عادت أمس، الذكرى 64 لاستشهاد الشيخ العلامة  العربي التبسّي الذي خطفه الاستدمار الفرنسي من بيته يوم 4 أفريل 1957، و أخذه إلى مكان مجهول و أعدمه بكل برودة، و إن اختلفت الروايات حول طرق التعذيب التي سلطت عليه و التنكيل بجثته الطاهرة، لكنها تتقاطع في كون الشيخ الشهيد، تعرض لأبشع تعذيب لرده عن مناصرة الثورة وقتله، دون تحديد مكان دفنه إلى غاية الآن، فقصة استشهاد الشيخ العربي التبسي قصة حزينة جد موجعة، و رواية إعدامه تقشعر لها الأبدان، لما فيها من وحشية وحيوانية وحقد، ضد كل ما يمت للإسلام والمسلمين بصلة.
مسؤولياته و تجربته الدعوية
في عام 1947 تولّى  الشيخ العربي إدارة معهد ابن باديس بقسنطينة، وفي عام 1956 انتقل إلى الجزائر العاصمة، لإدارة شؤون جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، خلفا للشيخ البشير الإبراهيمي، وبعد رحلته الطويلة لطلب العلم في تونس ومصر، عاد التبسي إلى الجزائر عام 1927 و اتخذ من مسجد تهذيب البنين والبنات بمدينة تبسة، مركزا لنشاطه الدعوي و التعليمي.
وبعد وفاة علاّمة الجزائر الأول الشيخ عبد الحميد بن باديس و نفي البشير الإبراهيمي، اتجهت الأنظار إلى الشيخ العربي التبسي، بصفته المؤهل لملأ الفراغ العلمي و الدعوي، و توافد عليه طلاب العلم من كل مكان.
في 1927 بدأ نشاطه الدعوي في مدينة تبسة التي أصبح ينسب إليها، انطلاقا من مسجد صغير اسمه مسجد ابن سعيد داخل السور البيزنطي، فبدأ الناس يلتفون حوله و يتزايد عددهم يوما بعد يوم، حتى ضاق بهم المسجد ، فانتقل بعدها إلى الجامع الكبير الذي تشرف عليه الإدارة الاستعمارية، لكن سرعان ما أصدرت ذات الإدارة قرارا بتوقيف نشاطه.
وكانت طريقة الشيخ أن يختار نصا قرآنيا أو نبويّا يناسب موضوعه، فيفسره تفسيرا بارعا يخلب ألباب السامعين، فيوضح لهم حكمة الشرع و معانيه السامية، ثم يتدرج إلى بيان الأمراض الاجتماعية، فيشرحها ويبين أسبابها وعواقبها في الدنيا والآخرة ، منتقدا بدع الطرقيين الضالين، وتنبيهه لإفسادها للعقيدة الإسلامية وسلبها لعقول الناس، فيظهر بطلانها ويكشف حقيقة الأدعياء و الدجالين.
عندما لاحظ الفرنسيون، نشاط الشيخ والتفاف الناس حوله، أخذوا في مضايقته ومضايقة أنصاره، حتى في المسجد الصغير الخارج عن إدارتها، وعندما  تفاقم الأمر، نصحه الشيخ ابن باديس بالانتقال إلى مدينة سيق في الغرب الجزائري التي أبدى سكانها استعدادا لقبول إمام من أئمة الإصلاح، فانتقل إليها بداية سنة 1930، ففرح أهلها بقدومه وأقبلوا على دروسه واستفادوا من علمه وخلقه وتوجيهاته، فمكث فيهم إلى آخر سنة 1931، وفي هذه المدة تمكن من بث الدعوة الإصلاحية في هذه المدينة و في أنحاء كثيرة من الغرب الجزائري.
إن تأسيس جمعية للعلماء و نشاط الدعاة بساحة الدعوة ، جعلت الجهود تصب في اتجاه واحد، و هو إيقاظ الأمة و نشر الوعي و العلم بين أبنائها  و التركيز على شؤون دينها، من بين أماني الشيخ العربي التبسي، فهيأ الأجواء لتأسيس جمعية العلماء المسلمين من خلال مجموعة من المقالات نشرت له في صحيفة “الشهاب”، و من أكثرها صراحة المقال الذي نشره سنة 1926م بعنوان “أزفت ساعة الجماعة وتحرم عصر الفرد” والذي قال فيه “ هذا العصر عطل الفرد ونبذ حكمه، وأمات مفعوله، وتجاهل وجوده، فأينما أملت سمعك أو أرسلت نظرك في الشرق أو الغرب، لم تجد إلا أمة فحزبا فهيئة منها و إليها كل شيء، فهي التي تذب عن الهيئة الاجتماعية، وتحرس الأمة في نوائب الدهر وعادية الأيام”، و قال في مقال آخر “بكائي على الإسلام و مبادئه ونحيبي على وحدة الدين الذي أضاعه بنوه، الذي أمر بالجماعة وحث عليها، بل وجعل المنشق عنها في فرقة من الدين وعزلة عن الإسلام وعداء لأهله . والذي فلق الحب وبرأ النسمة لو أن امرأ مسلما مات أسفا وحزنا على حالة هذه الأمة لكان له عند الله العذر، أيطيب لنا عيش مع هذه الحالة؟”، و تحقق ذلك الأمل في 5 ماي 1931،  بتأسيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين.
