البطحة.. ملتقى الحجاج و كبار الشيوخ
تستنشق عبق التاريخ عندما تصل إلى ساحة البطحة، أو نهج «أولاد الشيخ لفقون البطحاء» حاليا، بالمدينة القديمة في قسنطينة، الذي يعود إلى العهد العثماني، حسب المؤرخين و الباحثين، فهو بمثابة  مفترق طرق بين الشط و الرصيف و الفنادق و المقاهي التي كانت تزخر بها المدينة منذ القدم، فيما يقف الجامع الكبير و معهد الشيخ عبد الحميد
بن باديس، شاهدين على الأعلام و الشخصيات التي مرت من هنا، على غرار الشيخ العربي التبسي و الرئيس الراجل هواري بومدين و غيرهما من المفكرين و المناضلين.
النصر توجهت إلى البطحة عبر شارع العربي بن مهيدي بالجهة الشرقية، مرورا بممر صغير بمحاذاة الجامع الكبير،  فهي عبارة عن  ساحة صغيرة تحيط بها المنازل و عدة ممرات، منها الضيقة و أخرى عبارة عن طرق رئيسية، ما لفت انتباهنا منذ الوهلة الأولى، العدد الكبير من المارة، و كأن الأمر يتعلق   بسوق يقصدها الناس من كل مكان، و كانت أصوات الباعة  تملأ الحي،  فيما اختلطت روائح المشاوي التي تعالى  دخانها، برائحة الهريسة الحلوة من محل عبد الحق، و إلى جانبها انبعثت رائحة « البراج» من موقد بمحل مقابل له، اصطف أمامه العشرات من المواطنين للظفر بحبات ساخنة. و بالجانب الآخر من الساحة لا يزال مقهى عمي رشيد وفيا لسكان الحي و المدينة العتيقة عموما، فيما نصب بعض الشباب طاولات لبيع الألعاب و بعض الملابس و مواد غذائية مختلفة، إلى جانب بعض الخضر و الفواكه و الأعشاب العطرية التي عبق بها المكان.
معالم زالت و أخرى تستذكر التاريخ

تحتفظ البطحة بالكثير من المعالم الأثرية التي لا تزال شاهدة على تاريخها العريق، على غرار « حمام البطحة» الذي يعود لعائلة مخزر،  ببوابته الخشبية الكبيرة و اليد النحاسية التي تتوسطه، و قد علقت إلى جانبه لافتة كتب عليها « حمام البطحة»،  لكن هذا الحمام أغلق أبوابه منذ سنوات طويلة، و قال لنا أحد السكان إنه بني سنة 1930 على الطريقة التركية باستخدام الرخام و أجود مواد البناء، و كان من بين أشهر حمامات قسنطينة و كان يقصده الناس من كل حد وصوب، إلى جانب سكان الحي، و ذلك إلى غاية 1982 ، عندما قررت العائلة غلقه بسبب خلافات حول تسييره.
في الجهة  الأخرى من الحي توجد مخبزة ذات فرن حجري، أغلقت منذ سنوات طويلة،  ليتخذ أحد شبان الحي من مدخلها مكانا لبيع الحلويات التقليدية، في مقدمتها «البراج» و يقصده يوميا عشرات المواطنين القادمين من مختلف جهات الولاية،  و يوجد قبالته محل السيد عبد الحق قادري، الذي يمتهن منذ سنوات طويلة صنع و بيع حلوى الهريسة ذات الشهرة الواسعة.
تضم البطحة أيضا منازل يزيد عمرها عن 100 سنة، شيدت على الطراز العثماني، حسب المختصين، باستخدام حطب العرعار و الرخام و الزلايج، بألوانه الجميلة، و تعاني اليوم من وضعية مزرية، بعدما تدهورت بشكل كبير، و قالت لنا سيدة  من سكان الحي، إن المستأجرين هم السبب الرئيسي في هذه الوضعية، فقد أقاموا بها لسنوات طويلة، ثم تركوها دون ترميمها،  فتحول  بعضها تحت تأثير عامل الزمن إلى أطلال، بعدما هجرها سكانها.  أما البقية القليلة، فهي ليست أفضل حالا من غيرها، ليبقى معهد الشيخ ابن باديس، المعلم الوحيد الذي لا يزال صامدا .
