الأقسام الدراسية وهو جناح ذو مدخل مستقل خاص بالتلاميذ.  
140سنة دون توثيق
رغم قدم هذا الصرح إلا أننا لم نقف خلال جولتنا داخله على الكثير، بعد أن ضاعت ذاكرة المكان بضياع أرشيفه، لدرجة أن المؤسسة لا تتوفر اليوم على أية وثيقة تقدم تفاصيل وافية عن البناية أو على الأقل بطاقة تقنية مفصلة لها، ما عدا وثيقة مكتوبة بالفرنسية تضم معلومات حول تاريخ تشييدها في الفاتح أفريل سنة 1879 ، غير ذلك لم نوفق في العثور على أية وثائق كافية تبين مجالات استغلالها عبر السنوات رغم أن هنالك مصادر بحثية خارجية توضح أنها كانت كنيسة مدرسية لتعليم الكهنة ورجال الدين المسيحيين، ثم كانت ستحول إلى مصحة للأمراض العقلية خلال الاستعمار  أو ملحقة تابعة للجيش الفرنسي سنة 1940، قبل أن تصبح مدرسة لتعليم الأساتذة إبان نفس الحقبة.
من جهتها، قدمت مديرة المتوسطة السيدة نجلاء أحريش، معلومات مقتضبة حول استغلال البناية بعد الاستقلال، قائلة أنها كانت في البداية عبارة عن مدرسة ترشيح المعلمين أو كما تسمى « دار المعلمين» وقد أدارها في تلك الفترة عبد العزيز الجيجلي، و درس فيها الجيل الأول للمعلمين بعد الثورة بإشراف أساتذة عراقيين و أجانب، و كانت تعد ثاني مؤسسة تعليمية عبر الوطن بعد تلك الموجودة بالعاصمة، حيث كانت تستقبل عديد التلاميذ من مختلف ولايات الوطن يحوزون على شهادات التعليم الابتدائي و المتوسط، كما كان بها مرقد لا يزال يستخدم اليوم لاستقبال الأساتذة القادمين إلى الولاية للخضوع لبعض الاختبارات و لدورات التكوين، مضيفة،أن المتوسطة حملت منذ أواخر الستينات اسم مديرها عبد العزيز الجيجلي.
 خلال حديثنا إلى المديرة، كنا نتصفح بعض الكتب وقد قرأنا في وثيقة كانت مطوية داخل كتاب، أن المدرسة تحولت لاحقا إلى معهد تكنولوجي، ثم إلى ثانوية تحمل اسم الإخوة بسكري سنة 1997 ، قبل أن يتقرر سنة 2009 تحويلها إلى متوسطة.
مكتبة ثرية

داخل مكتبة المتوسطة، لاحظنا وجود لوحة فنية لخريطة العالم وقعها فرنسيون سنة 1950، هم جون ميرادا، غابريال نوسي و سيرج أورميار، وقد احتوى هذا الفضاء أيضا على طاولة خشبية قديمة و خزانة خشبية صغيرة بها أدراج مربعة، أوضحت لنا المكتبية لمياء ،أنها كانت في الماضي تخصص لبطاقات الطلبة و وصولات الاستعارة، لتصبح اليوم مجرد ديكور يزين المكان الذي يحوي بالإضافة إلى ذلك، على  خزائن خشبية قديمة جدا جلها مغلقة رغم توفرها على عشرات المؤلفات في الأدب الفرنسي و علم النفس  و المسرح و الرياضيات و غيرها من التخصصات العلمية. طلبنا من مرافقتنا فتح إحداها، فتبين لنا أن الكتب قديمة جدا بالنظر لنوعية أوراقها و شكلها الخارجي، منها قواميس للفن و الفنانين التشكيليين عبر العالم، تضم صورا لأعمال أنجزت بين سنتي 1760 و 1850، لأسماء من أمثال الفرنسي أونوري دوميار و جوزيف أنطون فوشتماير، وهي نماذج بحثية أعدت عن أعمال أصلية منها ما هو معروض في متحفي اللوفر  و  متحف الفنون التشكيلية بمدينة مارسيليا. وجدنا أيضا موساعات و قواميس بالفرنسية في الرياضيات التطبيقية    و كذا معجم « لاروس» بكامل أجزائه  و كتبا لفيكتور إيغو و فلوبير،  و إيميل زولا على غرار كتاب    « الوحش البشري» ،  بالإضافة إلى كتب في اللسانيات و روايات و كتب لموليار و  فولتار و  جون فيلار ، كما تحتوي المكتبة على مراجع عدة في الثقافة الإسلامية و الأدب العربي  و المؤسف أن هذه الثروة المكتبية، غير مستغلة يتآكلها الغبار والإهمال في الوقت الذي يتعطش طلبة جامعيون لمراجع مماثلة، لما لها من أهمية في البحوث العلمية، إذ يضطرون في كثير من الأحيان إلى شرائها بالعملة الصعبة عبر الانترنيت  لكونها غير متوفرة إلا في نسخ إلكترونية.
هذا ما قاله أحمد طالب الإبراهيمي  خلال زيارته للصرح
انتقلنا رفقة مديرة المتوسطة، إلى  قاعة الأرشيف و كلنا أمل في العثور على وثائق أو سجلات تضم أسماء شخصيات معروفة كان لها مرور على هذه المؤسسة أو سبق لها الدراسة فيها، غير أننا لم نعثر سوى على علب أرشيف حديثة العهد، قبل أن تقع أعيننا على وثيقة مكتوبة باللغة الفرنسية  كتب في ترويصتها «مع تحيات هواري بومدين رئيس مجلس الثورة و رئيس مجلس الوزراء و عليها ختم الجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية، و هي وثيقة وقعها أحمد طالب الإبراهيمي، خلال زيارة للمؤسسة يوم 10 ماي 1970 « و جاء فيها « بعد بسم الله الرحمن الرحيم يطيب لي أن أدشن هذه اللوحة التذكارية التي تخلد روح الشهداء دار المعلمين الذين سقطوا في ميدان الشرف علهم يكونون قدوة حسنة للأجيال الصاعدة». علمنا أيضا من المديرة، أن وزراء عربا زاروا المدرسة، من بينهم وزير التربية العراقي محمد محجوب الذي كان مرفوقا بوزير التعليم الابتدائي و الثانوي عبد الكريم بن محمود سنة 1976، كما زارها أيضا قنصل أمريكي يدعى ميشال فارن كونورس بحسب ما جاء في سجل الزيارات القديم.
 ركن للمقتنيات الكلاسيكية
في ختام زيارتنا وقفنا على بعض القطع الثمينة التي لا يزال يحتفظ بها هذا الصرح العلمي، و التي يرجح أنها من بقايا الاستعمار في المؤسسة، من بينها بيانو  قديم مصنوع من الخشب عالي الجودة، يحمل علامة « ديزل» ، وهي قطعة مميزة لا تزال في حالة جيدة، و صالحة للاستعمال، مع ذلك فهو موضوع في قاعة مغلقة و لا يتم استخدامه أبدا.
وجدنا أيضا داخل قاعات المؤسسة، بعض المقتنيات القديمة كعلب البريد الخشبية التي لا تزال تزين جدار إحدى أروقة الجناح الإداري  بمحاذاة قاعة الأرشيف بالإضافة إلى أرائك مزينة برسومات طائر الطاووس، أعادت إدارة المتوسطة استخدامها بعدما أهملت لفترات طويلة.                         
أ ب

الرجوع إلى الأعلى