لم يبح ساحل الجزائر بكلُّ أسراره سواء لقاطني هذا البلد الشاسع، أو لزائريه الأجانب، بخلجانه السرية وجزره المهجورة، والمأهولة غالبا بحراس المنارات المضيئة لدروب البحَّارة والصيادين بين العباب، ما يزيدها غموضا ورونقا، بشطآنه مترامية الأطراف على مدى 1600 كيلومتر، المطلّةِ على حوض البحر الأبيض المتوسط، الممتد من حدود تونس إلى المغرب الأقصى، وهو سرٌّ تأبى جزيرة «سيريجينا» بولاية سكيكدة، شرقا، البوح به، كاملا، لمكتشفيها إلى اليوم.
روبورتاج: فاتح خرفوشي
احتار طاقم النصر لدى وصوله إلى ولاية سكيكدة، الواقعة شرق الجزائر، بين مدينتي جيجل وعنابة، في تحديد الوجهة لاستكشاف شاطيء رملي أو صخري، يثير الانبهار ويروي عطش الباحثين عن الجمال والسكينة والهدوء، والتمتع بزرقة سماوية وجمال أخَّاذ، غير أنَّ زميلنا ابن المنطقة فصل في الأمر لصالح جزيرة الملكة.وحسب ما أطلق عليها الرومان ، على ما ذكرته الروايات، فإنَّ «إنسولا ريجينا» أي جزيرة الملكة، اعترافا وانبهارا بجمالها، هي «سيريجينا» اليوم، و»رأس الخليج» في تسمية أخرى للفينيقيين عن ترجمة حرفية للكلمة البونية المركبة «روس غونيا» في روايات أخرى، ضمن قراءة وبحث مأخوذين من كتاب «سكيكدة.. مقتطفات ذاكرة»، عن حضارة الفينيق و الصادر شهر جويلية الماضي لصاحبه الكاتب والإعلامي خيدر أوهاب، فالفينيقيون تواجدوا بسطورة لأكثر من 1000 عام قبل الميلاد.
انتظرنا إلى غاية قدوم أحد القوارب السياحية العاملة انطلاقا من ميناء سطورة، لنشقَّ المياه المتوسطية نحو جزيرة «سيريجينا» الواقعة على بعد حوالي ربع ساعة عن الميناء، قبالة الشاطيء الكبير، باتجاه الغرب في عرض البحر، لتلوح منارة الجزيرة من بعيد، ويبدأ العدُّ التنازلي لاكتشاف أهمِّ المناطق السياحية وحتى الأثرية جمالا وعذرية بـ»روسيكادا».
4000 دينار لبلوغ الجزيرة عبر القارب
وتتكشَّف لك الجزيرة الساحرة رويدا رويدا، ببلوغ صخرة ضخمة تتوسط البحر، يقال أنها تتربع على مساحة 6 هكتارات، تعلوها منارة مشيدة في القرن الـ19 للميلاد، وتحديدا العام 1874، لإرشاد السفن المنطلقة من ميناء سكيكدة، في الحقبة الاستعمارية، وتستقبلك منصَّة صغيرة على شكل باب روماني، على الأرجح، تدخل منه جزيرة «سيريجينا»، وكأنك بلغت أحد معالم آلهة اليونان القديمة، كيف لا وقد قبعت تحتك ببضعة أمتار حجارة وآثار فينيقية ورومانية،مازالت ظاهرة للعيان، وسط المياه الشفافة حدَّ الزجاج، وتصعد أدراجا يؤدي يمينها إلى المنارة، وتطلَّ يسارا على جمال عذري اكتشفه القلة القليلة من الناس، لتلقي بجسدك في المياه بين الصخور والمعالم الأثرية التي تأبى الاندثار.
