الإسكـافـي.. حرفــة مهدّدة بالاندثــار
تشهد حرفة الإسكافي تراجعا ملحوظا بولاية قسنطينة التي لم تعد تحصي سوى 73 إسكافيا عبر كافة بلدياتها، من جهة بسبب نفور الشباب من هذه الحرفة اليدوية التي تتطلب الدقة و المهارة و الصبر، و من جهة أخرى بسبب توفر الأحذية الجديدة بكميات كبيرة، سواء المحلية أو المستوردة من الصين و تركيا، بمختلف الأنواع و الأشكال ، بأسعار تتماشى مع مختلف الشرائح الاجتماعية، إلى جانب عدة مشاكل تهدّد الحرفة و تعرقل عمل ممارسيها.  
بعد أن كان  الذهاب عند الاسكافي ضروريا لكل المواطنين لتصليح حذاء أو حقيبة، أضحى الأمر اليوم منحصرا على فئات قليلة،  في ظل وفرة الإنتاج و غزو السلع الأجنبية للسوق الوطنية، بأسعار متفاوتة حسب النوعية.
أوضح للنصر نائب رئيس غرفة الصناعات التقليدية و الحرف لولاية قسنطينة، أن العدد الإجمالي للحرفيين في هذا المجال يقدر بـ 143 حرفيا، منهم 73 إسكافيا مختصا في تصليح الأحذية و ما يتبعها، و 57  يمتهنون صناعة الأحذية العادية، و 13 يصنعون الأحذية التقليدية.
و اعتبر المسؤول الأرقام المذكورة ضعيفة جدا، مقارنة بحرف أخرى يمارسها المئات و الآلاف من الحرفيين عبر الولاية، على غرار صناعة الملابس التقليدية و الحلويات و النقش على النحاس و غيرها.
في جولة استطلاعية للنصر، جابت عدة أزقة بالمدينة القديمة كانت  محلات الإسكافيين فيها، بمثابة جزء أساسي منها، إلى جنب حرف أخرى مختلفة، لكن أصبحت اليوم هذه المحلات تعد على أصابع اليد، فأغلبها أغلقت، أما التي لا تزال موجودة ، فأصحابها يعانون في صمت من شتى المشاكل.
يوجد العديد من الإسكافيين اتخذوا من سلالم و زوايا بعض الأزقة مقرا لعملهم ، حيث يفترشون الأرض أو قطع الكارتون في البرد القارس و الصقيع شتاء، و الحر الشديد صيفا، و يضعون أمامهم معداتهم و يعملون أمام عيون المارة، و قد ذكر لنا بعض من تحدثنا معهم من هذه الشريحة من الإسكافيين، أنهم يعانون أكثر من قلة الزبائن و غلاء المواد الأولية التي يستعملونها في تصليح الأحذية، و بالمقابل لا تدر عليهم الحرفة سوى مبالغ قليلة لا تكاد تسد احتياجاتهم و ما بالك باحتياجات أسرهم.
إسكافيون تخلّوا عن الحرفة و آخرون يواصلون التحدي

