قصر مصطفى باشا..تحفة صامدة وسط بقايا القصبة العتيقة
تنحني بنايات القصبة العتيقة بالجزائر العاصمة تباعا أمام تغيرات الزمان، و تبقى قصورها صامدة رغم كل الظروف، فارضة منطق ما جاء به قوي لن يزول بسهولة، هذا ما تترجمه العديد من القصور و البنايات التي شيدت منذ عصور غابرة في قلب العاصمة، و يتقدمها قصر الداي مصطفى باشا، بالقصبة السفلى، الذي لا يزال شاهدا على عراقة حضارة لم يتمكن لا البشر و لا الزمن من طمس معالمها، و هو يعانق مياه المتوسط و يستند إلى مباني عملاقة أخرى، كمسجد كتشاوة و دار خداوج العمياء.
في موقع استراتيجي بقلب الجزائر العاصمة، أعطى الداي مصطفى باشا أمرا سنة 1799 ببناء قصر خاص، اشترط أن يُخص بهندسة معمارية مميزة، و أن يعتمد في تشييده على أجود أنواع الرخام و السيراميك، لينتج في النهاية واحدا من أروع و أجمل القصور التي تسافر بكل من يدخلها إلى زمن ألف ليلة و ليلة، و هو ينتقل بين الطوابق و الغرف،
و يحاول أن يسترق النظر عبر الشمسيات التي حيكت واجهاتها بأياد من ذهب.
تحفة صامدة وسط الخراب
قد لا يتصوّر أي شخص يدخل حي القصبة العتيق عبر بوابته السفلى، أنه سيجد قصورا و بنايات مميزة، وسط خراب أحكم قبضته على المكان، و من بينها قصر الداي مصطفى باشا الذي حكم الجزائر خلال الفترة من 1798 إلى غاية 1805، تاريخ اغتياله على يد الجيش الإنكشاري.
وسط درب ضيق، يسيطر عليه الظلام، و على بعد بضعة أمتار عن مسجد كتشاوة الذي أعيدت إليه الروح مؤخرا، تجد نفسك بين عالمين متناقضين، يغطي أحدهما الركام و بقايا بنايات مهدمة خصص بينها ممر صغير، و بناية من طراز خاص، تحكي أسطورة أحد دايات الجزائر الذين خلد اسمهم التاريخ، و تدهش كل من يراها، بهندستها المتميزة و الزخارف التي تزين الجدران و البلاط ، و كذا أعمدة الرخام التي لا تزال محافظة على أدق تفاصيل النقوش التي تحملها إلى غاية اليوم.
قصر يخلد تفاصيله
قادتنا رحلتنا في أعماق القصبة أو المحروسة، كما يفضل أهلها تسميتها، فولجنا واحدا من أروع القصور، إن أبوابه وحدها تجعلك تقف مطولا من أجل التمعن في التفاصيل التي تحملها، فقد صنعت من خشب مميز يحمل نقوشا إسلامية تؤرخ لحقبة مهمة من التاريخ، و زينت بقطع من الحديد ترمز لقوة صاحب القصر، مع تلك المطارق الأربع التي ميزت الباب و التي حدثنا أحد القائمين على القصر عن سرها، كاشفا بأن المطرقتين العلويتين خصصتا للداي عندما يكون فوق حصانه ليسهل عليه الطرق، بينما خصصت السفليتان ليطرق بهما الباب عندما يكون مترجلا.
بمجرد تجاوز البوابة الرئيسية، تجد نفسك وسط ما يعرف بـ”السقيفة”، القائمة على أعمدة من السيراميك القادم من إسبانيا، إيرلندا و تونس، و جدران من الرخام الإيطالي الخالص مزينة ببلاط مزركش بزهرة القرنفل التي ترمز للجزائر العاصمة و النجمة و الهلال العثمانيين، إلى جانب رسومات إسلامية، مع مجلس للانتظار، و منه يمكنك الدخول نحو قاعة الاجتماعات الخاصة بديوان الوزراء، و منها إلى وسط القصر الذي ربطت كل غرفه و طوابقه بما يعرف بـ”وسط الدار”، المزين بنافورة لا تزال تحكي أسرار من تعاقبوا على هذا القصر الذي يحتوي على أكثر من 500 ألف قطعة بلاط رفيعة، ما جعله ينفرد باحتوائه على هذا العدد على مستوى الجزائر .
تتكون البناية من ثلاثة طوابق، بالإضافة إلى الطابق الأرضي الذي كان يستقبل فيه الداي ضيوفه، فالطابق الأول الذي كان مخصصا للداي و أفراد عائلته، بينما يسكن الثاني الأٌقارب.
أما الثالث فقد كان مخصصا للعبيد و الخدم ممن يسكنون القصر، غير أن جميع الغرف تتقارب في هندستها و جدرانها التي خصصت فيها فتحات تسمى “الريحيات”، و كذا “الشمسيات” القريبة من السقف، من أجل تسهيل دخول الشمس و الهواء إلى الغرف ذات الأبواب الخشبية المميزة بشكلها و المادة التي صنعت بها، و النقوش التي تحملها من كل جانب.
محطات في تاريخ  القصر
  بعد وفاة مصطفى باشا، سكنت القصر العديد من الشخصيات، و مر بعدة مراحل و أحداث تاريخية ، ربما تعد أهمها استيلاء الداي أحمد على القصر،  ثم إبراهيم آغا ، صهر الداي حسين باشا سنة 1828، قبل أن يسترجعه إبراهيم ابن الداي مصطفى باشا الذي ورثه عن أبيه، و بدخول المستعمر الفرنسي، تحولت الأنظار  كلها نحو القصر المميز، فسكنته الكثير من الشخصيات الفرنسية ، منها الكاتب العام للحكومة الفرنسية سنة1846 .
و من مكان للإقامة، حول القصر سنة 1863 إلى مكتبة و متحف للآثار، ليصنف عام 1887 من طرف المستعمر إلى معلم تاريخي، و في سنة 1992 صنف ضمن التراث العالمي من قبل اليونسكو، ليصبح خلال 2007 متحفا وطنيا للزخرفة و المنمنمات و فن الخط بمرسوم وزاري تنفيذي ، بعد عملية ترميم حاول من خلالها القائمون على المشروع دعم البناية ، مع الحفاظ على كل خصوصياتها.         
إ.زياري       

الرجوع إلى الأعلى