خفتت أصوات النقر على المعادن في سوق باردو بقسنطينة، وأغلقت بعض الدكاكين أبوابها، فيما تحولت أخرى إلى واجهات عرض لا تجد في كثير من الأيام زبائن يطلبون نحاسها، خصوصا بعدما تراجعت الحركية في المنطقة و قل عدد الزبائن و هجر الشباب الحرفة لأسباب متعددة، أكد حرفيون و تجار، بأنها قد تنهي قصة شارع النحاس الشهير و تحوله إلى مجرد ذكرى في القادم من السنوات. 

*  عبد الناصر سليخ

يواجه حي باردو، خطر الزوال، بعد سنوات من الصمود جعلت منه جزء من روح قسنطينة، كيف لا وهو الحي الذي حافظ لعقود على حرفة النحاس و كان مزارا للسياح ومحطة مهمة تقدم جانبا من هوية المدينة و تعكس أصالتها، حيث تروي أزقته ودكاكينه قصصا عن زمن جميل، كان فيه النحاس قطعة مهمة في ديكور المنازل القسنطينية، وكان حينها النحاتون والحرفيون يلقبون بشيوخ الصنعة، أما اليوم فغالبيتهم كهول ينظرون بضبابية إلى مستقبل حرفة لا تجد من يتعلمها من الشباب إلإ قلة توارثوها عن آبائهم.
الجائحة تركت آثارها على سوق النحاس
لفت انتباهنا ونحن نتجول في سوق باردو « رحماني عاشور»، تراجع عدد المحلات الناشطة، فعدد منها كان مغلقا، كما أن الحركية التجارية ضعيفة ولا تقارن بما كان عليه الحي سابقا، تقربا من بعض الحرفيين لنسأل عن السبب، والواضح من خلال حديثنا إليهم، بأن الأمور تغيرت كثيرا في آخر سنتين، و أن الجائحة تركت تبعاتها على المنطقة، فهناك من الحرفيين من توقفوا نهائيا، خصوصا وأن الإقبال قل كثيرا، إذ لم يعد زبائن هذا المعدن شغوفين به كما في السابق،و شراؤه بات مقترنا ببعض المناسبات كالأعراس مثلا، أما استخدامه للديكور و الزينة فقد  قل كثيرا، ناهيك عن أن الجائحة فرملت عجلت تسويقه، إذ كانت السوق تستقطب زبائن من الولايات القريبة لقسنطينة، إضافة إلى بعض التونسيين الذين يزورون المدينة من حين إلى آخر، غير أن كل شيء اختلف بعد الغلق خصوصا مع تراجع مستوى المعيشة و ارتفاع أسعار المادة الأولية.
حرفي تحدثنا إليه، قال، بأن عدد الزبائن تراجع كثيرا وأن الحرفيين تعبوا جدا من الوضع خصوصا وأن هناك أياما تمر لا يبيعون خلالها شيئا، وهو أمر مرهق ماديا و حتى نفسيا خصوصا وأننا نتحدث كما قال، عن حرفة يدوية تتطلب الكثير من الصبر والجهد، حيث تمر الصفيحة النحاسية بمجموعة من المراحل قبل أن تخرج في شكلها النهائي، بداية بتهيئتها وتحضير ورق النسخ  متنوع الزخارف، حيث يكون مقسما إلى أجزاء ينقش كل جزء منها بأداة مختلفة، ثم تأتي مرحلة التلحيم وهي العملية التي  يتم فيها وضع الصفيحة  على النار، لتلتحم مادة النحاس  ثم يتم طرقها أو صبها ضمن قالب يحدد شكلها النهائي، وكل ذلك تحت ضجيج المطارق الذي لا يتوقف.