و تعدُّ جزيرة «سيريجينا» بسكيكدة واحدة من أكبر الجزر الـ 10 المنتشرة على ساحل المدينة، وإلى جانب الآثار الفينيقية والرومانية القديمة، والمنارة المرمّمة العام 1961، تعيش الطيور فوق الصخرة الحادة التضاريس، وكأنها غير راغبة في دوس عذريتها الطبيعية، وبلوغ يد الإنسان لها، زيادة على نباتات بحرية ومتوسطية، وبالرغم من بعدها عن الشاطيء، نوعا ما، إلا أنها تبقى القبلة الأولى المفضلة للكثيرين، من أبناء «روسيكا»، وباقي الولايات وحتى البلدان الأخرى، نظرا لزيارة العمال والسياح الأتراك والصينيين وغالبية بلدان آسيا لها، حيث سجلوا إعجابا كبيرا بما تحتويه الجزائر، وجزيرة «سيريجينا» من سحر يسلب العقول.
وبالرغم من صغر الجزيرة إلا أنَّها تستقطب عددا هائلا من المصطافين، خاصة الشباب، القادمين من مختلف الولايات، حيث وجدنا أبناء سكيكدة وآخرين من ولاية سطيف، سحرهم الجمال الخلاَّب لـ»سيريجينا» وأبوا هذا العام إلا القدوم إليها، مجددا، بعد الخروج في إجازة سنوية للراحة، كما تقصدها العائلات عبر القوارب السياحية، برحلة تتراوح بين 4000 و6000 دج، للمكوث والتقاط بعض الصور للذاكرة، والصعود نصف المسافة نحو المنارة، على اعتبار أنَّه يمنع منعا باتا الدخول إليها، إلا بأمر من حرس السواحل والبحرية الجزائرية.
وجهة سياحية ممتازة لا تسترعي انتباه المسؤولين
وتعدُّ جزيرة «سيريجينا» إحدى أهم الوجهات السياحية بالولاية، بالدرجة الأولى، خاصة لمحبي البحر وركوب عبابه، غير أنَّ السلطات المحلية لا تستفيد بشكل مباشر من السفر نحوها، نظرا لعدم وجود رحلات منظمة إليها، وهو ما يعني أنَّ موردا هاما لمداخيل الخزينة لم يُستغل بعد، بولاية جذابة على غرار سكيكدة، التي استعادت هذا الموسم بريقها وسيَّاحها.
من جهة أخرى، دعا العارفون بخبايا الولاية والنشاط السياحي وحتى العلمي، المسؤولين لتنظيم رحلات استكشافية وأخرى علمية لصالح مختلف المؤسسات والمعاهد الجامعية، نحو جزيرة «سيريجينا»، حيث بإمكان المتخصصين في التاريخ وعلم الآثار التنقيب بين صخور وآثار المنطقة، لمعرفة التاريخ الصحيح لها، بل وحتى محاولة استكشاف الكنوز المطمورة بها، إن وجدت، وكذا المختصين في علم البيئة لمعرفة أنواع النباتات النادرة الموجودة بهذا المكان الخلاب، وحتى استقطاب السواح الأجانب لتحصيل المزيد من العملة الصعبة.

شباب سكيكدة يرفع التحدي رغم شحّ الإمكانات
ورفع شباب سكيكدة، خاصة جهة سطورة، التحدِّي في وجه البطالة والفقر ونقص الموارد لتسيير مشروع حديث ومربح، من خلال العمل في السياحة وبعث هذا القطاع، رغم بساطة الإمكانيات وقلة التفاعل من المسؤولين، كما يقولون، حيث رفضوا توجيه دفات القوارب نحو الضفة الأخرى، أوروبا، وتصدير «الحراقة»، بذل استقطاب سياح القارَّة العجوز لجمال بلد مساحته تقارب الـ 3 ملايين كيلومتر مربع، يتميز بتنوع بين الساحل والتل والصحراء، وتحويل العملة الصعبة نحو خزينة الدولة لرفع المستوى المعيشي وانتعاش الدينار، حيث يكدّ «زينو» صاحب القارب الذي أوصلنا وجهتنا وهي جزيرة «سيريجينا» ذهابا وجيئة، للظَّفر بأكبر قدر ممكن من السواح والعائلات، لتحصيل قوت يومه، الذي يخبئه لتسيير التزاماته اليومية على مدار السنة، كون العمل لا يكون سوى في موسم الاصطياف.   
