بالرغم من التحولات و التطورات التي يشهدها مجتمعنا في مختلف المجالات ، لا تزال عادة «إهداء» أو بالأحرى «تنازل « عديد الأسر الجزائرية ، عن أبنائها لأقاربها، سواء الأخوال و الخالات و العمات أو غيرهم ، خاصة ممن يعانون من العقم، منتشرة في مدننا و قرانا، دون أن تتخذ أية جهة إجراءات لتسوية الوضعية بشكل قانوني واضح، يضمن حقوق الأبناء «المكفولين» و يحمل مسؤولية تنشئتهم و حمايتهم و تعليمهم كاملة ل»الكافلين» ، بإصدار عقد كفالة، يحدث هذا في الوقت الذي يوجد مئات اليتامى المعوزين في أمس الحاجة لمن يرعاهم .
 المختصون من أطباء و نفسانيين و رجال قانون يدقون ناقوس الخطر حول استمرار هذه الممارسات ، خاصة و أن العديد من «الهبات» أو «الهدايا الآدمية» ، إن صح التعبير، ثبت أنها  تعاني من اضطراب نفسي أو فصام «سكيزوفرينيا»،  ناهيك عن المشاكل و الصراعات التي قد تنشب بين الوالدين البيولوجيين و الوالدين البديلين  اللذين لا يملكان في الغالبية العظمى من الحالات، أية وثيقة قانونية تثبت إسناد الكفالة إليهما، ليتحملان  بشكل رسمي مسؤولية الصغار.
وفاء : أملك شخصيتين متصارعتين!
يمكننا أن نلاحظ حولنا عديد الحالات لفتيات و شبان و حتى أطفال صغار، ، يعيشون في كنف أقاربهم، بعيدا عن أمهاتهم و آبائهم البيولوجيين،  دون إطلاعهم على الحقيقة ، بل يتركونهم في أكثر من 90 بالمئة من الحالات التي صادفناها خلال هذا الروبورتاج، يكتشفونها بمحض الصدفة، أو عن طريق أطراف أخرى، لكن الصدمة قوية في كل الحالات، حيث يجد المعني نفسه في مهب رياح الغضب و القلق و التمزق، تعصف به تساؤلات كثيرة، كما قالت وفاء، 15 عاما، موضحة للنصر، بأن ابنة خالتها ، هي التي أخبرتها منذ حوالي ثلاث سنوات ، بأنها ليست الابنة الحقيقية ل»أمها» و «أبيها»، بل هي ابنة تلك المرأة التي تزورها كثيرا و تغدق عليها بالهدايا و كانت تعتقد بأنها خالتها، عندما سألت جدتها عن الأمر بكت كثيرا، و فوجئ والداها اللذان نشأت و ترعرعت بين أحضانهما بكل امتيازات الابنة الوحيدة، بصراخها في وجهيهما «لماذا أخفيتما عني الحقيقة؟»، و منذ ذلك الحين،  كما قالت لنا، فقدت الثقة في نفسها و في كل الناس و تدهورت نتائجها الدراسية.. مؤكدة «انقلبت حياتي رأسا على عقب، و لا أزال أشعر و كأنني صاحبة شخصيتين و حياتين».
نفس المعاناة عاشها وليد ابن 18 عاما ، لكن الفرق بينه و بين وفاء، أن أخته الكبرى المتزوجة هي التي أخذته إلى بيتها، منذ كان رضيعا و تكفلت برعايته، لأنها لم تنجب ، و عندما اكتشف الحقيقة أصيب باضطرابات نفسية و غادر مقاعد الدراسة ، و لا يزال لحد اليوم يعالج لدى أخصائي ، لكن في كنف والديه الحقيقيين.
