* الطلبيات على البذلات كانت تقدم بشهرين قبل الأعياد والدخول الاجتماعي 
يعد  الحرفي صالح  بنيخ، 76 عاما، أشهر خياط بقسنطينة، و قد تعلمها على يد خياط يهودي، و هو في الثانية عشرة من عمره، ثم صقل معارفه على يد كبار الخياطين المحليين،  مكرسا حياته لهذه الحرفة و لخدمة زبائنه و تلبية أذواقهم، و كذا لتعليم أجيال متتالية، و لا يزال لحد اليوم يحتفظ بأدوات و معدات خياطة عمرها أكثر من ستة عقود، و يستعملها في عمله اليومي.
*  أسماء بوقرن
تحدث الحرفي الشهير باسم «بابيش الطايور» للنصر التي زارته في دكانه القديم بوسط المدينة، المليء بالذكريات الجميلة مع زبائنه، عن سر هذا الاسم الذي لا يزال يلاحقه منذ عقود، و عن بداياته و سر نجاحه و شهرته، مؤكدا أنه مصمم على مواصلة نشاطه الذي يحبه كثيرا، رغم تقلص دخله، مقارنة بسنوات خلت،  إلى أن يوافيه الأجل.
مكواة و ماكنة خياطة  عمرهما أكثر من ستة عقود
النصر زارت «بابيش الطايور» ، كما يحلو لأبناء المدينة مناداته، على التاسعة و النصف صباحا،  بمحله بزنقة «الجملاص» بالجزارين، وسط مدينة قسنطينة، فوجدنا أمامنا رجلا أنيقا يعتني بهندامه و بدكانه الصغير، الذي يختلف عن بقية المحلات القديمة المختصة في الخياطة، و التي تمتاز عادة بالفوضي و كثرة الخردوات و الأقمشة غير المستعملة، فمحل عمي صالح مرتب بعناية و نظيف، و قال لنا أنه كل صباح ينظفه و يرتبه قبل مباشرة عمله،  ثم يقوم بتنقية وسائل و أدوات عمله و تنظيفها من كل الترسبات و البقايا و ينظم خزانته  التي تحتوي على الخيوط و الإبر و المكواة و المقص و أدوت القياس و غيرها، في المساء قبل عودته إلى البيت، ما يجعل دكانه رغم صغر مساحته، يبعث على الارتياح.
ما يبهرك أكثر في محل عمي صالح و يجعلك تستمع بالجلوس فيه، رؤية وسائل الخياطة القديمة جدا التي لا يزال يستعملها إلى غاية اليوم، و لا تزال تحافظ على بريقها و نقاوتها، بدءا بآلة الخياطة التي اقتناها من فرنسا سنة 1972 ، و كانت في الأصل ملكا لخياط يهودي يدعى أندري، لا يزال اسمه منقوشا عليها لحد اليوم، مشيرا إلى أنه اشتراها مستعملة آنذاك، نظرا لغلاء سعر الجديدة، مؤكدا بأنه و منذ تلك السنة، لم يسجل أي عطب بها.
المكواة أيضا قديمة جدا، و قال لنا أنه يملك ثلاثا مثلها، و حاولنا معرفة تاريخ صنعها، إلا أننا لم نتمكن من ذلك، لأنه تلاشى جراء طول الاستعمال، غير أنها لا تزال تحافظ على بريقها، بالإضافة إلى الطاولات و الخزائن الخشبية التي تضم ما يحتاجه عمي صالح في حرفته ، كما وجدنا لديه «قسطبينة» عمرها يفوق 60 سنة، قدمها له الخياط اليهودي كهدية و لا يزال يستعملها لحد اليوم.
تعلم  الخياطة وهو طفل
 عاد بنا عمي صالح  بذاكرته إلى سنة 1958، تاريج ولوجه عالم الخياطة و هو في 12 ربيعا، فقد نصحه والده بتعلم هذه الحرفة  على يدي مختصين، فالتحق بورشة خياط يهودي يدعى روجي كان يعمل في ورشة بالشارع «لا بلاسات»، فعلمه أبجدياتها و كل خباياها، بدءا بطريقة إمساك الإبرة و الخيط و استعمال «القسطبينة» ـ تلك الحلقة المعدنية الدائرية التي توضع في الوسطى و تحمي الأصبع من وخز الإبر و تساعد على اتباع مسار صحيح في الخياطة ــ  و كذا طريقة التفصيل و الخياطة الرفيعة، فكان عمي صالح  شغوفا بتعلم الحرفة و حريصا على معرفة أدق التفاصيل عنها.
و أضاف أنه كان يستغل وقته مع الخياط روجي أحسن استغلال، بعد أن اكتشف مهارته و انضباطه و احترافيته، و هي عوامل شجعته على السير على خطاه في ممارسة الحرفة، و عدم تفويت الفرصة لاكتساب المزيد من المهارات التي يتمتع بها، كما أن تعلقه بالحرفة جعله سريع التعلم.
 تعلم على يد يهودي وصقل موهبته مع خياطين كبار  
محدثنا قال بأنه و بعد تعلمه الحرفة أصبح قادرا على الاعتماد على نفسه، ذهب للعمل بمحل أحد خياطي المدينة الذين لم يبخلوا عليه بما في جعبتهم من معارف حول هذه الحرفة،  قبل أن يفتح محلا خاصا به في زنقة « الجملاص» بحي الجزارين، أين انطلق نشاطه الفعلي، و كان ذلك إبان الاستعمار الفرنسي، فبدأ بتجهيز محله بوسائل خياطة بسيطة، بدعم من والده في بداياته، ثم باشر العمل.
