بن يحيى عبد الرزاق ، صاحب 88 ربيعا، أحد المصورين الفوتوغرافيين الذين وثقت كاميراتهم جانبا مهمّا من تاريخ الجزائر و مسار الإعلام الوطني منذ الاستقلال، جمعنا به حديث ثري تطرق خلاله إلى واقع المجتمع الجزائري بعد 1962، وإلى الثورة الزراعية و تحدياتها ، وكذا الدور الذي لعبته جريدة النصر في تحويل هفوات هذه النهضة الفلاحية إلى إنجاز، كما سرد علينا قصته مع الرئيس الراحل أحمد بن بلة.
أعدتها:  نور الهدى طابي
رحلتي مع الصحافة بدأت صدفة
زارنا عمي عبد الرزاق بمقر جريدة النصر التي عمل بها لسنوات طويلة و غادرها بعد إحالته على التقاعد سنة 1990، في محاولة منه للتصالح مع الذاكرة، فحدثنا خلال سويعة من الزمن عن رحلته مع مجال الإعلام، رحلة قال بأنها وليدة الصدفة، إذ أنه كان يعمل بدكان صغير قرب مقر جريدة " لا ديبيش" la dépêche  أي النصر قبل التعريب، و كان مصور الجريدة صديقا له، وهو من عرض عليه أن يحل محله كمصور للجريدة، بعدما انتقل هو إلى جريدة الشعب، كان ذلك بعد الاستقلال بسنة و نصف، وهو ما تم بالفعل، خصوصا وأن راتب المصور الصحفي كان يناهز آنذاك 400 دج، وهو مبلغ وصفه محدثنا بالكبير، موضحا بأن السبب هو أن المصورين الجزائريين كانوا عملة نادرة في ذلك الوقت.
فرانكوفونيون عارضوا فكرة تعريب النصر
يقول محدثنا "عملنا في الجريدة عندما كانت ناطقة باللغة الفرنسية، وكنا تحت إدارة فرنسيين، لديهم أسلوبهم الخاص في العمل و التعامل، وقد كان صحفيو الجريدة آنذاك يحظون باحترام الجميع في قسنطينة،  فصحيفة لاديبيش
"la dépêche " كانت من بين أهم الجرائد الصادرة آنذاك،  لكن في 1972 و تحديدا في الفاتح من جانفي، علمنا بأن الجريدة ستعرب، أتذكر أن بعض الفرانكوفونيين لم يستسيغوا الفكرة و هاجموها، بحجة أن من يقرؤون الجرائد، غالبيتهم لا يجيدون العربية، فمعظم المثقفين فرانكوفونيين، لكن الفكرة فرضت نفسها رغم ذلك، لأن الهدف منها، كما قيل لنا خلال اجتماع ، هو محاربة الجهل و نشر الوعي في المجتمع، في تلك المرحلة كان بن محمود واليا لقسنطينة، و قد كان ممن شجعوا إصدار النصر بالعربية، فبدأنا بإصدار نسخة باللغتين، تضم صفحات بالعربية و أخرى بالفرنسية.
عددنا في تلك المرحلة كان قليلا، لا يتعدى 7 أشخاص ، عملنا لقرابة ستة أشهر مع صحفيين مفرنسيين رافقوا عملية الانتقال الجزئي إلى النسخة المعربة، ثم غادروا الجريدة، تاركين خلفهم إمكانيات قليلة، أبرزها سيارة وحيدة من طراز" آر4"، مخصصة للعمل الصحفي و التوزيع، بالرغم من ذلك استطاعت الجريدة الاستمرار و النجاح، و اكتسبت جمهورا من المعربين و الفرانكوفونيين".
و أضاف "أما نحن كفريق عمل يتكون من صحفيين و مصور، فقد حاولنا أن نعطي للنصر هوية مختلفة و نترك بصمتنا عليها، لذلك ركزنا على الجانب الاجتماعي و خصصنا للرياضة الوطنية صفحات عديدة".
صورة حمار يأكل المشمش كانت وراء إنشاء مصنع  نقاوس للعصائر
 يواصل المصور المخضرم حديثه إلينا " تجهيزاتنا في تلك الفترة  كانت بسيطة، عن نفسي كنت أعمل بآلة تصوير بدائية، إن صح وصفها، لم تكن رقمية كما هو موجود اليوم، مع ذلك لم تكن تفارقني حتى خارج ساعات الدوام، فقد كنت مصرا  على اقتناص كل لقطة من شأنها أن تصنع الحدث، أو تزيد من شعبية الجريدة، رغم أن تحميضها و تجهيزها داخل المخبر، كان يتطلب قرابة الساعة للصورة الواحدة.
كنت أنام قليلا و أعود مجددا إلى عدستي، كنت أعمل ليلا لتغطية منازلات الملاكمة، و في الصباح مباريات الكرة الطائرة و كرة القدم، كما أرافق زملائي الصحفيين خلال تغطياتهم اليومية الأخرى، اذكر أنني صورت أول زيارة للرئيس الكوبي فيدال كاسترو إلى قسنطينة، كما صورت زيارة رئيس يوغوسلافيا سابقا جوزيف بروز تيتو إلى الولاية، رفقة الرئيس الراحل أحمد بن بلة، خلال تلك الزيارة اغتنمت فرصة قربي من الوفد الرئاسي بحكم العمل، و بمجرد أن وطأت قدما الرئيس بن بلة  سلم الطائرة، أخرجت نسخة من جريدة النصر من جيب سترتي، و أعطيتها له، قلت له سيدي الرئيس تفضل هذه الجريدة جزائرية، و هي تجربة فتية في مجال تعريب الصحافة المكتوبة، و قد كانت تلك النسخة تحمل بالأساس صورة له، فأخذها من يدي ابتسم شاكرا.