حرفة تشيخ بسرعة
لمسنا ونحن نتنقل بين الدكاكين، ارتفاعا كبيرا في أسعار المنتجات ولذا سؤالنا عن الأسباب، أكد لنا تجار و حرفيون، بأن الأمر راجع إلى ضعف الدعم حيث أن الدولة كانت تتولى استيراد المادة الأولية سابقا، وهو ما كان يضمن استقرار أسعار النحاس و بالتالي انخفاض تكلفة الإنتاج، غير أن  هيمنة الخواص على هذا المجال في السنوات القليلة الأخيرة، ألهبت الأسعار بشكل انعكس سلبا على الحرفيين والزبائن معا.
ملاحظة أخرى شدتنا خلال تواجدنا في باردو، وهي أن غالبية الحرفيين كهول أو شيوخ، في حين أن عدد الشباب قليل جدا، وقد علمنا من خلال استطلاعنا، بأن هذه الحرفة تشيخ بسرعة، ولا تجد من يتعلم أصولها في أيامنا هذه، كما علق بعض من تحدثنا إليهم، حيث أن توريثها يتم ضمن نطاق عائلي ضيق جدا « من الأب إلى الابن»، وكثيرا ما يرفض الأبناء حمل المشعل لثقل المسؤولية المرتبطة به، فالجهد كبير و الدخل ضعيف ويكاد يكون منعدما، كما أن ارتفاع سعر المادة الأولية يعتبر العائق الرئيسي أمام كل فرص التكوين.
يقول الحرفي عمار، بأن تلقين « صنايعي» شاب الحرفة يتطلب مادة أولية تستخدم لأجل التجربة والاختبار وهو أمر كان ممكنا حين كانت أسعارها في المتناول أما اليوم، فإن الأمر شبه مستحيل، لأن ثمن الصفيحة مرتفع جدا ولا يمكن أبدا أن تهدر على التعليم كونها تستخدم في التصنيع وبكميات محدودة، ولذلك فإن الحرفيين باتوا ينصحون الشباب بالبحث عن سبل أخرى للنشاط وتعلم حرف أقل تكلفة، خصوصا وأن أغلبهم يعانون ماديا بسبب نقص المداخيل، التي تراجعت بشكل كبير هذا الموسم و خيبت كل الآمال، على اعتبار أن الصيف و موسم الأعراس والمناسبات كان الفرصة الوحيدة سنويا لتدارك الخسارة، لكن الطلب هذه الصائفة، شحيح جدا مقارنة بما كان متوقعا وهو ما يهدد بزوال السوق نهائيا مستقلا.
سألنا بعض الشباب في الحي، عن سبب عزوفهم عن تعلم الحرفة، فكانت الإجابات مختلفة، فمنهم من أكد بأنه يخشى الفشل خاصة في ظل تراجع شراء النحاس من قبل المواطنين، بينما قال آخرون، بأنهم لا يقوون على تحمل جهد النقر و تطويع المعادن خاصة في فصل الصيف وارتفاع درجات الحرارة، في حين أوضح غيرهم، بأنهم يبحثون عن أعمال تتماشى مع تخصصاتهم الجامعية، وقالوا، بأنهم يفضلون مهنا تضمن لهم ربحا سريعا وتمكنهم من العيش الكريم.
و أمام هذا الوضع، يطلب حرفيو السوق، من السلطات التدخل لأجل حماية الحرفة من الزوال وتوفير الدعم خصوصا وأن معظمهم يفكرون جديا في التخلي عنها نهائيا و ممارسة أنشطة أخرى، مؤكدين بأن هذه الحرفة لم تعد تمكنهم من توفير شروط العيش الكريم و ما عاد دخلها كافيا لسد احتياجاتهم الأسرية، فيما أوضح آخرون، بأنهم يمارسونها لحبهم لها وليس بحثا عن الكسب أو الربح.


الاتفاقية المبرمة مع الاتحاد الأوروبي جاءت بنتيجة واحدة
من جهته، أكد الحاسن بودينار، وهو ممثل عن جمعية فن النحاس لولاية قسنطينة، بأن استمرار غلاء المادة الأولية هو السبب الأول الذي يجعل الحرفيين يرفضون تعليم الشباب هذه الصنعة، مضيفا، بأن شباب اليوم لا يحبون الحرف الشاقة و يبحثون عن أعمال تضمن لهم الربح السريع بدون جهد عضلي كبير، و أن حرفة النقش على النحاس لن تموت مهما حصل، لأنها باب رزق الكثيرين، و مصدر سعادة وفخر للحرفيين الذين يمارسونها عن حب و قناعة و الذين يصرون على توريثها لأبنائهم مهما كلفهم ذلك.
وأكد المتحدث من ناحية ثانية، بأن الدعم بات ضروريا لتجنب استمرار الخسارة ولحماية الحرفة، خصوصا وأن الاتفاقية التي أبرمت مع الاتحاد الأوربي قبل سنوات، حققت نتيجة أولية وسمحت للحرفين بالحصول على محلات لمزاولة نشاطهم على مستوى سوق الدقسي، لذلك يبقى على الدولة العمل أكثر من أجل دفع الحرفة و تكريس المبادرات الرامية إلى تشجيعها على غرار ما قامت به غرفة الصناعات التقليدية والحرف التي تكفلت بشراء منتجات الحرفيين بغية عرضها خلال المعارض الوطنية والمحلية، بما يساعد على تخفيف الأعباء نوعا وتشجيع الحرفيين ورفع معنوياتهم.

الرجوع إلى الأعلى