الدرمون.. قرية مترامية جغرافيا بين عاصمة الأوراس باتنة و عاصمة الزيبان بسكرة، ما جعلها ضحية متناقضات التقسيم الإداري، فالمنطقة تابعة لبلدية كيمل التي هي إحدى بلديات ولاية باتنة، غير أن التنقل إليها من باتنة يفرض المرور بولاية بسكرة عبر عدة بلديات بقطع مسافة 220 كلم.
روبورتاج: يـاسين عبوبو
الدرمون رغم وزنها التاريخي الثوري، يجابه اليوم سكانها عزلة و ظروف حياة صعبة وقفنا عليها خلال تنقلنا رفقة السلطات الولائية، حيث كانت هذه القرية أول محطة لوالي باتنة ضمن البرنامج الخاص باحتفالات عيدي الاستقلال و الشباب، و هناك وقف المسؤول على متطلبات السكان الكثيرة، ما جعله يؤكد على أن التكفل بها سيكون حسب الإمكانيات و الأولويات و في مقدمتها توفير الماء.
حصن الثورة المنيع و تاريخ بطولي حافل
يرتبط اسم الدرمون بإحدى أهم مناطق الأوراس التي اشتعلت منها شرارة الثورة التحريرية لأول نوفمبر 54، و كانت إحدى القلاع الحصينة للمجاهدين، حتى أن أب الثورة التحريرية الشهيد مصطفى بن بولعيد اتخذ منها موقعا هاما لضرب المستعمر الفرنسي، نظرا لحصانة المنطقة وشجاعة أهلها.
فقد أنجبت مجاهدين أشاوس ممن قدموا أنفسهم فداء من أجل استقلال الجزائر وكانوا أهل ثقة القائد مصطفى بن بولعيد خلال التحضير للثورة و بعد اندلاعها، و تضم المنطقة معالم شاهدة على تاريخ ثوري حافل، منها المستشفى العسكري الذي أقامه المجاهدون و محتشدات تشهد على بشاعة جرائم المستعمر الذي كان ينتقم من سكان المداشر بالحرق و التهجير.
التاريخ الثوري لمنطقة كيمل التي تضم الدرمون، جعلها تُلقب و تُعرف بكنية كيمل العظيم، وهذا لما أبداه مجاهدوها من بسالة وشراسة ضد المستعمر الفرنسي الذي تكبد خسائر بالمنطقة التي استعصت عليه، حتى أن المجاهدين استطاعوا بوسائل بسيطة إسقاط طائرات عسكرية، منها حطام طائرة يتواجد حاليا كمعلم تاريخي ببهو ساحة مقر ولاية باتنة، وقد استعصت المنطقة على المستعمر الذي لجأ إلى سياسة الحرق وعزل السكان عن الثوار والانتقام منهم، ورغم ذلك لم تتمكن القوت الاستعمارية من إخماد ألسنة لهيب الثورة بمنطقة كيمل.
ومما جعل كيمل منطقة خلفية للثورة قبل وبعد اندلاعها، هو غطاؤها الغابي الكثيف، حيث تضم كيمل ثاني أكبر غابة بالجزائر وهي رئة منطقة الأوراس، وتُجمع شهادات مجاهدين بأن تضاريس المنطقة الوعرة كانت من بين العوامل التي جعلت أب الثورة التحريرية مصطفى بن بولعيد يختارها إحدى أهم مراكز الثورة، فضلا عن بسالة و شجاعة أهل قبائلها و أعراشها على غرار السراحنة و الشرفا.
غابة كيمل مكنت حصانتها الطبيعية أهلها من الاختباء فيها بعد اندلاع الثورة، هروبا من بطش المستعمر وانتقامه ولمساندة المجاهدين الثوار، خاصة وأن المستعمر وعقب اندلاع الثورة، عمد إلى إنشاء سجن للنساء والأطفال هو الأول من نوعه الذي يخصص لفئة النساء، ويعكس بشاعة جرائم الاستعمار التي يرويها أهل المنطقة خاصة ممن عايشوا تلك الفترة، منها ما هو مدون في كتب ومراجع تاريخية، حيث فضل السكان العيش في الغابة بعيدا عن أعين المستعمر، الذي أحرق ودمر جل قرى ومداشر كيمل بما فيها المتواجدة بالدرمون.
و ناهيك عن كون  كيمل إحدى أهم قلاع الأوراس والمحطات التي انطلقت منها الأفواج الأولى لتفجير الثورة التحريرية، فهي من أولى المحطات لانطلاق المجاهدين لجلب السلاح من الخارج، ونظرا للدور الهام والبارز الذي لعبته المنطقة ومجاهدوها وسكانها في الثورة التحريرية، فقد كان يُطلق عليها خط النار بعد أن عجزت القوات الاستعمارية الفرنسية عن اختراقها.
