- عيون - قسنطينة.. منابع تروي عطش مدينة تبكي تاريخها
 يقول العامة في وصف جمال قسنطينة، بأن سرها يكمن في « ماها»،  أي مياه وديانها و ينابيعها و «هواها» بمعنى علوها الشاهق و « تلحيفة نساها»، في إشارة إلى التحاف نسائها الملاءة السوداء، و مع أن صورة سيرتا ارتبطت دائما بالجسور، إلا أن مصدر حياة هذه المدينة المعلّقة، يكمن في المياه التي تخترق قلب الصخر العتيق و تتوزع عيونها القديمة عبر مختلف الأحياء، حيث  تتميز بالعذوبة والجمال، كصبية تأبى أن تشيخ، حتى أن عيونا قديمة لا تزال محافظة على هندستها و تصاميمها العربية أو الكولونيالية، على غرار عين سيدي الجليس «سرة المدينة العربية» و عين سيدي سليمان، التي تلفها الأسطورة.
عيون المدينة العربية و خزان العصر الوسيط
لا يختلف الوضع في قسنطينة، عن باقي الحواضر التاريخية التي تعد المنابع و الوديان مصدرا لازدهارها، فهذه المادة الحيوية كانت دائما جزءا من روح المدينة، لذلك ارتبط ذكرها بكل قصة و أسطورة قيلت عنها يوما، انطلاقا من الحديث عن وادي الرمال و بومرزوق العظيمين، اللذين يرمز إليهما بما يشبه السقف أو الخطين المقترنين، في شعار قسنطينة الشهير، حيث تعرف نقطة التقائهما باسم عيون «أشقار».
على مر العصور كان لقسنطينة، نظام خاص بالمياه، نتج عنه عدد كبير من العيون، التي لا تزال مياه بعضها منعشة سخية إلى غاية اليوم، حيث تتوزع معظمها بين أزقة و أحياء المدينة القديمة، كما يؤكده الباحث في التاريخ الدكتور عبد العزيز فيلالي، موضحا بأن تاريخ نشأة المنابع غير معروف بشكل دقيق، إلا أنها عموما تعود إلى العصر الوسيط، وهي مرحلة كانت تعرف بتمركز النافورات في الساحات العمومية، و بالنسبة لقسنطينة، فإن أغلب عيونها ، كما قال، امتداد لنظام الري الروماني « مجاز الغنم»، أو ما يعرف اليوم بأقواس شارع عبان رمضان، التي كانت قناة مائية تصب داخل صهريج كبير موجود في القصبة عند أعلى نقطة في  المدينة، و كانت تتفرع منه شبكة إمدادات تزود البيوت و الساحات  وهو تفصيل ذكر، حسبه، في بعض كتب المؤرخين الفرنسيين.
 محدثنا قال، إن هناك عيونا و نافورات يرجح أنها جزء من نظام ري عربي قديم يعتمد على الآبار، وهي في الغالب بعض العيون الموجودة في أزقة السويقة القديمة، و التي طورتها فرنسا لاحقا، بدليل أننا، حسب رأيه، نجد  هذا النوع من النافورات منتشرا أكثر في المدينة العربية، دونا عن المدينة الأوروبية.
بوطنبل و عسكر و الزيات
و ميزاب.. 18 عينا و أكثر
 تعطشنا لمعرفة تاريخها و فهم سر تعلق أبناء قسنطينة بذكراها، جعلانا نتتبع مسار مياه هذه العيون، كمن يتتبع خريطة كنز، سألنا عددا من أبناء المدينة عن عددها و عن أسمائها و مواقعها، فقيل لنا، بأنها 18 عينا و أكثر، أشهرها عين سيدي الجليس، إضافة إلى عين بوطنبل بحي  بن تليس و عين عسكر بحي باردو و عين كوشة الزيات و عين زنقة بن زقوطة وعين السيدة و عين سيدي عبد المومن أو عين سيدي ميمون، ناهيك عن عين ميزاب وعين  باب الجابية أو شارع عبد الله باي، وهي أيضا معروفة بعين الدورج، عين مستاوا ، أو ما يعرف بالعين الباردة  بأعالي هضبة المنصورة، و عين روابح بحي سيدي مبروك، عيون السامطة و المطيهرات و لالة فريجة بحي عوينة الفول و عين سيدي سليمان، عين السيدة وعين الأقواس المتواجدة أسفل القوس الروماني بالشارع الحامل لنفس الاسم، وهو منبع تحول اليوم إلى مرتع للسكارى و مكان لغسل السيارات، كما وقفنا عليه خلال زيارتنا للموقع.
