تعتبر زراعة "التيزانة"، المعروفة أيضا باسم "اللويزة" و بالفرنسية" LA VERVEINE " من بين النشاطات الفلاحية التي جعلت دائرة الشقفة بجيجل، تحتل الصدارة في إنتاجها ببلادنا، و يزرعها حاليا ما يقارب 250 فلاحا، إلى جانب عائلات انهمك أفرادها في هذا النشاط ، بعد أن أتقنته نساؤها و عاد إليه الشباب بعد عزوف طويل، بعد أن ساهمت جائحة كورونا في رفع مبيعاتها في السوق المحلي، إذ اعتبرها الكثيرون أداة فعالة لمواجهة مخاطر فيروس كورونا.
تقاليد تمتد إلى أكثر من قرن من الزمن
لا تزال بلدية الشقفة تحافظ على تقاليد قديمة في زراعة اللويزة ، أي "راعي الحمام" بالعربية الفصحى، و تم توارثها منذ أكثر من قرن بين الأجداد، ثم الآباء،  وصولا إلى الأحفاد، فقد كان المعمرون "الكولون" خلال الاستدمار الفرنسي، يهيمنون على زراعتها، لكن أبناء المنطقة تمكنوا من الاستحواذ عليها تدريجيا، و زرعوها بمختلف المداشر و القرى.
و بعد الاستقلال مباشرة، شرعت الكثير من العائلات في توسيع رقعة زراعتها و اتخذت من بيعها مصدر دخل رئيسي لها، و رافقت الدولة بعض الفلاحين في هذا النشاط، ثم خصصت لهم عشرات الهكتارات من الأراضي الفلاحية لزراعتها.
النصر التقت بعديد الفلاحين بمنطقة الشقفة، من أجل الاطلاع على نشاطهم، من بينهم عمي يوسف من أعالي منطقة بريري، و يعتبر من الفلاحين الذين يحافظون على زراعة التيزانة، و يتخذون منها مصدرا رئيسيا لرزقهم.هذا الفلاح، أعاد بعث نشاط زراعة التيزانة بأرض أجداده، عندما عاد الأمن إلى المنطقة بعد العشرية السوداء، حيث قام بزارعة مساحة صغيرة داخل حقله الصغير، ثم امتد نشاطه إلى منطقة بريري بأعالي الشقفة، و يتطلب منه ذلك الكثير من الجهد و الصبر، نظرا لطول المسافة و صعوبة المسالك بين حقله و تلك المنطقة.
عندما وصلنا إلى حقل عمي يوسف لاحظنا أن الأرض غير مستوية، فقد كانت مائلة تقريبا ، نحو منحدر صعب، إلا أنه كان يعمل بجد و اجتهاد، و يقوم بإعادة زراعة و تنظيف الحقل، وقال لنا " زراعة هذه النبتة، تعتبر من بين النشاطات الفلاحية العائلية، التي كان أفراد العائلة يمارسونها باستمرار، لكن فترة العشرية السوداء أثرت سلبا على النشاط، فهذه الزراعة لا ترتكز على شخص واحد، بل يجب أن يمارسها فريق متكامل مطلع على مختلف خباياها، و عملية زراع براعم التيزانة، تتطلب معرفة طبيعة التربة، و كذا معرفة إذا كانت البراعم صالحة أم لا، كما أن عملية تحضير التربة، تتطلب معرفة تقنيات الزراعة و استعمالها، فباستعمال الفأس يتم إحداث خطوط مستقيمة و متوازية، و تتم متابعة العملية الزراعية يوميا، عبر سقي المزورعات، و تتبعها إلى غاية أواخر ماي، و هو موعد بداية الإنتاج و جني المحصول".

أضاف عمي يوسف، بأن فريق العمل يجب أن يكون حاضرا و يتابع العملية التي تستمر طوال 10 أشهر كاملة، من عملية الزرع، إلى غاية بداية جني المحصول، لذلك يفضل أن يكون النشاط عائليا، فأفراد العائلة، حسبه، يكونون أكثر جدية في العمل و يتابعون كافة مراحل الزراعة و الجني.
و أشار المتحدث إلى أن مجموعة من الشبان اقتحموا مؤخرا، مجال زراعة التيزانة، و قاموا بإنشاء حقول عديدة، ما ساهم في ظهور اليد العاملة المؤهلة، و فتح المجال لتشغيل الشباب البطال، لكن العديد منهم، واجه صعوبة نتيجة عدم جدية العمال و مثابرتهم، خصوصا فئة الشباب الذين يرتكز نشاطهم على فترة محدودة من الزمن، من أجل كسب بعض الدنانير.
النساء سر استمرارية هذه الزراعة
قال عمي يوسف، بأن زوجته و بناته وبعض نساء العائلة يساعدنه في متابعة مختلف مراحل تطور زراعة التيزانة، و بفضلهن استطاع المحافظة على الإنتاج و ضمان تزويد تجار الجملة بالكميات المطلوبة، فهن حريصات على المحافظة على الإرث العائلي، مؤكدا بأن جل الفلاحين الذين وصلوا زراعة هذه النبتة اعتمدوا كثيرا على النساء، فالعديد منهن يتمتعن بخبرة ميدانية كبيرة، و يمارسن نشاطهن بإتقان، فساهمن في استمرارية النشاط و توفير دخل لأسرهن طوال السنة.