مسلك جبلي مهترئ يعزل الجهة لسنوات
تعد بلدية كيمل أكبر بلدية بولاية باتنة من حيث المساحة الجغرافية، وهي تقع بأقصى الجهة الجنوبية من الولاية، حيث يحدها من الجهة الشمالية والشرقية بلديات ولاية باتنة، في حين يحدها غربا بلدية لمسارة بولاية خنشلة وجنوبا بلدية زريبة الوادي لولاية بسكرة، وموقعها الجغرافي لا يعكس توافقها وتقسيمها الإداري، وهو ما جعل أحد مرافقينا من العارفين بالمنطقة خلال تنقلنا إلى الدرمون، يُعلق بالقول إن الدرمون قرية قلبها بباتنة في حين أن جسدها ببسكرة، فالقرية وإن كانت تابعة لولاية باتنة، فالتنقل إليها يكون عبر دخول إقليم ولاية بسكرة عبر ثلاث بلديات بولاية باتنة، وخمس بلديات بولاية بسكرة بقطع مسافة 220 كيلومترا.
والتنقل إلى الدرمون عبر إقليم ولاية باتنة متاح عبر مسلك جبلي على مسافة 95 كلم، غير أن الطريق مهترئ وصعب، كما أن الوضع الأمني خلال العشرية السوداء، جعل من المنطقة ممرا للجماعات الإرهابية، وهو مازاد في عزلة المنطقة، لذا فإن سكان الدرمون اليوم يعيشون مفارقات تنموية لا تعكس تقسيمها الإداري، فالتنقل إليها من باتنة يكون بالمرور عبر أكبر دوائر ولاية بسكرة انطلاقا من القنطرة، فبسكرة عاصمة الولاية، فسيدي عقبة ثم عين الناقة، وبعدها زريبة الوادي والأخيرة تعد النقطة الأقرب إلى الدرمون، وهي المحطة التي شاهدنا فيها أول لافتة تشير إلى تواجد الدرمون على مسافة 22 كلم.
ومما لاشك فيه، أن التنقل إلى الدرمون متعب لكنه في الوقت نفسه شيق، يعكسه التأمل في شساعة المنطقة، ويتيح اكتشاف جمال مناظر طبيعية بتنوعها الجغرافي من جبال وغابات الأوراس، إلى مخانق القنطرة والتلال والصحراء، وقد استغرقنا في تنقلنا أزيد من ثلاث ساعات ذهابا ومثلها إيابا وقد تراءت لنا اللافتة باتجاه الدرمون بزريبة الوادي مشيرة إلى بعد المنطقة بـ22 كلم، وهي المسافة التي بدت إلى غاية وصولنا أن المنطقة جبلية جرداء، وبمدخل الدرمون القرية لاحظنا سكنات على شكل تجمع ريفي غير مكتملة البناء، تقابلها مزرعة مهجورة تبدو وأنها كانت مخصصة لتربية المواشي.

وقبل دخولنا التجمع السكني لقرية الدرمون، مررنا بثكنة عسكرية صغيرة أشارت إليها لافتة على الطريق تحذر من خروج آليات عسكرية، لنصل إلى القرية التي أول ما لمحنا بإطلالتنا عليها خزانا مائيا متواجدا بمرتفع، و قد كان بالنسبة لنا ذلك الخزان بمثابة مؤشر على أن الحياة تدب بالمنطقة، بعد قطعنا لمسافة طويلة كانت كل المؤشرات تشير خلالها لعدم تصور العيش في ظروف طبيعية قاسية.
شباب يشتكون شبح البطالة و زراعة التبغ ملاذهم الوحيد
بلغنا قرية الدرمون التاريخية رفقة السلطات العمومية الذين يتصدرهم والي باتنة الذي اختار أن تكون الدرمون أول محطة لإحياء برنامج احتفالات الخامس جويلية عيدي الاستقلال والشباب، نظرا لما تحمله المنطقة من رمزية تاريخية وفي الوقت نفسه للتكفل والنظر في انشغالات السكان، حسبما أكده الوالي عبد الخالق صيودة.
و قد كانت المناسبة فرصة لممثلين عن المنطقة لطرح انشغالاتهم و مطالبهم التي تعددت و تنوعت، وفي مقدمتها فك العزلة التي كرستها المفارقة في كون القرية تابعة لولاية باتنة إداريا، في حين أن سكانها يعالجون و يدرسون و يقضون مختلف حوائجهم ببسكرة.
تحصي قرية الدرمون حسب بعض السكان الذين تحدثنا إليهم، أزيد من مائة عائلة، وقد عبَر لنا هؤلاء عن معاناتهم في العيش بالقرية، نظرا لافتقادها لعديد المتطلبات وفي مقدمتها الماء، حيث يشتكون أزمة عطش زادت في حدة عزلة الطبيعة وقساوتها عليهم، وقالوا بأنهم يتزودون بصفة غير منتظمة ويطول تموينهم بالمياه عبر الشبكة.