سلمى: أنا «هدية» أمي إلى أختها و سبب صراعهما

سلمى 27 عاما، طالبة ماستر 2 و موظفة، سردت علينا معاناتها التي بدأت عندما قررت والدتها التي حباها الله بولدين و خمس بنات، أن تستأذن زوجها في أن تقدم ابنتها الرضيعة ذات 7 أشهر، إلى أختها المتزوجة التي لم يرزقها الله بأطفال لكي تتكفل برعايتها ، و لم يعارض والدها، ما أضفى على حياة الزوجين العقيمين الكثير من البهجة و السرور، و تابعت المتحدثة» عشت طفولة رائعة بين أحضان أمي و أبي اللذين وفرا لي كل سبل الراحة و السعادة، فقد كنت وحيدتهما المدللة، التي غمراها بالحب و الحنان، مما شجعني على التفوق في دراستي. عندما اجتزت امتحان الطور الابتدائي ، طلبت المعلمة مني و من زملائي أن نكتب معلومات شخصية من بينها اسمي و لقبي الوالدين، و بعد أن قدمتها لها اقتربت مني و قالت» هناك فرق بين لقبك و لقب والدك و والدتك، يبدو أنك مثل ابنتي، لم يتكفل بك والديك الحقيقيين». لقد صدمتني،  صفعتني بعنف، نظرت إليها باستغراب، ثم طأطأت رأسي خجلا، و عندما عدت إلى المنزل نزل سؤالي كالصاعقة على أمي» أنا ابنة من؟»، و أصيبت بنوبة بكاء هستيرية ، فشعرت بالذنب و الحزن الشديد.
عندما كنت أزور منزل أمي البيولوجية، كنت أشعر بحنانها، لكنني لم أستطع أن أبادلها الشعور، و كان أبي يعاملني بجفاء، إلى أن بلغه أمر تفوقي في الدراسة ، في حين لم يتمكن بقية إخوتي من مواصلة تعليمهم، عندئذ بدأ يشجعني، و يقول لي «هذا هو بيتك ابقي معنا»، لكنني لم أشعر قط بالراحة في بيته، فقد كان مليئا بالأبناء و الكنات و الأحفاد و خلافاتهم و ضجيجهم و صراخهم. و أصبحت أرفض الذهاب لزيارتهم، و يتهمون خالتي بأنها هي السبب. كما أصبحت أتألم لأن أقارب والدي الذي رعاني يعاملونني كغريبة عنهم.. كنت ككرة تتقاذفها الأقدام بين ملعبين أو بالأحرى حياتين مختلفتين  ، و انتمائين و شخصيتين و بيتين و عائلتين متصارعتين و تراكمت في وجداني أكوام من المشاعر و الأفكار الغريبة،  حاولت أن أواصل حياتي بشكل عادي ، لكنني عندما وصلت إلى السنة الثانية ثانوي، اجتاحتني الوساوس و حالة طاغية من الاكتئاب و القلق و الانطواء و النعاس المتواصل، كنت أدخل إلى القسم و أخرج سريعا، لأنني لا أطيقه، و تراجعت نتائجي، و رغم كل ذلك واصلت تعليمي و نجحت في البكالوريا. و في الجامعة تدهورت حالتي أكثر و أصبحت أرى أناسا يشيرون إلي و يتحدثون و يضحكون و أصبحت لا أستطيع الخروج من البيت من شدة الرعب. و حاولت الانتحار ومكثت لفترة في مستشفى الأمراض العقلية للعلاج، و عندما خرجت أخذني أهلي إلى مرق، ثم توجهت إلى طبيب مختص في الأمراض النفسية و العصبية ، فتحسنت تدريجيا حالتي بفضل الأدوية و أنا الآن موظفة و طالبة في مستوى ماستر 2».

الأستاذ الجامعي و الأخصائي النفساني الدكتور لخضر عمران
انشطار الشخصية يهدد هذه الفئة..