  وجهة الباحثين عن عبق  الزمن الجميل
ما لاحظناه أن البطحة  من بين الأماكن القليلة في قسنطينة التي لا تزال تحافظ على خصوصيتها، فالمكان لم يشهد تغيرات كبيرة بشهادة سكانه، حيث قال السيد هشام بوفنارة، صاحب مقهى،  إن الحي يحافظ على معالمه، و لم يدخل قاطنوه  أية تعديلات على المنازل و حتى الدكاكين، باستثناء بعض التغيرات الطبيعية التي شهدها الحي بفعل الزمن.
 أكدت لنا الحاجة زبيدة، أن نفس الروائح تنبعث و نفس الأصوات تتعالى كل صباح، على مدار 80 سنة من تواجدها بالمكان الذي ولدت و ترعرعت و تزوجت فيه، أما السيد حسان بن جاب الله، موظف متقاعد من شركة السكك الحديدية، يقيم في حي ماسينيسا ببلدية الخروب، فقال لنا إنه يزور يوميا منذ تقاعده ، مختلف أزقة المدينة القديمة، و تحديدا حي البطحة، حيث قضى طفولته،  أما حميد و هو موظف بأحد البنوك بوسط مدينة قسنطينة، فأكد لنا أنه يزور البطحة مرتين إلى ثلاث مرات في الأسبوع، خاصة عندما يشتهي  و يحن لتناول الهريسة الحلوة أو «البراج».
احتضنت هواري بومدين و كبار الثوار
كانت وجهتنا الموالية منزل بورطل، الذي استضاف لسنوات الرئيس الجزائري الراحل هواري بومدين، و درس في معهد العلامة عبد الحميد ابن باديس، حسب المؤرخ عبد العزيز فيلالي.
كان المنزل شبه مهجور و بوابته الخشبية الكبيرة مهترئة، صعدنا الأدراج بعضها كان إسمنتيا، بحكم تهيئتها، و  أخرى غطيت بالرخام و الزلايج،  فيما  لم يبق من سكان المنزل  سوى السيدة عبلة التي استقبلتنا بمدخله، فلاحظنا أن جزءا كبيرا من جدرانه تهاوى.

صعدنا معها إلى الطابق الثاني، الذي يتوسطه فناء جميل مصنوع من الرخام الأبيض و الأسود ، و على جوانبه أعمدة  حجرية،  و يضم أربعة غرف متباعدة كل أبوابها موصدة، إحدى الغرف كانت مخصصة لإقامة الرئيس الأسبق هواري بومدين الذي كان يدرس بقسنطينة،  كما كان المناضلون و الثوار يلتقون بنفس الغرفة ، المؤسف أن هذه الغرف تحولت إلى أطلال، بعدما تهاوت أسقفها و أجزاء من جدرانها،على غرار المنزل كله.
قالت لنا السيدة عبلة، البالغة من العمر 60 عاما، أن المنزل يعود لأجدادها، و يصل عمره إلى 200 سنة ، مضيفة أن والديها كانا يتحدثان مطولا عن الراحل هواري بومدين و زملائه المجاهدين، الذين آوتهم العائلة بمنزلها قرابة ستة سنوات، مشيرة إلى أن بومدين كان يزاول دراسته بمعهد ابن باديس،  ليلتحق بعدها بالثورة التحريرية .
المنزل الذي يؤرخ لفترة هامة من تاريخ قسنطينة، تضرر بشكل كبير، و لم تسلم منه إلا بعض الأجزاء ، تقيم بها السيدة عبلة ، في انتظار ترحيلها إلى منزل جديد، كما قالت لنا .