وأشار محدثونا إلى انعدام الخدمات الطبية على مستوى قاعة العلاج بالقرية، واقتصار نشاطها على تقديم حقن بسيطة من طرف الممرض الوحيد المتواجد بها، وأكدوا على أنهم اضطروا في حالات عديدة للسع العقربي، للاستعانة بأفراد الجيش بالثكنة القريبة بالقرية من أجل تقديم الإسعافات للمصابين و نقلهم إلى زريبة الوادي البلدية الأقرب إليهم، و قالوا بأن غياب سيارة إسعاف يزيد من معاناتهم، و تحدث هؤلاء عن انعدام مرافق الترفيه مشيرين إلى تواجد قاعة نشاطات أبوابها موصدة.
و يطالب السكان بتوسيع شبكة الربط بالكهرباء إلى القرية و ما جاورها، على غرار منطقتي لبعل و تاغليسية، و بتوفير المياه لتشجيعهم على ممارسة النشاط الفلاحي، ومن بين أبرز المطالب التي يطرحها السكان و خاصة منهم الشباب توفير فرص العمل، حيث اشتكوا شبح البطالة، و هو ما عبَر لنا عنه عمر تابندرت البالغ من العمر 44 سنة أحد سكان القرية، و هو متزوج و أب لأربعة أطفال، حيث قال لنا بأن قساوة طبيعة المنطقة ساهمت في انعدام فتح آفاق للعمل، و أكد على أنه و غيره من قاطني القرية يلجؤون لنشاط زراعة التبغ الذي هو ملاذهم الوحيد، الذي وجدوا أنفسهم مجبرين على الاشتغال به لكسب قوتهم و هو ما أكده فريد و محمد أيضا من سكان الدرمون.
و في سياق توفير فرص العمل، طرح رئيس بلدية كيمل السابق خلال استماع الوالي لانشغالات سكان قرية الدرمون، سؤالا حول مصير مصنع القرميد الذي كان قد وعد أحد الخواص بإنجازه، و أضاف بأن المشروع كان بمثابة الحلم لشباب القرية من أجل امتصاص البطالة.
الشروع في تجسيد مشاريع و الطريق حلم السكان
زيارة والي باتنة عبد الخالق صيودة إلى قرية الدرمون، حملت معها مشاريع تنموية واعدة لفائدة السكان من أجل تثبيتهم و الاستجابة لمتطلباتهم، و كان ذات المسؤول قد وقف على معاناة المواطنين بسبب بعد المسافة بين القرية و التجمعات السكانية الأخرى، و هو ما جعله يؤكد على أن التكفل بالانشغالات سيكون حسب الأولويات و الإمكانيات المالية.
و كان الوالي قد قطع الطريق أمام أشخاص طرحوا مطالب، في حين أنهم لا يقطنون بالقرية، حتى أن مواطنين طالبوا بالسماح لهم بطرح انشغالاتهم بدل أولئك الذين لا يعيشون معاناتهم في القرية.
المسؤول الأول للهيئة التنفيذية و خلال زيارته لقرية الدرمون، أشرف على وضع حيز الخدمة للطاقة الكهربائية لفائدة 31 عائلة، عبر طول شبكة يتجاوز 1.5 كلم بتكلفة مالية تجاوزت نصف مليار سنتيم من ميزانية الولاية، و عاين أيضا مشروعا لإنجاز الإنارة العمومية بالتقنيات الحديثة التي تعتمد على ترشيد الطاقة بتكلفة مالية قدرت بنحو مائتي مليون سنتيم، كما عاين ذات المسؤول مشروع إنجاز ملعب معشوشب اصطناعيا بلغت نسبة أشغاله 30 بالمالئة، وهو المشروع الذي رُصد له غلاف مالي بـ700 مليون سنتيم و يُتوقع استلامه قبل ثلاثة أشهر.
و أعلن الوالي لدى وقوفه بالمدرسة الابتدائية بونخل أمحمد بقرية الدرمون، عن منح غلاف مالي بـ600 مليون سنتيم خصيصا لتهيئة المدرسة، و إنجاز مطعم لفائدة التلاميذ، كما قرر ذات المسؤول منح إعانات أخرى تتمثل في سيارة إسعاف، و جرار بصهريج، و إنجاز بئر ارتوازية، كما وافق على مطلب سكان قريتي لبعل و تاغليسية لتمديد شبكة الكهرباء الفلاحية لدعم الفلاحين.
و بخصوص العزلة و انعدام الطريق بين القرية و مقر البلدية الأم كيمل، فأقرَ الوالي بعدم توفر الغلاف المالي اللازم في الوقت الراهن لشق الطريق على مسافة 50 كلم، موضحا بأن المشروع يتطلب أموالا كبيرة، و أكد في المقابل من ذلك، على أنه وجه تعليمات لمصالح مديرية الأشغال العمومية، لتحيين دراسة المشروع قصد إنجازه تدريجيا عبر عدة أشطر.
ي.ع

الرجوع إلى الأعلى