محبو الغوص الحرّ والقفز من الصخور يكسرون صمت المكان
وتفضِّل فئة أخرى من عشاق السياحة والاستكشاف، قصد الجزيرة للتمتع بالهدوء والسكينة التي لا يكسرها سوى صوت محركات الزوارق السياحية المُقِلّة للناس، وكذا محبي الغوص الحر والقفز من على الصخور، رغم خطورة الأمر، خصوصا من إحدى المنصات التي تنتهي بشكل هيكل حديدي في صورة باب، من معالم آلهة الإغريق، قديما، حيث يعتبرونها مقياسا للشجاعة والإقدام وإظهار المهارة في السباحة والغوص، وهو ما يدفع بطالبي الهدوء والراحة والنوم، إلى التوجه للطرف الآخر من «سيريجينا» أو تسلق بضعة درجات من السلك الحجري المؤدي للمنارة، والاختباء هنالك، أو حتى الاستلقاء على أحد المربعات الاسمنتية والصخرية المجاورة لجزيرة الملكة، على حدِّ تسمية الرومان.
وسجلنا نقطة سلبية لدى النزول على هذا المعلم الخلاَّب غير المعروف لدى الكثيرين، والذي ينتظر الاستكشاف والاستثمار على حدّ سواء، وهي رمي الأوساخ والقاذورات في كل مكان، حيث وصلت إلى المياه، ما يتهدّد الحياة البرية هناك، سواء للأسماك وحتى النباتات والطيور التي تقتات على ما تجود به الطبيعة، غير الملوَّثة، ما يستدعي الانتباه من قبل المصطافين ومحاولة التحلي بروح المسؤولية والمواطنة، وخاصة احترام البيئة، وتنظيف الصخور وحمل بقايا الأكل والمعلبات لدى مغادرة الجزيرة.
أشكال وألوان للأسماك والنباتات البحرية
و تعيش على ضفاف جزيرة «سيريجينا» أنواع مختلفة من الأسماك والنباتات والقشريات، بعدما وجدت بيئة خصبة أقرب إلى العذرية للعيش فيها وإيجاد كل ما تحتاجه، حيث تسبح أمام ناظريك أسماك صغيرة بألوان الطيف السبعة، وأخرى سوداء منبسطة الشكل، وغريبة لا تحبِّذ الاقتراب من الناس، سواء تلك باللون الأخضر العسكري أو الأخرى البرتقالية، كما توجد القشريات بكثرة، سواء ذات المخالب أو القنافذ البحرية، دون نسيان النباتات متعدِّدة الأشكال والألوان، أيضا، ما يعني أنَّ المكان لايزال يحافظ على نظافته وعذريته الطبيعية.
ويكشف صفاء مياه البحر بالجهة، أنواعا أخرى من الأسماك ذات الأحجام الكبيرة، ما يثير هوس وطمع الصيادين في استخراج أحسنها نوعا وشكلا، فيما تبدو الآثار المترامية تحت المياه المائلة للخضرة بوضوح تامّ، ومنها الحديد الملتصق بالصخور والمتآكل صدءا بعد أن قاوم الطبيعة وقساوة الماء والملح لقرون طويلة.
و اصطدمنا خلال زيارتنا لولاية سكيكدة، لإماطة اللثام عن جمال وإمكانيات الولاية، والمقومات الهائلة للإستثمار في الموارد الطبيعية والبشرية، على حدٍّ سواء، برفض مديرية السياحة منح أي إحصائيات وأرقام عن عدد السياح وكذا الاستثمار في المدينة السياحية بين الجزائريين والسعوديين، بجهة فلفلة، إلاّ من خلال توجيه طلب خطي لخلية الاتصال والإعلام التابعة للولاية، وهو ما تمَّ، دون تجسيد هذا التسهيل على أرض الواقع.تركنا «سيريجينا» خلفنا مغادرين نحو الديار، لسرد بعض ما رسخ في ذاكرتنا من جمال المكان وسحر الزمان والتاريخ الروماني والفينيقي، بالجزيرة، بعدما رفضت البوح لنا، مرة أخرى، بكل الأسرار والجمال والسحر الغامض على ما تقتضيه سجيتها، لعلَّ المستقبل سيفكُّ خيوط ألغازها للباحثين عن المتعة والآثار والسحر في جزيرة الجمال.
ف.خ

الرجوع إلى الأعلى