بعد أن هيمنت الأواني الصينية المعدنية و النحاسية خلال السنوات الماضية على السوق الجزائرية، و شهدت إقبالا كبيرا على اقتنائها من قبل  زبائن  أعجبوا بزخارفها و أشكالها العصرية، بدأ مؤخرا النحاس التقليدي يسترجع مكانته و زبائنه، كما أكد حرفيون و لاحظت النصر خلال جولة استطلاعية بمحلات النحاس بحي رحماني عاشور "باردو"  بقسنطينة، التي تستقطب زبائن من داخل الولاية و مختلف الولايات إلى جانب المغتربين و الأجانب، خاصة الجيران التوانسة.

روبورتاج / أسماء بوقرن

حرفيون و تجار بحي "باردو" قالوا إن الزبائن عادوا مجددا إلى النحاس القسنطيني الذي لا يزالوا يعتمدون في صناعته على اليد و وسائل بسيطة، و ربطوا ذلك بنوعيته الجيدة و متانته و اعتماد أغلبهم على تصاميم جديدة و عصرية و نقوش متنوعة، معترفين بأن الأسعار مرتفعة، نظرا لغلاء المادة الأولية، و مشيرين إلى تغيير نمط عرض و تسويق منتجاتهم، حيث اختاروا ديكورا جميلا للمحلات، و عرضوا في الواجهات القطع المميزة لجذب الزبائن، كما استغلوا الفضاءات الافتراضية  للترويج لهذا التراث الذي تشتهر به عاصمة الشرق الجزائري، كما لاحظنا خلال جولتنا بالحي، انتعاش نشاط إصلاح و  تبييض «تشبيب» الأواني  و قطع الديكور النحاسية، بسبب رغبة الكثير في مواكبة تصاميم النحاس الجديدة.      
عرفت الحرفة تراجعا كبيرا في السنوات الماضية، لأسباب أرجعها حرفيون تحدثت إليهم النصر خلال جولتها الاستطلاعية بحي رحماني عاشور، إلى هيمنة المنتوج المستورد في الغالب من الصين و كذا الهند، بأثمان مغرية و بموديلات حديثة، مكنت من استقطاب  الزبائن، في الوقت الذي كان يعرف فيه النحاس التقليدي ارتفاعا لافتا للأسعار، نظرا لارتفاع سعر المادة الأولية، حيث قفز سعر الكيلوغرام من النحاس من 800 دينار إلى 1300 دينار،  ما تسبب في ركود الحرفة التي تشتهر بها المدينة منذ القدم، و دفع الكثير من الحرفيين إلى وقف نشاطهم أو تغييره، كما قال لنا الحرفي محمد، المختص في تبييض النحاس بذات الحي،  مشيرا إلى أن عددا معتبرا من محلات النحاس، حولها أصحابها إلى محلات لبيع الخردة، فيما حافظ البقية على نشاطهم و سعوا إلى تطويره و تجديده.
خلال جولتنا عبر محلات بيع و صناعة النحاس، لفتت انتباهنا السينيات العصرية التي تتميز بنقوش بارزة، و تزين حواشيها زخارف ذات ثقوب، زادتها جمالا، فلم يعد الحرفي يكتفي بتقديمها في شكلها التقليدي المعروف، بل أبدع في تزيينها و تصميمها بشكل مربع و دائري و معين، بأسعار تتراوح بين 8 آلاف و 24 ألف دينار، كما عرضت قطع ديكور و أطقم الحناء النحاسية و لوازم السينية من سكريات و «مراش» بحلة عصرية جذابة، لكن هذه القطع لا تحظى بنفس الإقبال، الذي اكتسبته السينيات، حسب بعض الحرفيين ، لأن مصمميها حافظوا على الطرق التقليدية في صنعها و نقشها، بالاعتماد على الأقلام الفولاذية و المطرقات ذات الأحجام المختلفة.   
تطوير صناعة النحاس القسنطيني يعيد زبائن الولايات المجاورة
لاحظنا أن الزبائن الذين كانوا في وقت سابق أوفياء للنحاس القسنطيني، و تخلوا عنه للأسباب التي ذكرناها سابقا، عادوا إليه مجددا، بعد أن جذبتهم التصاميم الجديدة التي روّج لها الحرفيون عبر الفضاء الافتراضي.
التقينا خلال جولتنا، بنساء قدمن من ولاية قالمة، خصيصا لاقتناء طاقم نحاسي لتجهيز ابنتهم المقبلة على الزواج، و أكدت لنا إحدى قريبات العروس بأنها شاهدت في الفضاء الافتراضي تصاميم جديدة و جذابة تعرض في محلات باردو و أخرى تروج لها مختصات في صناعة الحلويات بالمدينة من خلال حساباتهن على مواقع التواصل الاجتماعي، ما جعلها تحرص على زيارة قسنطينة و بالضبط حي باردو ، مضيفة بأن التجول بمحلاته، لها نكهة خاصة و مميزة، كما أعربت عن انبهارها بكل القطع النحاسية المعروضة، و بالأخص السينيات، حيث اختارت واحدة ذات لون ذهبي بسعر 18000 دينار ، و طلبت من صاحب المحل أن  يشكل لها طاقما من قطع نحاسية أخرى يتكون من المرش الذي يملأ بماء الزهر، بالإضافة إلى الوعاء المخصص لوضع ملاعق القهوة، و كذا حامل المناديل.
و قالت سيدة تقيم بإحدى بلديات ولايات قسنطينة، بأنها قررت شراء منتوج محلي يبقى محافظا على جماله و جودته لعقود من الزمن، عكس المنتوج المستورد، مشيرة إلى أنها تخلصت من «بلاطو» و بعض القطع المعدنية و النحاسية الصينية الصنع التي اشترتها من أحد المعارض، بعد أن فقدت لونها و بريقها و لاحظت تشققات عليها.
- كمال هامل حرفي في صناعة النحاس: سجلنا عودة قوية إلى النحاس التقليدي في السنتين الأخيرتين