تقنيات عديدة لضمان منتوج جيد
حسب الفلاحين الذين تحدثت إليهم النصر خلال جولتها الاستطلاعية بالمنطقة، فإن كل مرحلة من هذه الزراعة لها ميزاتها وتقنياتها، ولضمان الحصول على نبتة جيدة و منتوج وفير،  لا بد أن يتحكم الفلاح في عملية الغرس،  حيث يأخذ مجموعة من الأغصان أو ما يعرف محليا بـ" البونتولب طول 25 سنتمترا ، و توارى داخل التربة بعمق 18 سنتمترا لعدة أيام، وبعد ظهور أولى البراعم اليانعة يتم إخراج الأغصان من عمق التربة، لإعادة غرسها في الحقول المهيّأة لذلك، في حين يتم التخلص من الأغصان التي لم تظهر فوقها براعم.
بعد مرور ثلاثة أشهر من الغرس، تصبح النبتة جاهزة لعملية الجني و يتم التأكد من ذلك من رائحتها القوية، و تتطلب عملية الجني تقنيات خاصة، فعملية نزع الأوراق، أو ما يعرف محليا بـ " سلت الأوراق"، تمر عبر ثلاث مراحل، الأولى ملاحظة مدى احمرار السيقان،  الذي يدل أن الأوراق أصبحت ناضجة وجاهزة للقطف في جزئها السفلي.و بعد مرور خمسة أيام، يتم قطف الجزء الأعلى، و بعد مرور أسبوع آخر، يتم قطف تاج الغصن و هو "الدماغ "محليا، لتأتي بعدها مرحلة تجفيف الأوراق، بعيدا عن أشعة الشمس، ثم وضعها في أكياس وبيعها.
الشباب يتشبّثون  بأمل تطوير الزراعة
بمنطقة، أعشوشة، يوجد عشرات الفلاحين الذين اقتحموا المجال، و وجدناهم منهمكين في التحضير لزراعة التيزانة، حيث قاموا بتهيئة مساحة جديدة إلى جانب المساحات الشاسعة التي يشرفون عليها، و قاموا بزراعة البراعم.
و وجهنا مرافقنا و هو رئيس الفرع الفلاحي لبلدية الشقفة، نحو أحد الفلاحين الشباب،  الذين اقتحموا  الميدان منذ سنوات.
قال لنا الفلاح الشاب محمد، بأن عمره 34 عاما، و بدأ زارعة التيزانة منذ 12 سنة تقريبا، و تعلم تقنياتها  تدريجيا عبر العمل بعدة حقول مع فلاحين أكثر خبرة و دراية بالمجال، فتعلم منهم الكثير، ثم شرع في البحث عن قطعة أرض و استأجرها من عند أحد الفلاحين، و خصص هكتارين منها لزراعة التيزانة، و رغم الصعوبات التي واجهها، إلا أنه حول الأرض البور، إلى أرض خصبة تحتضن النبتة الخضراء الصحية.الشاب سرد على النصر قصة كفاحه، و تفاصيلها، بكل العراقيل التي صادفها، خاصة صعوبة الحفاظ على اليد العاملة المؤهلة، لأن متابعة عملية الزرع إلى غاية الإنتاج تتطلب صبرا كبيرا، و توفير اليد العاملة المثابرة.
و أضاف بأن بعض الشباب الذي قام بتكوينهم، كانوا يتهربون من إكمال العمل، و المعروف أن طبيعة النبتة، حسب محمد، تتطلب الجدية في  العمل و المتابعة، مع ضمان عملية السقي المستمرة، و تقليب الأرض قبل بداية الزراعة بطريقة دقيقة، و تقدر تكلفة الهكتار الواحد من الأرض المغروسة بحوالي 30 مليون سنتيم، تتضمن مختلف التكاليف، على غرار الأسمدة و عملية السقي المستمرة، و أجرة اليد العاملة، بالإضافة إلى تكلفة كراء الأرض من عند الخواص.
وعند حلول شهر ماي، و بداية الإنتاج، تظهر تكاليف أخرى، تتعلق بجني المحصول، فهو يتطلب خطوات عديدة، على غرار قطف " سلت" النبتة، و جمعها من أجل تجفيفها، ليتم وضعها في أكياس كبيرة و توجيهها إلى تجار الجملة، الذين بدورهم يقومون بتحويلها إلى المحولين أو تجار التجزئة.
و أشار المتحدث إلى أن الربح الكبير يضمنه البائع و ليس الفلاح، كما يعتقد عامة الناس، فالفائدة التي يتحصل عليها في أغلب الأحيان لا تتجاوز 35 مليون سنتيم للهكتار الواحد. و أضاف المتحدث، بأن الإقبال على التيزانة، تضاعف خلال جائحة كورونا، ما جعل الفلاحين، يضمنون هامشا ربحيا أكبر، و السرعة في تصريف المحصول الفلاحي، مشيرا إلى أن في السنوات الفارطة، كان جل الفلاحين بالمنطقة، يجدون صعوبة كبيرة في تصريف المنتوج.