وفي سنة 1935 تم تعيينه كاتبا عاما للجمعية خلفا للعمودي، كما كان رئيس لجنة الفتوى فيها، وفي سنة 1940 انتخب الشيخ التبسي نائبا لرئيس الجمعية الجديد الإبراهيمي الذي كان منفيا في “آفلو”، و بدأ  التدريس في الجامع الأخضر، و بعد افتتاح معهد عبد الحميد بن باديس عام 1947، انتقل إلى قسنطينة بعد أن أسندت إليه مهمة إدارته، و بقي على رأسه إلى يوم غلقه سنة 1956.
و يذكر أن في سنة 1952م رحل الإبراهيمي إلى المشرق، فتولى رئاسة الجمعية نيابة عنه ،إلى أن توقف نشاطها، و بعد غلق معهد ابن باديس انتقل إلى العاصمة، لإدارة شؤون الجمعية فيها وما بقي من مدارسها ومساجدها، واستأنف دروس التفسير للعامة في مسجد حي بلكور، الذي كان يكتظ بالمستمعين، رغم ظروف الحرب، و بقي في العاصمة إلى أن اختطف.
شهادة أهل العلم فيه و الثناء عليه
قال عنه الشيخ ابن باديس  “ الأستاذ العربي بن بلقاسم التبسي، هذا رجل عالم نفاع قصر أوقاته ببلدة تبسة على نشر العلم الصحيح وهدي العباد إلى الدين القويم، فقد عرف قراء الشهاب مكانته بما نشرنا له، وخصوصا مقالاته الأخيرة “بدعة الطرائق في الإسلام”، ولأول مرة زار هذا الأستاذ قسنطينة فرأينا من فصاحته اللسانية ومحاجته القوية مثل ما عرفناه من قلمه، إلى أدب ولطف وحسن مجلس طابت له المنازل ورافقته السلامة حالا ومرتحلا”.
وقال عنه الشيخ البشير الإبراهيمي “مدير بارع و مرب كامل، خرّجتَه الكليتان الزيتونة والأزهر في العلم، خرّجه القرآن والسيرة النبوية في الدين الصحيح والأخلاق المتينة، وأعانه ذكاؤه وألمعيته على فهم النفوس، وأعانته عفته ونزاهته على التزام الصدق والتصلب في الحق وإن اغضب جميع الناس ، وألزمته وطنيته الصادقة بالذوبان في الأمة والانقطاع لخدمتها بأنفع الأعمال ، وأعانه بيانه ويقينه على نصر الحق بالحجة الناهضة ومقارعة الحجة بالحجة ومقارعة الاستعمار في جميع مظاهره”.
مواقفه ضد المستعمر
وظّف الشيخ التبسي مكانته الدعوية والعلمية بين الجماهير، في الحث على الجهاد فواظب على استنفار الشباب للانخراط بالثورة، ونشر مقالات في صحيفة “الشهاب” تحت عناوين قوية من قبيل “الجزائر تصيح بك أيها الجزائري أينما كنت”، و نقل أحمد الرفاعي عن الشيخ الطاهر حراث، أن الكثيرين من أصدقاء التبسي حاولوا إقناعه بالخروج من الجزائر، بعد أن أصبح هدفا واضحا للمحتلين فكان جوابه “إذا كنا سنخرج كلنا خوفا من الموت، فمن يبقى مع الشعب؟”، ونقل عن التبسي قوله “لو كنت في صحتي وشبابي ما زدت يوما واحدا في المدينة، ولأسرعت إلى الجبل، فأحمل السلاح وأقاتل مع المجاهدين”.
ومن مواقفه الجريئة ما نشر من مقالات يطالب فيها بمنع تدخل الحكومة الفرنسية في شؤون المساجد، و ذلك لتبقي المساجد لله لإقامة شعائر الدين و للتعليم العربي و الإسلامي، ومن الأفكار التي روّجها الاستعمار فكرة الإسلام الجزائري، التي أرادت من خلالها تشويه دعوات الإصلاح، باعتبارها دعوات وافدة وليست أصيلة، أنكر الشيخ هذه الفكرة إنكارا شديدا ونسبها إلى مصدرها و كشف عن الشر المختفي وراءها، و كان مما كتبه في نقدها قوله “الإسلام الجزائري في حقيقته ترتيب سياسي من تراتيب أنظمة الاستعمار في الجزائر، و معابده نوع من الإدارة الفرنسية، وموظفوه فوج من أفواج الجندية الاستعمارية، وأمواله قسم من أموال الدولة، ذلك هو الدين الجزائري الذي تبغيه فرنسا، ولا تبغي الإسلام الحقيقي دين الله ولا تأذن له بالاستقرار في الجزائر”.
