نجمة الملاحين ومحطة القراصنة والحرّاقة!
تعد منارة رأس بوقارون الواقعة على بعد 20 كلم إلى الغرب من مدينة القل بولاية سكيكدة واحدة من أهم الحصون البحرية من بين 32 منارة على طول الساحل الجزائري منذ عهد الفينيقيين، ومن أكبر الرؤوس بالجزائر وإفريقيا، كانت وما تزال النجمة التي ترشد الملاحين بنورها الممتد في عرض البحر على مسافة 7 كلم، كما أنها تحولت إلى مكان يقصده الفضوليون للبحث عن مخلفات القراصنة العابرين و لتقفي أثر ما تقذفه المياه من مخدرات يلقي بها تجارها في عرض البحر خلال عمليات التهريب، فيما  تحوّل المكان في السنوات الأخيرة إلى معبر للمهاجرين غير الشرعيين من الحراقة الذين يركبون قوارب الموت نحو سواحل الضفة الغربية من حوض البحر الأبيض المتوسط.
بوزيد مخبي
حصن بحري يحكي عراقة المكان
منارة رأس بوقارون تتموقع  وسط منطقة جبلية نائية بأعالي بلدية الشرايع بدائرة القل، وللوصول إلى  المنارة على زائر المكان ترك سيارته على جانب الطريق المطل على المنارة ثم المشي لمسافة طويلة عبر طريق صخرية في رحلة متعبة وصعبة، لكن سحر المكان ينسي الزائر العناء والتعب  لأن مشاهدة المنارة عن قرب يمنحه شعورا بالإعجاب والغرابة.
 الروايات تشير إلى أن بناء المعلم استنزف الكثير من السنوات و الأرواح، وقد انطلقت الأشغال بموقع البناء سنة 1869 لتنتهي في سنة 1911 وهو تاريخ دخول هذا الفانوس حيز النشاط ، بعد سنوات من الجهد و التضحيات البشرية التي قدمت في سبيل انجاز صرح معلق يصعب الوصول إلى موقعه، كما أن المستعمر أخر عملية إتمام بناء المنارة بعدما باشر مشروعا موازيا، حيث منحت الأولوية في الانجاز و التسليم لمنارة رأس الحديد التي بنيت سنة 1907 بشرق ولاية سكيكدة.
 عندما يصل الزائر برا إلى قرية بوقارون  يشعر بنوع من الدهشة حيث يجد نفسه أمام مبنى لديه كل مواصفات المنارة التي يقصدها ، لكنه سيكتشف فيما بعد أنه أمام نموذج أولي للمنارة  الأصلية شيد سنة 1907 ليتم  تحويل  هذه المنارة الصغيرة قبل سنوات إلى مدرسة ابتدائية لتعليم أبناء المنطقة، وهناك عدد كبير من العمال والإطارات والأطباء والضباط والجنود و البحارة قد درسوا في هذا الصرح ذي الرمزية الخاصة، فأحد جدران هذه المدرسة مجهز بوسائل الاتصال الهاتفية الوحيدة المتوفرة في المنطقة، تساهم بشكل كبير في الحياة العامة من خلال دورها كهيكل تعليمي و مرفق للاتصال يفك العزلة عن القرى القريبة، خصوصا و أن المنطقة معزولة عن الخارج و لا تتوفر على الخدمات الهاتفية بالشكل المطلوب.
بعد اكتشاف النموذج الأولي للمنارة، يجد زائر المعلم الأصلي  منارة رأس بوقارون  نفسه أمام صرح ضخم وجميل لدرجة الهيبة، خلال تواجدنا في بوقارون حاولنا الاستفسار عن كيفية تشغيل هذا الفانوس العملاق فعلمنا  بأنه و إلى غاية سنة 1978، كانت المنارة تشتغل فقط بالغاز قبل أن تحول إلى العمل بالطاقة الكهربائية بعدما ربطت المنطقة بشبكة الكهرباء و تم تزويد هدا الحصن البحري  بخط عالي التوتر سنة 2006، عندما عرفت المنارة أشغال إعادة تهيئة كلفت آنذاك ما يعادل 10 ملايين دينار.