 مشكل العقار و نقص المياه يعيقان النشاط

ذكر عشرات الفلاحين، بأن مشاكل عديدة، ترهن مستقبل زراعة التيزانة، جلها يتمثل في غياب الأوعية الفلاحية، لضمان زراعة النبتة العطرية، كون جل الأراضي تم منحها عن طريق الامتياز لأشخاص، يقومون بكراء مساحات و تجزئتها على فلاحين، و يقومون برفع أسعار الكراء.
و في مرات عديدة يقومون بإخراجهم من أراضيهم، فجل الشباب أو الفلاحين الراغبين في تطوير الحرفة، يجدون أنفسهم مكبلين بين سندان كراء الأرض و الصمت أو الطرد من الأرض، بالإضافة إلى التكاليف المرتفعة لكراء الهكتار الواحد طوال السنة، و الذي يفوق 13 مليون سنتيم، بالإضافة إلى التكاليف الأخرى المتعلقة بأتعاب اليد العاملة.
كما أن الفلاحين وجدوا صعوبة في الحفاظ على اليد العاملة المؤهلة التي لا تطيق العمل الشاق، كما أن نقص المياه خاصة في فصل الصيف، يعيق تطور الزراعة  التي تحتاج إلى السقي مرة كل يومين على الأقل، و كذا نقص المستثمرين في مجال التسويق، ما يجبر الغالبية العظمى من النشطين في الميدان إلى اللجوء إلى وحدة من خارج الولاية.
250 فلاحا يضمنون  إنتاج 10 أطنان سنويا  من النبتة
 أوضح عبد القادر مالكي، رئيس الفرع الفلاحي بالشقفة، بأن أكبر تحد يواجه الشعبة هو وضع علامة تجارية، ماركة "تيزانة الشقفة" و الترويج لها محليا و وطنيا و دوليا، فجل المناطق ببلدية الشقفة، و العائلات القاطنة بها تزرعها اليوم في حين كانت قبل 100 سنة سائدة بمنطقة جيمار وحدها، لتتوسع بعدها إلى المداشر
و القرى، بعد الاستقلال مباشرة.
و ساهمت التقاليد المحلية  في تطويرها و توزيعها على نطاق واسع ، إلى جانب المناخ و نوعية الأرض و المياه، و اليد العاملة المؤهلة التي تداولت زراعتها عبر سنوات عديدة، فأصبحت نشاطا عائليا بامتياز.
حسب المسؤول، تقدر المساحة المزروعة، بحوالي 60 هكتارا، منتشرة عبر عدة مناطق، على غرار منطقة بوطالب، جيمار، الأربعاء، أعشوشة، و تحديدا على ضفاف وادي النيل و بوسعيود، و حسب المعلومات المتحصل عليها، فبلدية الشقفة، تحتل المرتبة الأولى وطنيا في إنتاج التيزانة، و يتعدى إنتاجها 10 أطنان سنويا، و ينشط بها، حوالي 250 فلاحا و عائلة، فتقريبا كافة سكان البلدية، يفتخرون بإنتاج التيزانة.
و أعرب المتحدث عن أسفه لعدم إحراز المنطقة على الاهتمام الإعلامي اللازم، و  الأسباب متعددة، حسبه، أبرزها غياب هيكل تنظيمي"تعاونية" يعيد لها مكانتها، و يضمن حقوق الفلاحين و يطورها و ضعف الجانب التجاري للمنتوج، حيث يقتصر العمل على زراعة و جمع المنتوج فقط، فالمنطقة تفتقد إلى سوق محلي خاص، و فضاء تجاري يسمح بالترويج لها، بالإضافة إلى عدم وجود وحدات للتحويل و التغليف، من أجل ضمان منتوج صحي يسوق من المنطقة مباشرة .
المسؤول، أكد بأن أكبر تحد بالنسبة للفلاحين هو وضع وسم و علامة تجارية خاصة بهذه النبتة و يسعون مع الجهات المختصة لتحقيق ذلك، كما أنه يتم العمل في الوقت الراهن على دفع الفلاحين و المنتجين إلى إنشاء تعاونية فلاحية متخصصة، تضمن لهم عدة امتيازات لمواجهة التكاليف و العراقيل، و جمعهم في شكل قوة فلاحية لتطوير الشعبة، و كذا تقديم الدعم الفلاحي، إلى جانب تنظيم تربصات و دورات تكوينية.
و أضاف المتحدث، بأن للمرأة ببلدية الشقفة، دورا كبيرا في تطوير زراعة التيزانة منذ القدم، كما ساهمت في المحافظة على الفلاحة العائلية، كما أن اقتحام الشباب للميدان، و إصلاح الأراضي و غرس التيزانة، سيسمح بتطوير أكثر للشعبة.
كـ. طويل

الرجوع إلى الأعلى