 « بالرغم من تطور المجتمع، إلا أن الكثير من العائلات لا تزال تهب أبناءها لأقاربها الذين ليس لهم أولاد، لإسعادهم، و اعتقادا منها بأنهم سيربونهم و يرعونهم ، كما لو أنهم فلذات أكبادهم ، امتثالا لعادة قديمة، دون أن تأخذ بعين الاعتبار شخصية الطفل و المشاكل التي قد يتعرض لها عندما يكبر. علما بأن بعض هذه العائلات الواهبة لصغارها و ليس كلها ، معوزة و كثيرة العدد. هذا الطفل عندما تنفجر أمامه حقيقته، يشعر في البداية و هو واع، بنوع من الانشطار في شخصيته، فتتغير نظرته لنفسه و للشخصين اللذين ربياه صغيرا،  رغم حبه لهما،  و كذلك نظرته لأبويه الحقيقيين اللذين طالما اعتقد أنهما من أقارب أسرته، فيعتريه نوع من اللوم لنفسه، و يتساءل «لماذا أنا؟» ، و تأخذ «أناه» صورة منشطرة  و يتساءل «أنا طيب لهذا أخذاني» ، في إشارة للشخصين اللذين تكفلا به، و «أنا سيء لماذا تخليا عني»، في إشارة لوالديه اللذين ولد من صلبيهما،  و أشير هنا إلى أن مشكلة هذا النوع من الأطفال، مختلفة تماما عن مشاكل الأطفال مجهولي النسب، وقد تشبه قليلا توأمين حقيقيين ولدا معا و افترقا، و عاش كل واحد منهما نوعا من النقص و الانشطار في غياب الثاني . و يعاني الطفل الذي وجد نفسه بين أحضان والدين بديلين، في الوقت الذي لا يزال والداه على قيد الحياة، أيضا مشكلة الخلط و الالتباس في العلاقات و المكان، فهو في البيتين يشعر بأنه غريب و ليس في بيته الحقيقي، رمز الراحة و الاستقرار . و أشدد هنا بأن مثل هذه الصدمات النفسية العنيفة التي يتلقاها هذا النوع من الأطفال، قد لا تكون سببا مباشرا في إصابتهم باضطرابات نفسية أو عقلية ، لكنها تجعلهم يعانون من القلق و الغيرة و الحقد، خاصة إزاء الأشقاء الذين نعموا بالعيش مع والديهم الذين احتفلوا معهم بكل أفراحهم . لهذا من الضروري  توفير على الأقل المرافقة النفسية لهؤلاء الأبناء. للتوضيح لا يوجد أحن على الطفل من صدر أمه، و لا أحد يمكن أن يحل محلها،  إلا إذا توفيت أو فقدت عقلها».                            
إ.ط

المحامية  كوثر كريكو
رعاية الطفل دون عقد كفالة مناف للقانون
 « لا تزال إلى غاية اليوم بعض العائلات القسنطينية و الجزائرية عموما، «تهب» ابنها الرضيع للأخ أو الأخت أو قريب آخر،  في الغالب يكون محروما من الإنجاب، و أحيانا أحد الجيران المقربين،
و ذلك على سبيل التعاطف ، أو نظرا للفقر أو المرض أو العدد الكبير من الأبناء، و يتم ذلك دون وثائق، ما يعرضه لمخاطر مادية أو معنوية، و يعرّض من يحضنه لحكم جزائي.  إن مثل هذه «الهبة» تعتبر تحايل و ممارسة غير قانونية، و حتى إذا اعتبرناها نوعا من التبني، فهو محظور قانونيا و محرم دينيا، و يبقى الحل الوحيد إذا قررت عائلة رعاية الابن الشرعي لعائلة أخرى، لسبب أو آخر، أن يتم ذلك بناء على عقد كفالة.
 إن المادة 116 من قانون الأسرة المعدل المتعلقة بالكفالة، تنص على ما يلي  «الكفالة التزام على وجه التبرع بالقيام بولد قاصر من نفقة و تربية و رعاية قيام الأب بابنه و تتم بعقد شرعي»، و جاء في المادة 117 « يجب أن تكون الكفالة أمام المحكمة، أو أمام الموثق و أن تتم برضا الأبوين» ، و توضح  المادة 118 الشروط التي  يجب أن تتوفر في الكافل « يشترط أن يكون الكافل مسلما، عاقلا أهلا للقيام بشؤون المكفول و قادرا على رعايته». كما تخوّل المادة 121 للكافل الولاية القانونية و جميع المنح العائلية
و الدراسية التي يتمتع بها الولد الأصلي، لكن يجب أن يحتفظ الولد المكفول بنسبه الأصلي إذا كان معلوم النسب.. كما جاء في المادة 120 .