زرنا محل الحرفي كمال هامل، المختص في صناعة النحاس و بيع قطع قديمة تعكس عراقة هذه الحرفة التي تحكي عن تعاقب الحضارات على المدينة، و منها أواني الطهي النحاسية و قطع ديكور و جرس و ثريات..
قال لنا الحرفي بأنه يوجد أكثر من 365 نوعا من قطع النحاس، من بينها الكيروانة و المرش و الشمعدان و طفاية و الإبريق و المحبس و المهراس و قطع الديكور المختلفة، و قد اختفت الكثير منها من حياتنا اليومية .
و أضاف محدثنا بأنه لاحظ خلال السنتين الأخيرتين عودة الكثير من المواطنين إلى النحاس التقليدي، بعد أن تخلوا عن المنتوج المستورد الذي يعرض بأسعار مغرية، بسبب نوعيته الرديئة ، حيث يتغير لونه بعد أقل من سنة من اقتنائه، كما تفاجأوا بأنه لا يمكن تصليحه ، فيتم رميه بمجرد  تشققه أو تعرضه للتلف، عكس النحاس القسنطيني، و هو ما ساهم في عودة الزبائن إلى حي باردو الذي يفتح ذراعيه دائما لعشاق هذا المعدن الجميل، مضيفا أن هناك عوامل أخرى ساهمت في بعث نشاطه، بالرغم من الارتفاع المحسوس في سعره، و هو تطوير صناعة النحاس و الاعتماد على نقوش عصرية و تصاميم حديثة للسينيات ، بدءا من حواشيها التي أصبحت تزين بثقوب ذات أشكال هندسية مختلفة، فيما تنقش برسومات متنوعة، مشيرا إلى أن عرضها يتراوح من 45 سنتيمترا إلى متر.
و شدد الحرفي بأن جودة المنتوج المعروض في السوق، ساهمت في السنتين الأخيرتين في استقطاب زبائن أوفياء من تونس، يزورون المدينة خصيصا لشراء الأواني النحاسية بكميات كبيرة، معربا عن أسفه لأن بعضهم يعرضونها في بلادهم على أنها من صنع تونسي، داعيا السلطات إلى وضع سياسة رشيدة للترويج لهذا التراث الفني و حمايته من السرقة.  
- محمد بن نية مستورد المادة الأولية: نتوقع زيادة في سعر النحاس قد تصل إلى 1600 دينار


