أحمد بوعبيد .. قصة 50 سنة بين الإبرة و الخيط بالمدينة القديمة
قضى أحمد بوعبيد  50 سنة من عمره، بين الإبرة والخيط، نصفه في ورشات خياطين آخرين، و النصف الثاني بدكانه الصغير بأحد أزقة سيدي بوعنابة ، بمدينة قسنطينة القديمة،  حيث يداعب القماش و آلة الخياطة لساعات طويلة يوميا ، من أجل إرضاء زبائنه الأوفياء الذين يقصدونه من كل حدب و صوب ، متحديا مشاكله الصحية، و يعرف عمي أحمد بخياط الفقراء، لاعتماده على أسعار رمزية، و إذا تعلق الأمر بالفقراء فكل خدماته بالمجان.
زرنا عمي أحمد ، خياط الفقراء ، في دكانه الصغير ذي الجدران الأصفر الذي بهت طلاؤه بفعل الزمن، و لم يعد يظهر إلا جزء منه،  إذ غطته أكياس ألبسة الزبائن المعلقة به، منها ما هو جاهز و بعضها ينتظر الترقيع، فوجدناه جالسا على كرسي بجانب آلة خياطة وضعت فوق طاولة قديمة جدا، تعود إلى حقبة زمنية بعيدة، و كان بصدد ترقيع سروال جينز،  و تحيط به أكياس الألبسة و علب الخيط بألوانه المختلفة، بالإضافة إلى مكواة قديمة ، و كان الزبائن ينتظرون دورهم وهم يتابعون حركاته الدقيقة و السريعة.
ورثت الحرفة عن والدي و أنا في السابعة عشر
تفاصيل كثيرة سردها أحد أقدم عمي أحمد في لقائه بالنصر، حول مشواره الطويل مع الإبرة والخيط، قائلا بأنه أحد أقدم خياطي المدينة ، و قد بدأ الحرفة  منذ كان في 17 من عمره ، فقد ورثها عن والده ، الذي كان يعد من أشهر خياطي المدينة، حيث اشتغل إبان الاستعمار الفرنسي في ثكنة لخياطة البدلات العسكرية، و كان يقدم سراويل و معاطف و لعمه الشريف و هو أحد المقربين من والده، لينقلها  من بيت العائلة بنهج الثوار، إلى الجبال في ساعة متأخرة من الليل، ليوزعها على المجاهدين، كما قال.  
و تابع المتحدث بأن والده حرص على تعليمه الحرفة حتى أتقنها، ما مكنه من اقتحام هذا المجال الذي يراه واسعا و ممتعا، مبكرا ، حيث بدأ بخياطة السراويل الكلاسيكية و سروال الحوكة في الفندق برحبة الجمال، رفقة عدد كبير من المختصين في المجال ، موضحا بأنه كان يشتغل مقابل سعر زهيد ، إذ يأخذ مقابل القطعة الواحدة 3 دنانير فقط ، بعد ذلك انتقل إلى العاصمة و اشتغل في ورشة محاذية لمسجد كتشاوة مختصة في خياطة السراويل الكلاسيكية، و عمل هناك لمدة أربع سنوات و كان في العشرينات من عمره.
توقفت عن الخياطة بسبب المرض
 بعد ذلك عاد إلى قسنطينة و فضل الاختصاص في خياطة البدلات الكلاسيكية المخصصة للسيدات ، و قام بفتح دكان رفقة أحد أصدقائه ، و كانت الزبونات تقصدنه من كل جهة خاصة المعلمات ، و قال بهذا الشأن « كنت أسعى لإرضاء أذواقهن، و كن يعتمدن في الغالب على الموديلات التي أقترحها عليهن».
و لم يكتف عمي أحمد بخياطة هذا النوع من البدلات، و إنما أصبح يخيط معاطف الكاشمير و التنانير و تصاميم مختلفة، و أكد بأنه في نهاية الستينات و بداية السبعينات عرف مجال الخياطة ازدهارا كبيرا، خاصة في المناسبات، مشيرا إلى أن تلك الحقبة الذهبية لا تنسى، فقد كان الزبائن يقبلون على السوق و المحل لاختيار تصاميم أنيقة و جميلة.