وكان الشيخ قد اعتقل عدة مرات، وسجن إثر حوادث 8 ماي 1945، وبقي مدة تحت الإقامة الجبرية ، حتى أفرج عنه في ربيع 1946، ولم يثن ذلك من عزيمته ولا أنقص من عمله، وقد كان مثالا يقتدي به إخوانه ويتصبرون به.
اختطافه وتعذيبه بطريقة بشعة إلى غاية استشهاده
علم المستعمرون أن الشيخ العربي التبسي يتمتع بشعبية كبيرة وأنه مؤيد للجهاد وأحد محركي القواعد الخلفية له، فأرسلوا إليه عن طريق إدارتهم في الجزائر عدة مبعوثين للتفاوض معه بشأن الجهاد ومصيره ولدراسة إمكانية وقف إطلاق النار، فاستعملوا معه أساليب مختلفة من ضمنها أسلوب الترغيب والترهيب، وكان جواب الشيخ دائما “إن كنتم تريدون التفاوض فالمفاوض الوحيد هو جبهة التحرير”، ذلك أنه شعر بأن مقصودهم هو تفكيك الصفوف، وربح الوقت والحد من حدة المواجهة العسكرية ليس إلا.
وبعد رفضه المستمر للتفاوض باسم الأمة، رأى المستعمرون أنه من الضروري التخلص منه، ولم يستحسنوا اعتقاله أو قتله علنا، لأن ذلك سوف يزيد من حماس الأمة للجهاد ومن حقدها على المستعمر، فوجهوا إليه تهديدات عن طريق رسائل مجهولة تأمره بأن يخرج من البلاد، وبعد أن أصر الشيخ على البقاء، وعندما يئس المستعمرون منه، قاموا باختطافه بطريقة جبانة، وصفها بلاغ نشرته جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في صحيفة “البصائر”، بمناسبة حادث الاختطاف “ في مساء يوم الخميس 4 رمضان 1376هـ – 4 أفريل 1957م، وعلى الساعة الحادية عشر ليلا، اقتحم جماعة من الجند الفرنسي التابعين لفرق المظلات ـ المتحكمين اليوم في الجزائر ـ  سكنى فضيلة الأستاذ الجليل العربي التبسي، الرئيس الثاني لجمعية العلماء، والمباشر لتسيير شؤونها، وأكبر الشخصيات الدينية الإسلامية بالجزائر، بعد أن حطموا نوافذ الأقسام المدرسية الموجودة تحت الشقة التي يسكن بها بحي طريق التوت، و كانوا يرتدون اللباس العسكري الرسمي للجيش الفرنسي، و قد وجدوا فضيلة الشيخ في فراش المرض الملازم له، فلم يراعوا حرمته الدينية، ولا سنه العالية، ولا مرضه الشديد ، فاختطفوه من فراش المرض بكل وحشية وفظاظة، وأخرجوه حاسر الرأس حافي القدمين، ولكن المفاجأة كانت تامة عندما سئل عنه في اليوم الموالي بعده في الإدارات الحكومية المدنية والعسكرية والشرطية والعدلية، فتبرأت كل إدارة من وجوده عندها أو مسؤوليتها عن اعتقاله أو من العلم بمكانه”.
وتتحدث العديد من الروايات والمصادر، عن ظروف قيام الاستعمار الفرنسي بتصفية الشيخ التبسي بعد اختطافه، حيث تكفل بتعذيبه عدة جنود و الشيخ بين أيديهم صامت صابر محتسب لا يتكلم، و بعد عدة أيام من التعذيب، نفذ صبر قائدهم “لاغايارد” – قائد فرقة القبعات الحمر- فأمرهم بوضعه في قدر كبير مليئ بزيت السيارات العسكرية والإسفلت الأسود، وأوقدت النيران من تحته إلى درجة الغليان، والشيخ يردد بصمت وهدوء شهادة لا إله إلا الله محمد رسول الله، حتى أغمي عليه، ثم نزل شيئا فشيئا إلى أن دخل القدر بكامله، فاحترق و تبخر و تلاشى، و يُذكر في تاريخ الجزائر إلى اليوم، أنه “الشهيد الذي لا قبر له”.
    ع.نصيب

الرجوع إلى الأعلى