شريان حيوي

يتفق الكثير من سكان مدينة قسنطينة، بأن دور هذه العيون كان حيويا جدا خلال سنوات عديدة ماضية، فإبان الاستعمار لعبت عيون المدينة القديمة دورا كبيرا في تزويد الحي العربي بالمياه، وكانت شريانا نابضا لعدد من النشاطات التجارية، خصوصا نشاط الدباغة، كما أنها كانت ولا تزال إلى غاية يومنا هذا تستخدم للشرب و الوضوء،  فهي منابع تروي عطش كل من يدخل السويقة ليشم عبق التاريخ و الأصالة أو يحاول استحضار ذكريات الطفولة أو بغرض التسوق، حتى أنها، حسب محمد الأمين بن جلول، أغنت سكان الحي القديم عن الحاجة للمياه خلال فترة التسعينات، عندما كانت أحياء كثيرة تعاني من انقطاع التزود بالماء لأيام و حتى لأسابيع، لأن هذه العيون، كما قال المتحدث و عدد من تجار السويقة، تحمل الكثير من بركة المكان، فهي عيون سخية سخاء أبناء المدينة القديمة، كما أكد عبد الحق، قصاب بحي الجزارين.
عيون صامدة وأخرى أتلفها الإنسان
و جفّفها الزمن
  بداية جولتنا في وسط المدينة كانت من حديقة بن ناصر، أين توجد واحدة من أجمل العيون من حيث الهندسة، رغم جفافها، حيث يعود تاريخها إلى سنة1938 و  تعرف باسم « نافورة ديسماريتس»، نسبة إلى النحات الفرنسي الشهير الذي اختار تصميمها الجميل ، القريب من التصاميم الشائعة في أوروبا، بحوضها الصغير الدائري و جدارها الحجري المنحوت.
 غير بعيد عنها توجد عين ثانية، تم تجديدها قبل سنوات قليلة، و تعتبر شريان حياة رئيسي يتوسط المدينة، فالكثيرون يشربون منها ، ثم يواصلون السير صعودا باتجاه ساحة أول نوفمبر و تفرعاتها، خلال تواجدنا بقربها، لاحظنا بأن هذا المنبع المقابل للنافورة الجديدة، يعتبر أيضا مصدر حياة للحيوانات الصغيرة و بالأخص الحمام و القطط.
تركنا الحديقة باتجاه المدينة القديمة، أين يوجد أكبر عدد من العيون، كما أخبرنا الباحث في التاريخ عبد العزيز فيلالي، وأكده لنا المؤرخ حسين طاوطاو، و كانت أول عين من عيون المدينة، تتواجد عند المدخل المعروف بباب الجابية، في شارع عبد الله باي، و كانت جافة أيضا، لكن وجدناها هذه المرة ذات تصميم حديدي بسيط يصبح أنبوبا مثبتا بشكل أفقي مع انحناءة ، و قال لنا تجار المنطقة بأننا نقف أمام عين الدروج.
 واصلنا جولتنا،  و على بعد أمتار قليلة فقط ليس بعيدا عن دار بحري للوصفان، و بين محلات الجزارين و باعة المكسرات، وجدنا عينا ثانية بنفس التصميم، لكن بوضع أسوأ، فالمياه الجارية منها و رغم صفائها،  خلفت بركة تحولت نظرا لنقص النظافة في المنطقة، إلى ما يشبه المستنقع،  سألنا السكان عن اسمها، فلم يجيبنا أحد.
