انقسم فنانو قسنطينة بين مؤيد و معارض لتجديد المالوف، كما اختلف المؤيدون حول طريقة التجديد التي تحافظ على روحه، كطابع قديم و أصيل، في حين اعترف الجميع أنه يمر بفترة حساسة و حرجة في عقر دياره، لأنه لم يعد كالسابق يهيمن على أفراح القسنطينيين و حفلاتهم، نظرا لمنافسة طبوع كثيرة تواكب عصر الإنترنت و انشغالات و اهتمامات الأجيال الجديدة، و بالمقابل أعرب عدد كبير من مطربي المالوف عن اقتناعهم التام بأن فن الأجيال سيظل صامدا بأصالته أمام كل التيارات، مادام هناك شيوخ و جمعيات تحرص على نقله و تعليمه للشباب و الأطفال. النصر رصدت عيّنة من كل تيار و نقلت إليكم هذه الآراء..
إلهام طالب

* المطرب سليم الفرقاني
المالوف أمانة تركها لنا الأجداد  و سنحافظ عليها كما هي
أعرب مطرب المالوف الشيخ سليم الفرقاني، في حديثه إلى النصر، عن رفضه التام، لأي دعوة أو محاولة لتجديد أو عصرنة طابع المالوف، سواء من حيث الكلمات أو الألحان أو إدخال آلات عصرية في أدائه، مؤكدا أنه تاريخ و تراث، و أمانة حافظ عليها رواده و شيوخه طيلة أربعة قرون، و تداولته أجيال تلو أجيال، « مستحيل أن نسمح بأن يحرف أو يشوه بأي شكل من الأشكال، فهذا الفن تقليدي أصيل و عريق ممنوع أن يمس»،  كما قال الشيخ الفرقاني، متسائلا  «مثلا عندما تكون لدينا لوحة تشكيلية للفنان الهولندي العالمي فينسنت فان غوخ، هل يعقل أن نضيف إليها زخارف أو أشكال و ندعي أننا بذلك سنزيدها جمالا؟!!».
و أضاف المتحدث بأنه كان يتلقى دعوات  للمشاركة في إحياء حفلات كبرى بمختلف دول العالم، و كان يطلب منه المنظمون أن يؤدي موسيقى و أغاني المالوف التي تعكس تراث و تقاليد منطقته، و كان يحرص على ارتداء هو و فرقته الزي التقليدي القسنطيني العريق، فيحظى بإعجاب المنظمين و الجمهور، و حتى الفنانين الأجانب الذين كانوا يقدمون ألوانا فنية عصرية.
و أشار الشيخ سليم إلى أنه كان يقدم في بعض الحفلات، على سبيل التنويع، فقرات يتم من خلالها مزج المالوف بألوان فنية عصرية، مثلما حدث في إحدى طبعات مهرجان «ديما جاز» الذي ينظم بقسنطينة، و هذا لا يعني، كما أكد، أن ينسلخ من طابعه، بل أداه بكامل رونقه و أصالته، ثم أدت الفرقة المشاركة أغاني الجاز على طريقتها، و تم تسجيل الأغاني في قرص مضغوط، بإشراف وزارة الثقافة و الفنون، و بالنسبة للحفلات التي كانت تقدمها الأوركسترا السمفونية الجزائرية، كان يقدم أيضا أغانيه الأصيلة.  
و أردف المتحدث بأن الفن بحر كبير و عميق، من الصعب جدا بلوغ قعره، و الإلمام بكل تفاصيله، مؤكدا بأنه لا يعرف الكثير عنه، و لا يزال في طور البحث و التعلم، معربا عن استغرابه و أسفه لأن بعض المغنيين الشباب يعتبرون «حرق» مراحل التعلم و التكوين ذكاء و شطارة ، و يعتقدون بأنهم بلغوا القمة بمجرد أداء أغنية أو اثنتين .
 و قال بحسرة و استياء « من هب و دب يعتقد بأنه قادر على أداء المالوف، فتجده يكسر اللحن و يحرف و يشوه الكلمات، لأنه أصلا لا يحفظها من مصدرها و لا يستوعب معانيها، و لم يحظ بالتكوين الضروري، أتذكر بهذا الشأن أن أستاذي  الذي تعلمت على يده أصول فن المالوف و أسراره الشيخ التومي، كان يقول لي عندما يسمع بعض هؤلاء الدخلاء على الفن «بابا سليم.. اسمع إنهم من فرط جهلهم يكفرون بالله، و لا يميزون و لا يفقهون ما يقولون» .  و أكد الفنان أن أستاذه الشيخ التومي كان يتميز بثقافته الواسعة و إلمامه بكل خبايا الصنعة، و عندما كان لا يفهم كلمات بعض النوبات و الأغنيات، يسأله عنها فيجد الشرح الوافي و التشجيع و التوجيه، فالتراث ، كما عبر، عبارة عن كنز مكنون، يجب أن يحظى بالحماية حتى لا يضيع و ينكل به.

