تزين قباب المساجد حي القصبة العتيق بالجزائر العاصمة، صانعة تاريخ أمم و حضارات في قلب المحروسة، و يتصدرها مسجد العلامة الشيخ عبد الرحمان الثعالبي الصامد في وجه الزمن، ليجمع بين أسواره جدل العلم و الأساطير الشعبية، و ذكرى عالم جاء ليحارب شعوذة نجح المستعمر في زرعها في قلب مجتمع بأكمله، لا يزال يعيش على بقايا أجيال لم تتخل عما يعتبرونه “بركة الوالي الصالح”.
حارس المحروسة، هكذا يطلق عليه أهالي القصبة و الجزائر العاصمة عموما، إنه ليس جندي يحمل السلاح، و لا جدار عازل يرد كل شر، بل هو اسم لا يزال و بعد قرابة 6 قرون أهالي القصبة يطلقونه على تلك البناية الشامخة بالجزء العلوي للقصبة المطل على حي باب الواد الشعبي، بتلك القبة البيضاء ذات الزوايا الثمانية ، فوق بناية شامخة، لا تزال بصمة الحضارة العثمانية مطبوعة عليها، مخلدة شخصية إسلامية و تاريخية نصرت و جاهدت لأجل تنوير العقول و محاربة الأساطير المغلوقة و دحض الشعوذة، هو مسجد و زاوية الشيخ العالم أبو زيد عبد الرحمان الثعالبي، ابن محمد مخلوف الذي ولد بمدينة يسر بولاية بومرداس عام 1835.
الزاوية... مكان يختزل ذاكرة الجزائريين
تم تأسيس زاوية الشيخ عبد الرحمان الثعالبي الذي تحول من عالم إلى أب روحي لأهالي العاصمة سنة 1612،و كان يحج إليه الناس من كل مكان، لنهل العلوم الإسلامية التي لطالما عمل الثعالبي على نشرها منذ عودته من رحلته العلمية التي بدأت من بجاية، إلى تونس، مرورا بمصر، تركيا و المدينة المنورة، قبل أن يستقر بالجزائر العاصمة و هو في ربيعه 34، رافضا منصب القاضي، و مفضلا أن يكون معلما لأبناء الجزائر، أين حرص على تعليم الجنسين على حد سواء، حيث تؤكد بعض الروايات بأن 4 آلاف طالب كانوا يتتلمذون على يده في كل سنة، قبل أن ينتقل إلى الرفيق الأعلى شهر رمضان من سنة 1479م.
زاوية الشيخ عبد الرحمان الثعالبي، التي تضم بين جدرانها إضافة إلى ضريح العلامة، مقبرة الشيخ و بعض أفراد عائلته، إضافة إلى المسجد، لا تزال مكانا مقدسا بالنسبة لعدد كبير من أهالي العاصمة، و بغض النظر عن كونهم رجال أو نساء، فإن المكان يسجل كل صبيحة جمعة توافد أعداد هائلة من الراغبين في زيارة الضريح، كل حسب حاجته، محافظين على ما تربوا و ما نشأوا عليه من ولاء و حب لهذا الشيخ الذي نجح في ترسيخ حكمته في التعامل مع مختلف القضايا الاجتماعية، معتمدا في ذلك على ما جاء في الكتاب و السنة، من خلال نشر قيم التسامح و العلم في أوساط المواطنين الذين كانوا يتابعون و يتبعون كل ما يقدم من إرشادات من قلب الجامع الكبير بالقصبة السفلى.