وجدنا في حي الرصيف الذي اشتهر منذ عقود بانتشار الاسكافيين به، أربعة حرفيين فقط، كان أحدهم منهمكا في تصليح الأحذية، في حين كان زملاؤه ينتظرون قدوم زبائن لتصليح أو خياطة أحذيتهم.
قال لنا الإسكافي حسين إنه كان يعمل في التسعينات بحي الدقسي عبد السلام، ثم انتقل إلى هذا المكان الذي كان ذا شهرة واسعة، و كان الزبائن يصطفون أمام الإسكافيين الكثيرين الذين كانوا يعملون على طرفي السلالم، لكن عددهم بدأ يتقلص تدريجيا، فمنهم من غير الحرفة تماما و منهم من غير مكان عمله، و أكد لنا المتحدث أن هذه الحرفة رغم قدمها و عراقتها، فهي لم تعد قادرة على الاستمرار ، بعد أن هجرها الزبائن و كذا الحرفيون .
و أشار الإسكافي أن غزو مهاجرين من بلدان جنوبية للحرفة، تسبب في تراجع مداخيلهم بشكل ملحوظ ، خاصة و أن أغلب الزبائن كانوا يفضلون طريقة الأفارقة في تصليح الأحذية التي تعتمد على خياطتها ، و بعد ترحيلهم و نقص عددهم  بقي الوضع على حاله ، حيث أن التحولات الاقتصادية التي شهدتها بلادنا ، و انفتاح السوق الوطنية على دول آسيا ، خاصة الصين و تركيا، ساعد على وفرة  كل المنتجات، بما فيها الأحذية بأسعار تنافسية، ما جعل المواطن يتخلى عن فكرة الذهاب للإسكافي، و يفضل اقتناء  حذاء جديد، ما دفع بالكثير من أهل المهنة إلى التوقف عن مزاولتها.
عمي رشيد أقدم إسكافي بقسنطينة
أحافظ على حرفة أبي إلى آخر رمق
توجهنا إلى أقدم إسكافي بالولاية و هو عمي رشيد بوشلاق ، يقع محله بحي الجزارين بإحدى الأزقة  الضيقة و العتيقة، و قد غير واجهته الأمامية بأخرى عصرية. وجدنا عمي رشيد منشغلا بتصليح أحذية و بعض الحقائب الجلدية ، و عاد بنا من خلال حديثه إلى  40 سنة إلى الوراء، عندما بدأ تعلم أساسيات هذه الحرفة على يد والده محمد بوشلاق الذي يقبع حاليا في بيته بعدما تقدم به العمر و أصبح عاجزا عن مزاولة حرفته التي أحبها و مارسها لأزيد من 60 سنة، منذ فترة الاستعمار الفرنسي.
قال عمي رشيد للنصر ، أنه لا يزال يحافظ إلى غاية اليوم على حرفة والده، رغم تراجع دخلها، و قلة زبائنها ، مشيرا إلى أنه رفض كل العروض التي تلقاها لتحويل محله إلى مطعم أو مقهى، كما فعل الكثير من زملائه، مضيفا أن نشاطه يقتصر اليوم على زبائنه الأصليين من الجيران  و بعض الأوفياء الذين لا يزالوا يقصدون المحل، رغم مغادرتهم سكناتهم القديمة و انتقال معظمهم للإقامة بالمدينة الجديدة علي منجلي.
أكد عمي رشيد أن حرفته مهددة اليوم بالزوال لعدة أسباب، في مقدمتها عزوف الشباب عن تعلمها و ممارستها، معترفا أنه لم ينجح في إقناع أحد أبنائه بحمل المشعل، كما فعل مع والده معه، و أعرب عن أسفه لأن مصير محله بعد رحيله، سيكون إما  الغلق أو تغيير النشاط ، و هو حال عدة محلات  لتصليح الأحذية في قسنطينة.
و أضاف المتحدث أن إدخال بعض الآلات الحديثة، كماكنات الخياطة و آلات أخرى، جعلت الإسكافي يتخلى عن عديد الأعمال اليدوية و قلصت من الجهد و الوقت الذي يتطلبه تصليح الأحذية و الحقائب، إلا أن هذه المعدات، حسبه، ليست كفيلة بإعطاء روح جديدة للحرفة التي تعيش سنواتها الأخيرة قبل الاندثار، على حد تعبيره، و شدد عمي رشيد أن ذات الحرفة رهينة نقص المردودية، بسبب قلة الزبائن و مشكل الضريبة المفروضة على أصحاب المحلات.
الذهاب عند الإسكافي تقليد راسخ عند البعض

بالمقابل لا يزال بعض المواطنين، يحافظون على عادة الذهاب إلى محل تصليح الأحذية، و يعتبرونه تقليدا راسخا، على غرار السيد مختار ، إطار بالديوان الوطني للإحصائيات في قسنطينة،  الذي التقينا به في محل عمي رشيد، حيث   أكد لنا أنه يعتبر أحذيته بمثابة القطع النادرة، و يهتم بها كثيرا، و يأخذها من حين لآخر عند الإسكافي لتصليحها أو طلائها، أو لإدخال بعض الروتوشات عليها ، خاصة و أن عمله يحتم عليه أن يكون دائما بمظهر لائق، مشيرا إلى أنه مهوس بشراء الأحذية الجلدية.
أما السيدة نادية التي تقطن بإحدى أزقة المدينة القديمة، فقالت لنا أنها لا تزال منذ طفولتها، زبونة وفية لإسكافي الحي الذي تقيم به، و تتوجه إليه عند الحاجة من أجل تصليح حقائب يدها و أحذيتها،  أو أحذية أحد أفراد عائلتها، و تثق بنصائحه و طريقته في العمل.
هيبة عزيون

الرجوع إلى الأعلى