ساحة محورية تربط شرق المدينة بغربها
قال الباحث في التاريخ حسين طاوطاو أن حي البطحة من الساحات العريقة في ولاية قسنطينة، و يعود تاريخ إنشائها إلى العهد العثماني، حيث أطلقت عليها هذه التسمية التي لم تتغير منذ ذلك العهد، و رغم أن المصادر التي تتحدث بشكل مفصل عن تاريخ الأزقة و الأحياء في المدينة القديمة قليلة، إلا أنها تميزت منذ تأسيسها بعدد من الساحات العمومية  من بينها البطحة التي تعد ساحة محورية في قسنطينة، إذ تربط شرقها بغربها و هي معبر أساسي و ضروري للراغبين في التنقل بين الجهتين، كما أنها تربط بين شارعين رئيسيين، و تربط باب الواد بباب القنطرة و الشارع الذي يمر جنوب الجامع الكبير على الشط أو حافة الصخر، و تربط باب الجابية بباب القنطرة ، و بشكل أدق تربط البطحة بين مركز المدينة غرب الجامع الكبير، و شرق المدينة .
و أضاف الباحث أن البطحة عرفت تغيرات كبيرة خلال فترة الاحتلال الفرنسي لقسنطينة  و ذلك في نهاية خمسينات القرن 19 ، و يرجح أن تكون في سنة 1859 ، عندما بدأ الاستعمار في شق بعض الطرقات الرئيسية داخل المدينة القديمة ، حيث كانت مساحة ساحة البطحة كغيرها من الساحات الرئيسية،  أكبر مما هي عليه اليوم .
الدكتور عبد العزيز فيلالي
الحي اشتهر بالجانب الديني والمعرفي
قال لنا المؤرخ و الباحث  الدكتور عبد العزيز فيلالي من جهته أن حي البطحة  كان  مقر تجمع و التقاء الحجاج،  و ارتبط أساسا بعائلة بن الشيخ  لفقون ، فأطلق عليه «نهج أولاد الشيخ الفقون البطحاء «، فالأحياء العتيقة في قسنطينة، ارتبطت منذ القدم بألقاب العائلات الكبيرة التي كانت تملك أغلب منازلها ، على غرار منطقة باب القنطرة التي كانت تابعة لعائلة ابن القنفذ  و البطحاء التي كانت تابعة لعائلة الشيخ  لفقون، و الشط تابعة لعبد المومن، الذي قاوم العثمانيين  في حين انضم عبد الكريم  لفقون إلى العثمانيين، و بعد ثلاث سنوات من المقاومة قتل عبد المومن على يد العثمانيين، و نصبوا عبد الكريم  لفقون رئيسا لركب الحجاج و شيخ الإسلام الذي كان مقره بحي البطحاء ، و كان حجاج ولاية قسنطينة و المناطق المجاورة يتجمعون بالحي، قبل التوجه نحو البقاع المقدسة .
و أضاف عبد العزيز فيلالي أن حي البطحاء  اشتهر منذ القدم بالجانب الديني و المعرفي، حيث يحده عند مدخله الغربي المسجد الكبير و توجد به زاوية صغيرة و مكتبة لعائلة الشيخ لفقون كانت تضم أزيد من 4 آلاف مجلد و كان  يقصدها العلماء و الطلبة للنهل منها .
كما احتضنت البطحاء معهد العلامة الشيخ ابن باديس الذي كان يحلم طوال حياته بتأسيس كلية و جامعة لتدريس علوم الدين بقسنطينة، و بعد وفاته تقرر تأسيس معهد يحمل اسمه و هو موجود بالبطحاء، و ذلك سنة 1947 و درس فيه كبار المشايخ و العلماء، على غرار العربي التبسي الذي كان رئيسه، علما أن أغلب العلماء الذين تخرجوا من جامع الزيتونة مروا على هذا المعهد ،  كما أن رضا حوحو اشتغل أمينا عاما للمعهد .
هيبة عزيون
 

الرجوع إلى الأعلى