و أشار إلى أنه تعلم على أيدي خياطين محترفين، أمثال سعيد عبد الرحيم و محمد زغاد و مغلاوي حمدان و بوعافية، ما جعله ينجح في بداياته و يحقق النجاح و الشهرة، فمحله كان يشهد إقبالا ملفتا، ما دفعه إلى توظيف مساعدين و هو في ريعان الشباب، كما قرر أن يدمج أخاه في المجال، و يعلمه الحرفة، ليصبح مساعدا له، قبل أن يتحول هو الآخر إلى محترف.

و تابع بأن حجم الإقبال المتزايد على محله، جعله يقسم فريق عمله إلى أفواج للعمل بالتناوب، على مدار 24 ساعة، من أجل توفير الطلبيات في موعدها لأصحابها، مشيرا إلى أنه لم يكن يتأخر و لو ليوم واحد عن موعد تسليم الألبسة لزبائنه، و كان يعتبر ذلك أمرا مقدسا.
سعر البذلة الكلاسيكية كان 400 دينار في   1963
عمي صالح قال بأنه كان يخيط ألبسة كلاسيكية رجالية على المقاس، منها ذات الاستعمال اليومي، و أخرى رفيعة للمناسبات، بأسعار تتراوح بين 400 و 500 دينار للسراويل و تصل إلى 800 دينار للبذلة الكلاسيكية الرفيعة، مشيرا إلى أن سعرها كان 400 دينار في سنة 1963،  و كان يقصده أشخاص من مختلف الفئات العمرية، مضيفا بأن نشاطه كان يزدهر أكثر في المناسبات و الأعياد و الدخول الاجتماعي، حيث كان الظفر بموعد عند خياط أمرا شبه مستحيل.
و كان يتم تقديم طلبية قبل شهر أو شهرين، و بخصوص سر نجاحه في حرفة الخياطة بالرغم من صغر سنه آنذاك، قال  موضحا بأن التفاني في العمل و الانضباط و حب المهنة ، وراء تألقه في حرفة الخياطة، بالإضافة إلى علاقته بزبائنه المبنية على الاحترام  و التقدير ، و الأمر مختلف عما نعيش اليوم، مؤكدا بأنه كان يعامله زبائنه بمودة ، كما كان الزبون يكن كل التقدير للحرفي و يضعه في منزلة مشرفة ، ما يجعله، يبذل كل ما بوسعه لإرضائه، عكس ما نقف عليه اليوم.
الزبون كان يقدر الحرفي ويضعه في مرتبة مشرفة
محدثنا ذكر بأنه و بفضل هذه الحرفة، استطاع مساعدة والده في إعالة أسرته، و كان يدخر مبالغ مالية من دخله، لتعليم إخوته و توفير الظروف و الإمكانات اللازمة لمواصلة مسارهم الدراسي، و كل تضحياته في سبيلهم لم تذهب سدى، فقد حصل أخوه على البكالوريا بثانوية رضا حوحو  بجدارة ، و احتل المرتبة الأولى و استفاد من منحة إلى الخارج، و واصل دراسته في أمريكا في تخصص الرياضيات، بعد ذلك  التحق به أخوه الثاني الذي حرص عمي صالح على تعليمه أيضا، موضحا بأنه سعيد لأنهما حققا ما حلما به.
المنتجات المستوردة قلَّصت عدد الخياطين
أكد « بابيش»  بأن الحرفة تراجعت في أواخر الثمانينيات و مطلع التسعينيات، بعد رواج المنتجات المستوردة و تقلص عدد الخياطين إذ لم يتم  تكوين جيل آخر منهم، مشيرا إلى أن الشباب أصبحوا يقولون بأن الخياطة حرفة ميتة، لا تحقق دخلا، و لا تلقى رواجا عند مختلف الفئات، و هو ما جعل ممارسة هذه الحرفة حكرا على كبار السن،مقرا بأن زبائنه اليوم هم من فئة الكهول فقط، الذين مازالوا أوفياء « للطايور» ، كما قال، و يفضلون ارتداء ألبسة على المقاس و على ذوقهم.
عمي صالح قال لنا عندما زرناه بأنه انتهى من خياطة سروالين و بذلة كلاسيكية لمحامي بقسنطينة،  مشيرا إلى أن هناك محامين و أساتذة و زبائن آخرين مازالوا أوفياء لمحله و منتجاته، رغم تقدمهم في السن.
بخصوص الأسعار ، قال لنا الحرفي بأنها تختلف، حسب نوعية القماش التي أصبحت رديئة، حسبه، حيث يقدر سعر السروال اليوم بـ 3 آلاف دينار، فيما يخيط المعطف بنحو 18000 دينار، فما فوق، مشيرا إلى أن دخله  تراجع كثيرا جدا مقارنة بالعقود الماضية، إلا أنه لم  يشأ أن يترك محله و حرفته، بالرغم من أن إخوته تعهدوا بتوفير دخل شهري معتبر إذا ترك هذا المجال.
و أكد لنا أنه يفضل أن يسترزق من عرق جبينه ، كما أن عشقه للحرفة جعله يتمسك بها و يصمم على ممارستها إلى آخر رمق.
و في ختام حديثه قال لنا بأن اسم بابيش، أطلقه عليه في بداياته أحد المارة، بعد أن انبهر بنشاطه و مهارته في العمل، بالرغم من صغر سنه، و أصبح الكثيرون ينادونه «بابيش الطايور» حتى بعد أن تقدم به العمر .                       أ ب

الرجوع إلى الأعلى