الأتراك حولوا الزاوية إلى مسجد
بمجرد دخول الأتراك إلى الجزائر العاصمة، شرعوا في رصد كل ما يتأثر به الجزائريون، فتفطنوا لمدى تأثير شخصية الشيخ الثعالبي في نفوسهم رغم وفاته، ليقرروا إيلاء أهمية لهذا الزاوية بإدخال تعديلات عليها، منها توسعة القبة الصغيرة و تحويلها إلى قبة بـ8 زوايا، على شاكلة قباب الحضارة العثمانية، ليتقرر تحويلها إلى مسجد يليق بمقام العالم، على يد الداي علجي، الذي أضاف له محراب، و صومعة، و استعان بالخزف المستورد من آسيا لتزيين الجدران و الذي لا يزال شاهدا على العملية إلى غاية اليوم، و جعل من الصومعة برجا مربعا محاطا بمربعات خزفية، و كل هذا بعد أن قام بإدخال البناية ضمن محيط القصبة، بعد أن كانت قبل قدوم الأتراك خارج أسوارها.
ساهمت هذه العملية في زيادة أعداد المساجد بالمحروسة، و حماية هذا المبنى من الإهمال و العبث بتسييره، أين تحول إلى مكان للعبادة و تلقي الدروس من العلماء الذين كانوا يأتونه من كل حدب و صوب، ليجمع اليوم مسجدا، زاوية، مقبرة، تشكل أشهر المزارات لدى سكان العاصمة بشكل خاص.
طقوس غريبة في “بيت” عالم حارب الشعودة
بعد نحو 6  قرون من رحيله، لا يزال الشيخ عبد الرحمان الثعالبي الأب الروحي لسكان المحروسة، و بالرغم من أنه عمل طوال مسيرته على محاربة الشرك و الشعوذة التي سعى المستعمر الفرنسي طوال احتلاله للجزائر لترسيخها في  المجتمع، و مع نشوء جيل يحاول نشر فكر العالم و السير على نهجه، إلا أن الزائر للزاوية سيقف على مشاهد بعيدة كل البعد عما كان يدعو إليه، من خلال تلك الطقوس الغريبة التي يمارسها الزوار و التي تقارب حدود الشرك، كما قال أحد الأساتذة الذي التقيناه في عين المكان، موضحا بأنه جاء ليدعو لعالم جليل بالرحمة، و أنه بريء من كل هذه الممارسات التي تكاد أن تكون شركا بالله ، حسب تعبيره.
لاحظنا قدوم وفود تمثل النسوة الغالبية الساحقة فيها، و هي تحج إلى الزاوية من أجل زيارة الضريح، متجاوزة تلك السلالم الحجرية الطويلة المؤدية إليه، و قالت إحدى الوافدات”أنا هنا لزيارة سيدي الثعالبي و من أجل طلب بركته”، حالها حال الكثيرات ممن كن يحملن شموعا يقمن بإشعالها داخل الزاوية، و الصلاة أمام الضريح، مع الحرص على طلب خيط أخضر اللون من القيم على الزاوية ليكون “مصدر بركة” يضعونه في بيوتهم أو سياراتهم، وسط أجواء تعيدك إلى عهد الجهل و الأمية و هما من مخلفات المستعمر التي تسعى الكثير من الجهات لمحاربتها عبر تنظيم ملتقيات و دروس توعوية تعرف بحقيقة طلب الدعاء من الله و ليس من رفات أشخاص و إن كانوا أولياء صالحين، إلا أنهم يبقون بشرا يرقدون تحت التراب.
مسجد و زاوية الشيخ الثعالبي، و مهما صنعا و ما لا يزال يصنعان من جدل بين مريد يتمسك ببعض الممارسات بالزاوية ، و معارض يدعو للتعقل و التحلي بأخلاق و سلوكات العالم الجليل الذي ترك أثرا في كل شبر حط رحاله به  و عبر مؤلفات خالدة، يبقى المكان يمثل معلما تاريخيا فريدا من نوعه، لا يشكل مزارا بالنسبة للجزائريين فقط، بل مكانا يرتاده الكثير من السياح الذين يرغبون في اكتشاف المكان الذي يرقد فيه عالم لا يزال ذكراه متجذرا في المجتمع الجزائري، رغم رحيله قبل قرون غابرة.                 إ.زياري

الرجوع إلى الأعلى