نفس التصميم وجدناه مجددا في نهج سيرتا، المعروف بالسيدة حفصة،  وهي التسمية التي تحملها أيضا العين المتواجدة في المنطقة، كان وضعها أقل سوءا و قد قيل لنا بأنها لم تتغير منذ العهد الاستعماري ، مياهها كانت باردة و منعشة و كثيرون توقفوا ليرتووا منها، بينما كنا نقف في المكان، فالعين كانت مصدر الحياة الوحيد في الزقاق الذي تحيط به كل أشكال الخراب، بسبب انهيار أجزاء هامة من البنايات المتواجدة مباشرة خلف موقع العين.
 قال لنا سمير، و هو صاحب دكان صغير لتصليح الأجهزة الإلكترونية القديمة، يوجد على بعد خطوتين من المصب المائي،  بأن قيمة العين تكمن في كونها ضرورية لدفع مياه الصرف الصحي و تصفية القنوات الجوفية، كما أنها تزود سكان الزقاق بالمياه.
واصلنا السير إلى أن وصلنا إلى ممر كان من المفروض أن يقودنا إلى عين كوشة الزيات، التي اتضح بأنها أصبحت مجرد ذكرى بعدما جفت و تمت إزالتها كليا، حالها حال عين عسكر و عين بوطنبل بأحياء عوينة الفول و باردو، مع ذلك فقد حالفنا الحظ في إيجاد عين سيدي ميمون، القريبة من كوشة الزيات، لأنها ببساطة جزء من ساحة مسجد عبد المومن شيخ الإسلام و أمير الركب الحجازي، نقش على هيكل العين الحديدي، المزود بحوض صغير، بأنها أنشأت سنة 1907.
على بعد أمتار، وجدنا عين الزلايقة، تصب داخل حوض صغير، كان تصميمه يميل إلى الطابع العربي، لم تتوفر لنا معلومات كثيرة حولها، لكن قيل لنا، في الشارع، بأنها سميت نسبة إلى الممر المنحدر الذي توجد عند مدخله، كما أنها ليست جوفية، بل جزء من امتداد الشبكة.  تجار وسكان السويقة، حدثونا أيضا، عن عيون أخرى توجد إحداها على مستوى حي العربي بن مهيدي، وتحديدا أسفل النزل الذي يتوسط الشارع، قصدناها فلم نجد لها أثرا، قيل لنا إنها أزيلت قبل سنوات، وكذلك الأمر بالنسبة لعين كانت موجودة بسوق العصر، كان باعة السمك يستعملونها لتنظيف بضاعتهم.
سيدي الجليس.. سرة المدينة القديمة
وسط حي سيدي الجليس العتيق العريق، توجد عين منعشة شيدت عام 1936 تحمل نفس الاسم، و تتميز بحوضها الأملس المصنوع من الحجارة السوداء.
قيمة هذا المصب لا تكمن في برودة مياهه و غزارتها، بل في كونها كمنابع الإغريق القديمة، تمنح الشارب منها حياة جديدة، بفضل تشبعها بطعم ذكريات الطفولة و بكثير من حميمية المكان، فصوت مياهها يشبه سمفونية يتردد صداها بين جدران المنازل القديمة القليلة التي لا تزال صامدة، وحده يبعث الأمل في نفوس تجار الخردة والنحاس المترامية دكاكينهم بين ثنايا الفضاء الفسيح الهادئ المحيط بها.
عين سيدي سليمان « قد زيارها»
في منطقة الجباس أيضا، كانت توجد عين  تحمل تسمية عين سيدي سليمان، لكنها جفت و أزيلت، و خلافا لباقي العيون الأخرى، ترتبط بها أسطورة غريبة، حيث يقال، بأنها عين تابعة للولي الصالح سيدي سليمان و بولجبال، وقد كان سكان المدينة يلقون بها قرابينهم ،أو ما يعرف بـ « النشرة»  و يقيمون بالقرب منها ولائم الختان و « الزردة»، ويروى بأن مياهها كانت تزيد و تفيض، كلما كان عدد زوارها أكبر،  فيقال إن عين سيد سليمان « على قد زيارها».
هدى طابي

الرجوع إلى الأعلى