أخرت الأمطار التي تساقطت بغزارة بداية شهر نوفمبر الماضي حملة البذر بقسنطينة، وتأخرت معها عادة « المَبْدَإِ»، التي تشتهر بها أرياف الولاية، مناسبة تعلن طقوسها عن انطلاق موسم فلاحي جديد، وهو موعد يباشر الفلاحون في الإعداد له مع نهاية الموسم الذي سبقه، باقتناء البذور وتقليب الأرض، في انتظار حلول موسم البذر الذي يحتفل به بنثر حبات الرمان في أول ثلم يشق الأرض لاستقبال الموسم الجديد الذي يتزامن مع هذه الفترة من السنة.
 عادات صامدة في زمن المكننة
 يعتبر الأوفياء لهذه العادة، بأنها فأل خير يبشر بموسم فلاحي خصب وواعد،  وأملهم أن تكون غلة الموسم وفيرة و أن تنبت الأرض سنابل غنية بحبات قمح طازجة و كبيرة كبر حبات الرمان الحمراء، ومع أن هنالك من الفلاحين من لا يزالون متمسكين بهذه العادة، إلا أن البعض تخلوا عنها في السنوات الأخيرة بسبب الانتشار الواسع للمكننة و شيوع استخدام السماد الكيميائي و الأدوية الزراعية و اختفاء المحراث التقليدي الذي دفنت معه معتقدات و أفكار قديمة اعتاد سكان الأرياف تكريسها في كل موسم، على غرار ما يقوم به بعض فلاحي بلدية عين عبيد، على قلتهم، إذ لا يزال في هذه المنطقة أشخاص بينهم كهول و شباب  يحافظون على عادة « المبدأ» و يكرسونها لما فيها من استبشار بالخير و لما تبعثه في النفوس من تفاؤل، خصوصا وأنها بالنسبة للبعض بركة من بركات « النية الصادقة « للأسلاف.
«الشخشوخة» بلحم الخروف لإحياء « المبدأ»
ياسين و الحاج عزيز، اثنان من أبناء عين عبيد، و فلاحيها الذين لا يزالون متمسكين بهذه العادة، قالا للنصر بأن  «المبدأ»، كما يطلق على العادة المذكورة، من تقاليد الأسلاف لذلك يحرصان على تكرسيها سنويا و  ينويان توريثها لأبنائهما في المستقبل لأنها عادة مميزة ترتبط بالثقافة المحلية للمنطقة، وليست مجرد معتقد بال أو خرافة، ويؤكّدان  أن إحياء «المبدأ» يكون بإعداد طبق الشخشوخة بلحم الخروف، كمظهر للاحتفال والشكر لله، حيث يوزع الطبق على العمال، بعد نثر حبات الرمان مع أول ثلم يشقه محراث الجرار بمجرد دخوله للحقل.
 و على الرغم من أنهما  يزاولان النشاط الفلاحي بمفردهما  إلا  أن الاحتفال يكون عائليا و موسعا، حيث يحرصان على استضافة بعض الأحباب و الفلاحين في يوم بهجة وسرور مضيفين، بأن الكثيرين تخلوا عن هذا التقليد، بعد عصرنة قطاع الفلاحة  وزوال الوسائل التقليدية التي أصبحت جزءا من الذاكرة المحلية ، فقطاع الفلاحة شهد تطورا كبيرا في ظل الثورة الزراعية و دخول الآلات، إذ اختفت الكثير من العادات و تناستها الأجيال و سقطت من الذاكرة الشعبية والمعتقد الميثولوجي، لأن أبناء الجيل الجديد لم يعايشوها، وبقيت مجرد حكايات يرويها على مسامعهم الآباء و الأجداد، على غرار عمي السعيد شعبي، الذي يعد كتابا مفتوحا على ذاكرة المنطقة، حيث يلتف حوله الشباب لسماع حكاياته بنوع من التعجب من «سيرة ناس بكري» وبراءة معتقداتهم، فمثلا يظن الأسلاف حسبه، بأن حبات الرمان المنثورة في أول ثلم يمكن أن تكون سببا في ارتفاع مردود الهكتار الواحد كما يعتقدون  أن منع النساء من التزين بالكحل وعدم رمي روث المواشي وتنظيف عنابر الحيوانات خلال فترة البذر، يساهم في  مضاعفة المردود.
موسم لا تتكحل فيه النساء ولا تنظف فيه الإسطبلات
يقول عمي السعيد، يبدأ موسم البذر، في غرة نوفمبر، في مثل هذه الفترة، وهو حدث مميز في حياة الأسرة الريفية في الجزائر عموما، حيث تصاحبه بعض المظاهر و العادات المتوارثة بين الأجيال و التي يؤمن الكثيرون بقدرتها على التأثير و إحداث الفرق  ومن بين المعتقدات الشائعة، منع النساء من التزين بالكحل طوال موسم البذر، ظنا بأن ذلك يتسبب في إصابة مختلف حقول الحبوب، وعلى رأسها القمح الصلب الأكثر زراعة، بالتفحم المعروف محليا « بالـكحايلة» ، و هي كلمة مشتقة من الكحل، كما يتوقف الفلاحون و الموالون في هذه الفترة، عن رمي فضلات الحيوانات، وحسب نفس المتحدث، فإن تراكمها يبشر بتراكم حزم السنابل في النوادر، و بالتالي يكون المحصول وفيرا في موسم الحصاد و الدرس. ومن الأكلات التي يتم إعدادها في هذه المناسبة، «الطمينة» التي تسمى محليا ب «الزرير» على أن تؤكل من يد امرأة، و تسف دون مضغ، لترمز لكثرة المحصول و الحب في الأكياس، و وسائل التخزين من مطامير و سراديب.
هذا و يقدس الكثيرون رجالا ونساء، فكرة أن يشق المحراث اليدوي حبة رمان في أول جولة له داخل الحقل لتتناثر الحبات الحمراء وسطه مبشرة بالخير، و أملا في أن يكون الإنتاج بنفس كثافتها وحجمها و بجمال لون هذه الفاكهة، وقد كان الالتزام بهذه الممارسات الشعبية، كما أكد محدثنا، راسخا و إجباريا لحد التطير من الإخلال بها  على مدار أيام البذر التي تبدأ عادة بحلول موسم الرمان.
طقوس رائجة في المجتمعات الزراعية
ويوضح الباحث في علم الاجتماع ومدرس مقياس الأنثرويولوجيا بجامعة قسنطينة 2 ، الأستاذ فوزي مجماج، للنصر بهذا الخصوص،  قائلا: «تعود هذه الممارسات الطقوسية إلى عهود قديمة عرفت بها المجتمعات الزراعية، و هي نتاج للاعتقاد الراسخ بخصوبة الأرض التي يمثلها شكل خصوبة رحم المرأة مثلا، لذلك تتلاءم كل تلك الأشكال في إسقاطات ذاتية يتحكم بها وجود منطق متشابه يصنف على أنه بدائي» و كان يعتقد الناس بأنه يسقط على الطبيعة، فنجد الكثير من هذه الممارسات في مجتمعنا اليوم و هي ميراث قديم، قد تعود أصول منبته إلى حقب بعيدة جدا.                                    ص.رضوان

الرجوع إلى الأعلى