* العربي غزال
90 بالمئة من قصائد المالوف لم يكتبها قسنطينيون
قال مؤسس بيت المالوف العربي غزال للنصر»من يعتقد أنه بإمكانه تجديد القصائد الشهيرة، مثل «ظالمة» و «قالوا العرب» مثلا، أقول له توقف كل التراث الذي تم تسجيله منذ القدم لا يمس، حتى لا يشوه و يطمس الأصل الذي قدمه الشيوخ، كما أن استعمال الآلات الموسيقية العصرية يمكن أن تفقده روحه، و لا تعني التجديد.  في حين يمكن تقديم أغان تراثية خفيفة بألحان جديدة، كما يمكن البحث في كنوز التراث عن قصائد قديمة، لم تقدم بطابع المالوف من قبل، و تقديمها بلحن مالوفي مناسب، مثل «المكناسية «و هي من نوع «الجد»، الذي يستهويني لثرائه بالحكم و المواعظ، و قد سبق للفنان عبد الله قطاف أن قدمها بطابع الشعبي، و قدمتها أنا بلحن من طابع المالوف،  كما استخرجت من التراث قصائد أخرى، مثل «البلاء في لخلطة» و «من نقول حبيبي نلقاه سم قاتل» و «أنا المغروم» و «سبحان الله يا لطيف» و أضفيت عليها حلة نغمية مالوفية.
أشير هنا إلى أن 90 بالمئة من القصائد التراثية الملحنة و المغناة بقسنطينة بطابع المالوف، لم يكتبها شعراء قسنطينيون، بل تم جلبها من قبل الشيوخ قديما، من المغرب أو غرب الجزائر، مثل معسكر و الشلف و خميس مليانة. مثلا  قصيدة «ظالمة»، كتبها  شاعر ملحون من معسكر، و تم تلحينها بطابع المالوف في القرن 19 و حافظ عليها الشيوخ ، و تم تداولها من جيل إلى آخر إلى غاية القرن21 ، نفس الشيء بالنسبة للقصائد الأخرى التي جلبت و تم تلحينها بقسنطينة، أعتبرها نوعا من الإثراء للديوان القسنطيني الذي أصبح جزءا من تراث المدينة، و بالتالي يجب أن نحافظ عليه و تتوارثه الأجيال كما هو.   في نفس الوقت أؤكد أنني لست ضد كتابة كلمات هادفة و نظيفة ذات معاني عميقة لكن لا بد من وضعها في لحن بقالب و روح المالوف».

* الفنان توفيق تواتي
المالوف فن النخبة..
يرى المطرب توفيق تواتي أن النوبات التي تشكل المالوف، هي جزء من مدرسة قسنطينة التي تضم عدة أنواع فنية أخرى، و تتميز هذه النوبات بحركاتها الخمس التي تستند للزمن، حيث كانت توجد 24 نوبة، تتوزع على مدار 24 ساعة، لكن بقيت 12 أو11 نوبة فقط، و لابد من المحافظة عليها،  كما هي، أي كما تركها لنا شيوخنا، كجزء من تراثنا الذي يعكس هويتنا و أصالتنا، و بالتالي يجب ألا نؤديها بآلات عصرية و تبقى مرتبطة بآلات تقليدية بعينها و تقدم للنخبة التي تتذوقها و ليس لعامة الناس، مضيفا بأن لآلئ التراث النفيسة تنقل من جيل إلى آخر عن طريق التكوين، لهذا أدعو الشباب للانخراط في الجمعيات الفنية من أجل التعلم و حمل مشعل و رسالة الشيوخ و ضمان استمرارية هذا الطابع.
و أردف المطرب بأن الراغبين في الإبداع و التجديد، عليهم اختيار لون موسيقي و طابع   آخر، كما أبدع القدامى في فن المالوف، فصمد لقرون، في حين تموت الأغاني التي تعرف بـ «أغاني الساندويتش» بمجرد ظهورها، أو تقديم نمط غنائي منبثق من روح المالوف، يعتمد على كلمات نظيفة و راقية و هادفة، مشيرا إلى أغنيته «التايب» التي قدمها بلحن قصيدة «البوغي»، و بكلمات جديدة كتبها لخضر رماش.
و أشار تواتي من جهة أخرى إلى أن موروث المالوف لا يزال يخفي كنوزا لم تؤد بعد، و قد قدم له الشيخ التومي مجموعة من الألحان و القصائد التراثية، يتمنى أن ترى النور قريبا.