قال الحرفي محمد بن نية و هو مستورد لمادة النحاس من إيطاليا و ألمانيا و تركيا و بلغاريا، بأن ارتفاع سعر النحاس أثر بشكل لافت على الحرفة، حيث أصبح سعر الكيلو غرام الواحد من النحاس يقدر بـ 1300 دينار، و هذا نتيجة انخفاض قيمة الدينار، متوقعا أن يصل إلى 1600 دينار، نظرا لتبعات الأزمة الوبائية، غير أن الزبائن عادوا إلى النحاس و بالأخص العرائس اللائي يحرصن على اقتناء قطع ذات نوعية جيدة.
و أكد المتحدث بأن السوق تراجع، مقارنة بسنوات ازدهار حرفة النحاس، و ذلك بنسبة 50 بالمئة ، حيث كان يستورد من 100 إلى 200 طن سنويا، إلا أنه اكتفى هذه السنة بـجلب 50 طنا، مشيرا إلى أن غالبية السلع التي قام ببيعها لم تسدد قيمتها بعد من قبل الحرفيين، الذين لم يتمكنوا من تسديد ديونهم، نتيجة قرار الغلق، خلال فترة الحجر الصحي، موضحا بأن نشاطهم تأثر بفعل الجائحة، فقد اعتادوا على صنع الأواني النحاسية طيلة السنة، لتخصيص موسم الصيف لبيعها، لأن هذه التجارة كانت تزدهر في موسم الأعراس، لكن هذا الموسم كان استثنائيا اذ لم يتمكن التجار من تسويق بضاعتهم، ما جعلهم يتأخرون عن موعد تسديد ديونهم.
  - علاء الدين بن جامع تاجر نحاس: العرائس أوفياء للنحاس و تحوّل لموضة مؤخرا
من جهته أكد الحرفي و التاجر علاء الدين بن جامع، الشاب الوحيد الذي وجدناه بحي باردو يمارس تجارة بيع النحاس، التي ورثها عن والده، بأنها ازدهرت مؤخرا، نافيا تخلي العرائس على النحاس كما يروج له، مؤكدا بأنهن ما زلن أوفياء له و يعتبرنه كقطعة أساسية في الجهاز، خاصة في السنتين الأخيرتين حيث عادت موضة النحاس بتصاميمه العصرية، مضيفا بأنه يقصدنه من مختلف ولايات الوطن، و أشار إلى أنه أدخل تحديث على محله و أصبح يقدم قطع النحاس المختلفة في ديكور جميل للترويج لهذا الموروث الثقافي الذي تشتهر به مدينتا، مضيفا بخصوص الأسعار بالقول بأنها تختلف حسب الحجم و كذا نوع التصميم و النقوش، اذ يتراوح السعر بين 8 آلاف دينار و 24 ألف دينار بالنسبة للصينية، و غالبا ما تلقى الأنواع ذات سعر 13000 و 18000 رواجا، مشيرا إلى أن حجم العرض يفوق الطلب الذي تأثر بسبب كورونا.
- عبد الرشيد قوراري حرفي و مختص في تبييض النحاس: تطوّر صناعة النحاس أنعش نشاط «التشبيب»


لاحظنا خلال جولتنا ازدهار نشاط تبييض النحاس المعرف بـ «التشبيب» ، بعد أن تأثرت ربات البيوت بالتصاميم الحديثة لقطع النحاس و بالأخص الصينيات، و أردن إدخال بعد التغييرات على قطعهن القديمة، و ذلك بإحداث ثقوب في  الجوانب و تبييضها لتأخذ حلة عصرية، حيث أكد محدثنا عبد الرشيد قوراري بأن نشاط التشبيب انتعش، بعد تطور حرفة النحاس و ازدهار تجارته، ما دفع بربات البيوت إلى تبييض القطع التقليدية و إدخال تغييرات عليها، بإضفاء ثقوب على الجوانب لإظهارها في حلة عصرية، فيما تكتفي أخريات بالتشبيب فقط، إذ يتراوح سعر ذلك بين 500 إلى 1200 دينار، فيما أكد محمد و هو أحد المختصين في التبييض الذي وجدناه منهمكا في تبييض عدد من الصينيات بأنه يستقبل عديد الزبونات من بينهم مقبلات على الزوجات لم تسمح لهن الظروف باقتناء نحاس جديد، فقمن بإدخال تغييرات على صينيات قديمة لأمهاتهن، مشيرا إلى أن سعر المادة الأولية باهظ حيث يعتمد 5 مواد كيميائية  تكلفه ما قيمته 50 مليون سنتيم.من جهته قال عبد الحق مصلح نحاس قديم  للنصر بأنه لاحظ إقبال كبير للسيدات الراغبات في إصلاح و تغيير شكل الصينيات النحاسية، مؤكدا بأنهن أصبحن يفضلن إصلاحه على بيعه، لسببين الأول يتعلق بسعره بيعه المنخفض و المقدر بـ 250 دينارا، و آخر إلى وجود إمكانية إصلاحه و تبييضة و إدخال تغييرات عليه.
مخاوف بعد عزوف الشباب عن ممارسة الحرفة
لفت انتباهنا أيضا أن أغلب الحرفيين ، كهول و شيوخ لا يزالون أوفياء للحرفة، التي تسجل عزوف الشباب عن ممارستها، و هو ما أكده لنا الحرفي كمال هامل، مضيفا أنه أصبح متخوفا من زوال الحرفة في المستقبل، نتيجة رفض الشباب للعمل في هذا المجال، حتى و إن كانوا حاملين لديبلومات في هذا التخصص، مشيرا إلى أنه أشرف على تربص 15 شابا متحصلا على شهادة من غرفة الحرف، لكنه لم يلمس لديهم حب الحرفة و كانت غايتهم الظفر بشهادة لا غير. و أكد محمد و هو ستيني مختص في تبيض «تشبيب» النحاس القديم ،  بأنه وظف شابا في محله ليعلمه هذا النشاط، لكنه توقف بعد 15 يوما ، بحجة أن هذا العمل أرهقه. و أعرب المتحدث عن تخوفه من زوال هذا النشاط،  فأغلب العاملين به يتجاوز سنهم 60 عاما، داعيا إلى ضرورة تشجيع و تحفيز الشبان، من أجل حمل مشعل الحرف التقليدية، حتى لا تندثر بعد رحيل «الصنايعية» الكبار.

الرجوع إلى الأعلى