بعد أن تجاوز عمي أحمد 60 عاما من عمره، لم يعد يستطيع تصميم و تفصيل و خياطة الألبسة، نظرا لوضعه الصحي، فهو يعاني من إلتهاب المفاصل ، كما أنه أصيب في حادث على مستوى يده اليمنى، فلم يعد يستطيع تحريك أصابع السبابة و الإصبع الوسطى و البنصر ، و بالتالي أصبح عاجزا عن تفصيل الملابس، في السنوات الأخيرة،  و اكتفى بترقيع السروايل و المعاطف و غيرها من الملابس.
الخياطة فن و إبداع
قال عمي أحمد الذي تعتبر الخياطة المصدر الوحيد لرزقه،  بأن هذه الحرفة رغم بساطتها إلا أنها تحتاج إلى مهارات عالية و صبر و دقة متناهية ، تلعب فيها الخبرة دورا كبيرا، خاصة في ما يتعلق بجذب الزبائن، و يعتبر الخياطة فنا لا يقل براعة و إبداعا عن الرسم و النحت ، إلا أنه في ظل تغير الأوضاع ، لم يعد نشاط خياطة الألبسة الكلاسيكية مزدهرا، و أكد المتحدث بأن المهنة في طريقها إلى الزوال بعد اللجوء إلى شراء الملابس الجاهزة ذات التصاميم العصرية،  متأسفا على الماضي ، عندما كان الآباء يحضرون أولادهم إلى المحل لتعليمهم المهنة و أسرارها ، مضيفا «  لن يتعلم هذا الجيل من الشباب الخياطة بسهولة، لأنه لا يرغب في ممارسة الحرف الصعبة كالخياطة، كما أن إتقانها صعب ويحتاج إلى صبر و إرادة و حب المهنة».
يعيد ترقيع الألبسة القديمة لتوزيعها على الفقراء مجانا
عمي أحمد معروف بأنه رجل قنوع محب للفقراء، حيث يعتبر محله فضاء لجمع الألبسة، ليعيد ترقيعها، ثم يوزعها على العائلات الفقيرة ، و هو ما كشفه لنا عدد كبير من زبائنه ، من بينهم سيدة تقطن بحي الزيادية، حيث قالت لنا بأنها اعتادت جمع ألبسة أبنائها القديمة و جلبها إلى عمي أحمد، ليصلحها مجانا، ثم يوزعها على العائلات الفقيرة، و هو ما أكده لنا عمي أحمد،  مشيرا إلى أنه يقوم بهذه العملية سنويا،  خاصة قبيل فصل الشتاء لتغطية احتياجات العائلات الفقيرة.
و قال لنا شاب وجدناه بالمحل بصدد ترقيع معطف، بأنه يقطن بذات الحي ، و يطلب منه عمي أحمد ، لكونه سائق سيارة «فرود» ، نقل الألبسة لعائلات فقيرة في مناطق معزولة ، و يدفع أجرته من ماله الخاص.
و لا يزال عمي أحمد يأخذ أسعارا رمزية مقابل ما يقدمه من خدمات لزبائنه من مختلف الشرائح ، كما قاله لنا أحد زبائنه و ما وقفنا عليه ، فأسعار الترقيع تتراوح بين 50 و 100 دينار ، فيما يلجأ في كثير من الأحيان إلى إعادة تفصيل القطعة ككل، حيث  يحولها إلى قطعة قماش، ثم يعيد خياطتها مع إدخال تغييرات لإخفاء الأماكن الممزقة ، موضحا بأن جل الزبائن الذين يقصدونه في هذه الفترة هم شباب ،  لترقيع سراويل الجينز العصرية الممزقة في أنحاء مختلفة.
وقد التقينا زبونة عند  عمي أحمد ، قدمت لترقيع سروال ابنها الشاب ، و أخبرتنا بأنها دائمة التردد على دكانه، لترقيع ملابس أبنائها  ، مشيرة إلى أنها كانت منذ سنوات تقصده لخياطة عباءات و بدلات كلاسيكية بتصاميم تختارها ، حسب ذوقها، و أكدت بأنها لم تكن تشتري الألبسة الجاهزة و كل ملابسها من تصميمه. و أعربت الزبونة عن أسفها لأن عمي أحمد لم يعد باستطاعته تفصيل الألبسة ، ما اضطرها للاعتماد على الألبسة الجاهزة، مضيفة بأنه لا يزال محافظا على الأسعار التي كان يعتمدها سابقا،  و لا تتجاوز 200 دينار.             
أسماء  بوقرن

الرجوع إلى الأعلى