* الفنان عباس ريغي
«الجديد حبو و القديم لا تفرط فيه»
أكد من جهته مطرب المالوف عباس ريغي أنه يساند كل المساعي للحفاظ  على التراث الفني و الشعر الملحون و الموسيقى الأندلسية عن طريق التدوين و التسجيل، و مواصلة أداء الفن القسنطيني وفق أصوله، دون المساس بأي شكل من الأشكال بالتراث و الأصالة.
 و أضاف الفنان بأنه مقتنع بالمثل القائل «الجديد حبو و القديم لا تفرط فيه»، و بالتالي إذا تمكن كتاب كلمات و شعراء من أبناء هذا العصر من إبداع كلمات جديدة جميلة و معبرة، ترقى، كما قال، إلى مستوى القصائد التراثية القديمة، و تمكن الملحنون من تأليف ألحان جديدة مشبعة بالروح و الهوى و الأصالة التي توجد بالطابع القسنطيني، فهو يرحب بها و مستعد لأدائها، و يعتبرها إضافة للتراث، على حد تعبيره.
و أشار المتحدث إلى تجارب خاضها بعض كتاب الكلمات بقسنطينة،  لكنه لاحظ التزامهم بنفس النمط الشعري للكلمات التراثية القديمة، بمضمون جديد، مع اعتماد لحن القديم، كأغنية  «التايب» التي كتبها لخضر رماش و اعتمد فيها على لحن «البوغي»، مشيرا إلى أن رماش قدم له نماذج من أشعاره فأعجب بها، لكنه يتمنى أن يكون التجديد حقيقي، و مجسد في الواقع، بكلمات و ألحان جديدة تماما تحافظ على روح الطابع الذي اشتهرت به المدينة التي تضم مدرسة المالوف، لكنها لا تحتكر هذا الفن الذي امتدت جذوره إلى مختلف ولايات الشرق الجزائري.
و ختم عباس ريغي حديثه إلى النصر بالتأكيد بأنه مع التجديد، فـ"كما كتب و لحن تراث المالوف بشر، فنحن أيضا بشر بإمكاننا أن نجد بيننا من يكتب و يلحن و يغني، فنحقق معادلة الإبداع و الجودة و الاستمرارية" كما قال.

* الفنان عبد الحكيم بوعزيز
الفن إما أن يتجدّد أو يذهب إلى المتحف..
و أكد مؤسس طابع أندنوفا عبد الحكيم بوعزيز « في القدم كانت الأغاني و القصائد لا تسجل، نظرا لعدم توفر وسائل تسجيل، بل كانت تغنى و تسمع و تحفظ، فتلفظها الشفاه و تلتقطها الآذان، و تمرر إلى الذاكرة لهذا كان الفنانون و الشيوخ يتحدثون عن حفظ التراث من الضياع، حاليا كل الإمكانات و الوسائل متوفرة و تم تسجيل كل القصائد القديمة، و واصل الفنانون أداءها بنفس الطريقة و نفس اللحن .
الواقع يقول إننا نمر حاليا بمرحلة أخرى جديدة، مرحلة الإنترنت و مواقع التواصل و يوتيوب و لم يعد العالم قرية صغيرة بل أقل، أصبح كالبيت.لهذا سأتحدث بصراحة و لن أتبنى سياسة النعامة، لم يعد المالوف الفن الأول في قسنطينة، فالشباب لا يسمعونه و لا يحبونه و من بينهم أولادي. و أصبح إحياء الأعراس يتم بـ "ديسك جوكي". و وجد الفنانون أنفسهم محاصرين لا يستطيعون تسجيل ألبومات غنائية ، لأنهم بعد ساعات معدودة تتم قرصنتها و تبث في يوتيوب. أشدد هنا بأن الفن في قسنطينة و في جميع أنحاء العالم يعتمد على عامل الاقتباس، و لا يوجد خيار آخر، إما أن يتجدد أو يذهب إلى المتحف.
التراث معروف و النوبات معروفة خلال ثلاث أو أربع سنوات بإمكان الفنان الشاب أن يحفظ النوبات و يلم بكل جوانب الطابع الأندلسي، لكن ماذا بعد؟ هل سيتطور و يواكب عصر السرعة و يسترجع مكانته القديمة؟ إذا أدينا هذا الطابع بولايات أخرى أو في الخارج سنشعر أن الجمهور لا يتجاوب و كأنه أخطأ العنوان أو تمت محاصرته.
في حين بقي الراي هو رقم واحد في الجزائر و الخارج لأنه تبنى حلة جديدة عصرية، عكس المالوف. أتذكر أنني دعيت للمشاركة في إحياء حفل بقسنطينة منذ سنوات و بعد فقرتي برمج مغني يؤدي الراي، تصوروا ماذا حدث؟ كنت أغني و ألاحظ ملل الجمهور و ضيقه و توقه للفقرة الموالية..لا يمكن مواصلة تغطية الشمس بالغربال، الفن يجب أن يقبل المنافسة و يتحلى بالذكاء الفني و كذلك الفنانين.
فكرت مطولا و قيمت مساري، و توصلت إلى لون غنائي أطلقت عليه أندنوفا أي الأندلسي الجديد، و هو بمثابة ثورة في الفن القسنطيني، اخترت كلمات بسيطة و مفهومة و نظيفة، تؤثر بسرعة في المتلقي و تحرك مشاعره، و جاءت الألحان خفيفة و جذابة، لكن من يسمعها سيرصد النغمة القسنطينية، مع استعمال آلات عصرية، و حققت أغنياتي بطابع «أندنوفا» نجاحا كبيرا ، على غرار «سارة» و «خليني نروح» و غيرها، ما شجعني على التمسك بهذا اللون، و اختاره عديد الفنانين الشباب بعد ذلك».

الرجوع إلى الأعلى