و بالتالي فإن الكفالة تدرج في إطار تطبيق الاتفاقيات الدولية لحماية حقوق الطفل و التصدي للمتاجرة بهم، فالمكفول تتم متابعته ، أما غير المكفول فلا يراقب، و قد يتعرض للعنف و شتى المخاطر، و كذا الاضطرابات النفسية أو العقلية. عموما نجد من لا ينمو في كنف والديه متمردا و عاصيا، و قابلا للانحراف. و أدعو من هذا المنبر إلى تنظيم حملة وقائية من الظاهرة و نشر الثقافة القانونية بين كل أفراد المجتمع لتجنب هذه الممارسات».

طبيب الأمراض العقلية و استشاري العلاقات الأسرية نصر الدين تيطاح
بؤر للأمراض النفسية و الانحرافات الخلقية
  حوالي 3 بالمئة من المرضى الذين يقصدون عيادتي من شريحة «الأطفال ـ الهدايا»، و يكون سبب إحضارهم في البداية، معاناتهم من التبوّل اللاإرادي، و بعد الفحص و جلسات الإصغاء، تبرز لديهم مشاكل و اضطرابات عديدة بعضها ناجم عن سوء معاملة و عنف الأولياء الذين يرعونهم و الألم و التمزق الذي يعتريهم، عندما يكتشفون بأنهم «هبات»،  و تتفاقم حالة نسبة كبيرة منهم  و يصابون بالفصام. كما لاحظت بأن كل من الوالدين البيولوجيين المانحين لفلذة كبدهما و الوالدين المستقبلين للطفل، يعانون أيضا من اضطرابات نفسية، خاصة الوالدتين، فالأم عاطفتها جد قوية اتجاه ابنها، و هي لا توافق عادة على التنازل عنه، لكن يرغمها زوجها المتسلط على ذلك ، مستغلا شخصيتها الضعيفة و السلبية ، فتصاب باكتئاب و في الغالب انهيار عصبي ، على غرار زوجة شابة انتزع زوجها مولودها الرابع من حضنها و هي في فترة النفاس، و قال لها « لم يعد ابنك منذ اليوم»،  ثم وهبه لأمه لترعاه، فأصيبت باكتئاب ما بعد الولادة ، ثم انهيار حاد، خاصة و أن زوجها يمنعها من الخروج و يضربها كلما طالبت بابنها.
 الطرف الثالث من المعادلة ، هي الأسر المستقبلة و تكون الأكثر عرضة للمشاكل النفسية، فهي في الغالبية العظمى من الحالات، من أقارب العائلة المانحة و تعاني من العقم ،
و بالتالي تحل مشكلتها و تضمد جرحها النرجسي على حساب البراءة. و من بين خصائصها الجفاء العاطفي و التسلط
و العنف و الوسواس القهري، و حتى
و إن كانت توفر  للطفل احتياجاته المادية و تغدق عليه بالهدايا، فهي لن تشبع جوعه و توقه لحب و حنان أبويه البيولوجيين، و الدفء العائلي و النمو في وسط طبيعي متوازن.
اللافت أن الدولة تمنع التصرف في أي شيء ملكا لشخص آخر، حتى لو كان سيارة ، دون توكيل و وثائق  رسمية، لكننا نلاحظ أن عديد الأسر بمدننا
و قرانا تواصل منح أطفالها للغير ، دون عقد كفالة أو شهادة ، و أحيانا يتم إصدار شهادة ميلاد عرفية لهم، كأن الأمر يتعلق بتنازل عن سلعة للتسلية و الترفيه.  أعتبر ذلك جريمة ضد الإنسانية، و أدعو العائلات الجزائرية عبر منبر النصر، إلى محاربتها، و أدعو السلطات إلى ردع ممارسيها، لحماية حقوق الأطفال، حتى لا يتحوّلون إلى بؤر للأمراض النفسية و لا يسقطون في هاوية التسرّب المدرسي
و الانحراف الخلقي».
إلهام طالب

 

الرجوع إلى الأعلى