أظن أن تلك النسخة لا تزال موجودة في أرشيف جريدة النصر، وهو أرشيف ثري بما يحتوي من صور نادرة لا تقدر بثمن".
جزائريون كانوا يقطنون الكهوف ويجهلون أن الجزائر تحررت
أخبرنا محدثنا بأن الصحافة الجزائرية انفتحت أكثر على المجال الاجتماعي بعد  الاستقلال، و تحديدا بداية من السبعينيات فالجميع أراد الابتعاد عن السياسة و التركيز على هموم المواطنين، وقد رافقت زملاء كثيرين  لدى إنجازهم لروبورتاجات في المداشر و القرى و الجبال، كنا نصدم بما نراه، فبعض الجزائريين كانوا يعيشون في كهوف تحت الأرض، حتى بعد مرور سنتين على الاستقلال، و هناك من كانوا يجهلون بأن الجزائر قد تحررت و أننا حققنا الاستقلال، خصوصا في منطقة الأوراس و الجنوب الجزائري.
و أضاف عمي عبد الرزاق "يعتبر مشروع الطريق الصحراوي من بين أعظم انجازات تلك المرحلة، أما الثورة الزراعية التي تعتبر من انجازات الرئيس الراحل هواري بومدين، فقد شكلت نقطة تحول اجتماعية، حاولنا أن  نتعامل معها بموضوعية، للأمانة أقول بأن بعض الفلاحين كانوا رافضين للمشروع،  لأنهم كانوا متخوفين من تأميم أراضيهم لصالح الدولة".
و استرسل في حديثه " كإعلاميين واجهنا بعد الضغوطات عندما حاولنا إبراز هذا الجانب، أذكر أننا في إحدى المرات زرنا ولاية باتنة، وتحديدا بلدية نقاوس أنا وصحفي جريدة النصر عبد اليقين سماعلي، لإجراء روبورتاج حول الفلاحة، بعدما اشتكى فلاحون من تكدس منتوج المشمش، وعندما دخلنا أحد الحقول شاهدت فلاحا يضع أمام حماره صندوقا من المشمش الطازج ليأكله، لأن هناك فائض من الإنتاج، فالتقطت صورة للمشهد نشرت في الصفحة الأولى من الجريدة و في الروبورتاج، فأحدثت ضجة كبيرة، ما تسبب لنا أنا والصحفي صاحب الروبورتاج في متاعب مع الشرطة فقد أرادت معرفة اسمي الصحفي  و المصور، لكن الجريدة رفضت الكشف عنهما، فقد كانت ثقافة التضامن سائدة في تلك الفترة.  المهم أن الروبورتاج أحدث ضجة انتهت بتأسيس مصنع للعصائر بنقاوس".
وفيات الرضع و مخزن البصل
يعود محدثنا بذاكرته إلى سنة 1967، عندما ارتفعت نسبة وفيات الرضع بشكل مفاجئ بقسنطينة، وهو ما دفع بالجريدة، كما قال ، للتحقيق في الموضوع، الذي كان من بين أهم الإسهامات الإعلامية و الاجتماعية التي قامت بها في تلك الفترة، فبفضل تحقيق النصر، كما علق، تم بعث تحقيق في مسحوق الحليب الذي اتضح بأنه مصدر التسمم.
و أكد" نحن فتحنا تحقيقا صحفيا أوصلنا إلى الشخص الوحيد الذي كان مسؤولا عن تزويد المدينة بمسحوق "بودرة" الحليب في تلك الفترة، وبعد تدخل السلطات و إخضاع المادة للتحاليل المخبرية، اتضح بأنها كانت ممزوجة بحليب مجفف خاص بالعجول و ليس البشر، و هو ما انجر عنه تسمم الرضع و وفاتهم.
كانت تلك "خبطة" إعلامية هامة، عرضتنا كذلك للتهديد و الوعيد من قبل المتهم الذي هدد بتصفيتنا أنا و الصحفي صاحب التحقيق، بمجرد خروجه من السجن فقد قضت المحكمة بزجه فيه لمدة 56 سنة، لكنه توفي قبل أن يغادره".
من بين الصور أيضا التي أثارت الرأي العام ، صورة مضارب خزّن أزيد من  400 قنطار من البصل في نهاية السبعينيات، ليتحول بسببه هذا المنتج إلى عملة نادرة، ارتفع سعرها بشكل جنوني، لكننا أجرينا تحقيقا و كشفنا الحقيقة، آنذاك التقطت صورة للمخزن، أين كان المضارب يخفي البصل، و قد كانت صورة فريدة بامتياز، حتى أن المواطنين أطلقوا على ذلك الشخص اسم بوبصلة" كما أكد محدثنا.  
   ن.ط

الرجوع إلى الأعلى