مقبرة للبواخر و معبر للحراقة
يعرف ساحل بوقارون  لدى البحارة بكونه من أخطر السواحل لوجود تيارات شديدة القوة ورياح عاتية تهب في مختلف الاتجاهات وتصل 100كلم في الساعة، إذ تحتفظ الذاكرة الجماعية لسكان المنطقة بالعديد من الحوادث التي تسببت فيها الرياح وكان لها وقع شديد على نفوسهم .

ففي سنة 1970 اصطدمت سفينة يونانية بصخور رأس بوقارون  وأدى ذلك إلى تقدم صاحب السفينة بشكوى للجمعية الدولية للإشارات البحرية بحجة أن ضوء المنارة قد انطفأ، القضية التي تورط  فيها مباشرة حراس المنارة الذين أنقذوا من حكم جائر في آخر لحظة بعدما اعترف بحار فلسطيني  أمام لجنة التحقيق أن قائد السفينة كان في حالة سكر وقت الحادث.
وشهدت المنطقة أيضا حادثة تحطم سفينة أخرى سنة 2001 بمنطقة الداموس  أسفرت عن وفاة أحد أعوان الحماية المدنية خلال عمليات الإنقاذ ، فالمكان خطر جدا لذا يطلق عليه محليا باسم «برياح» أو «أب الرياح»  بسبب قوة الرياح العاتية في المنطقة التي عرفت حوادث مأساوية كثيرة حولتها مع مرور السنوات إلى مقبرة حقيقية للبواخر.
 يذكر  أيضا تاريخ 17 جويلية 1995، أين  سجل ذلك اليوم حادثة مرعبة، إذ هاجم إرهابيون حارس المنارة، الذي تمكن بفضل فطنته من الفرار و وأطلق إنذارا نبه من خلاله حراس الشواطئ القريبين مما دفع الإرهابيين إلى الفرار.
المعلم لم يكن مجرد منارة تهتدي بها السفن العابرة خلال الفترة الاستعمارية، بل كان أيضا محتشدا يجمع فيه الجيش الاستعماري سكان تلك المناطق بداية من سنة 1958، فقد تم سجن وعزل الكثير من الفدائيين هناك.
مع ذلك فإن الكثير من العلامات و الدلائل التي لا تزال ملامحها بارزة إلى غاية اليوم على حجارة المحتشد الموجود بجوار المنارة تدل على أن التواصل كان دائما و مستمرا بين المجاهدين و السكان، الذين يؤكد بعضهم بأن هناك رسائل وحتى إعانات للثورة و الثوار كانت تجمع من داخل المحتشد و تسرب عبر ممرات سرية إلى الخارج، واليوم تحول إلى مكان للعبور نحو الضفة الغربية بالنسبة للمهاجرين غير الشرعيين عبر قوارب الموت ، اين شهد الساحل العديد من المحاولات منها من باءت بالفشل ومنها من سمحت لها بالوصول إلى سواحل أوروبا.
الطريق السياحي يكشف كنوز المنطقة
 ما يزيد من جمالية زيارة المنارة بالإضافة إلى تاريخها، وروعة وسحر  طريق العودة  فالمسلك الذي يربط  بين  رأس بوقارون و مدينة القل أصبح مريحا بعد فتح الطريق السياحي الذي أصبح  يوفر للزائر عناء التنقل ويمنحه متعة خاصة،من خلال  اكتشاف كنوز المنطقة عبر سلسة من  الشواطئ  والخلجان بمنطقة تمنارت ، وهي شواطئ عذراء ظلت معزولة لسنوات لكنها بدأت تنتعش مؤخرا حيث أعاد المصطافون اكتشافها من جديد، و رغم أن  هذه الشواطئ لم تفتتح رسميا، لكنها مع ذلك تعرف اهتماما متزايدا بفضل الطريق السياحي الممتد على مسافة 12 كلم فضلا عن المناطق الجبلية المحيطة بها والممتدة عبر الطريق من بلدية الشرايع إلى بلدية قنواع  عبر قرى تفرشة ، بني عمروس، تابلوط، السعادنية  وغيرها، وهي أماكن مفتوحة  للاستثمار السياحي .      
ب. م

الرجوع إلى الأعلى