سكان يهجرون قرى تنام على الكنوز بصحراء خنشلة

يعيش سكان قرى صحراء خنشلة حياة صعبة رغم ما تزخر به منطقتهم من مقومات سياحية وفلاحية مهمة، فانعدام التنمية ونقص المياه دفع بالكثير منهم إلى المغادرة نحو مناطق أخرى. وقد تضرّر النشاط الزراعي وأشجار الفواكه المعمرة بشكل كبير فلم تعد تعطي محاصيل جيدة كما كانت في السابق، في وقت تتعرض فيه آثار الحضارات القديمة التي مرت بالمكان إلى عمليات نهب كثيرة، يحرّكها الطمع في العثور على الكنوز.
روبورتاج: سامي حباطي
النصر قضت يوما من التجول بين قرى دوّار تبردقة جنوب دائرة ششار، حيث ما تزال البيوت المعلقة في الجبال والكثير من الخبايا الأخرى من الأسرار المتوارية خلف مشهد ريفي هادئ، في انتظار الكشف عنها واستغلالها كما يجب، بما تستحقه من دراسة وإعادة اعتبار لفتحها أمام السياح وخلق مصادر دخل جديدة تُخلّص السّكان من شظف العيش.
انطلقنا من وسط مدينة خنشلة حوالي الساعة الثامنة والنصف صباحا وكان معنا صحفيُّ النصر بالولاية عبد العزيز بوهلالة، حيث توجهنا نحو الجنوب إلى دائرة ششار على الطريق الوطني رقم 83 واستغرق الوصول إليها أكثر من نصف ساعة، ثم قضينا نفس المدة تقريبا من مقرّ الدائرة المذكورة إلى غاية دوار تبردقة بعد أن اتخذنا مسلكا آخر، لكننا قبل ذلك توقفنا لنقلّ معنا واحدا من العارفين بالمنطقة ويدعى عبد الصّمد شابّي من أجل أن يرشدنا إلى خبايا القرى الموجودة في المكان والمشيّدة بين الجبال الصخرية.
الدخول إلى الصحراء من بوابة التل
ويمثل تحوّل لون التربة إلى الاصفرار عند التوغل في الولاية جنوبا، واحدا من الأشياء التي تشد الانتباه خلال قطع الطريق المتعرجة نحو المنطقة المذكورة، حيث أوضح لنا مرشدنا بأننا صرنا في الصحراء في تلك اللحظة، أو كما تعرف في المنطقة ببوابة الصحراء. وقال نفس المصدر إن العمال بالمنطقة يتقاضون منحة الجنوب على عكس زملائهم العاملين بالتل، لأن ولاية خنشلة مقسمة إلى جزء صحراوي وآخر يقع في التل من جهة الشمال، ويسجل اختلاف في المناخ بينهما.
ولاحظنا في الطريق الكثير من السيارات التي تحمل ترقيم ولايات من خارج خنشلة، حيث أخبرنا مرشدنا بأن أصحابها متوجهون نحو ولاية الوادي أو بسكرة، لكون الطريق الذي يشق دوار تبردقة يقود إلى غاية الولايتين المذكورتين، في حين أكد بأن دائرة ششار شاسعة المساحة، فهي متاخمة لكل من باتنة وبسكرة، ثم الوادي وتبسة من جهة الشرق، فضلا عن أنها تشكل منطقة عبور بين الشمال والجنوب، خصوصا للمهربين الذين يتحركون في مسالك جبلية، بحسب ما أخبرنا به بعض المواطنين من المنطقة.
عندما بلغنا مرتفعا صخريا على ضفة الطريق طلب مرشدنا من السائق التوقف ليطلعنا على أمر. نزلنا عند رغبته وتبعناه إلى أعلى الصخور المطلة على هاوية سحيقة، توجد أسفلها قرية تبردقة، في حين يلاحظ أيضا من نفس الموقع بأن مدينة ششار موجودة خلفنا في مكان خفيض أيضا، ما يشير إلى أن الوصول إلى تبردقة يتطلب صعود الجبل ثم النزول مجددا إلى الأسفل. ويمكن من نفس الموقع مشاهدة وادي تبردقة الذي يقطع القرية، التي تبدو بدورها معلّقة على الصخور، كما تمكنّا من مشاهدة حركة لبعض السكان والشباب الذين يعرضون فواكه للبيع.
ضريح سيدي راشد في قلب تبردقة أيضا
دخلنا قرية تبردقة وكان بعض السكان ينظرون إلينا، قبل أن يتعرفوا على مرشدنا، الذي قادنا بين الدّور القديمة المشيدة على الطريقة التقليدية بالحجارة وخشب العرعار، لكنّ بعض السكان قاموا بترميم منازلهم باستعمال الطوب ومواد بناء جديدة. وصلنا إلى موقع كانت فيه خلال العهد الاستعماري بوابة القرية، وعلى إحدى حافتي المكان وجدنا كتابة باللغة الفرنسية دون عليها “ششار”، حيث أوضح لنا زميلنا في النصر بأن الكلمة بالأمازيغية وتعني “احذر من الأسد”، لأنها كانت قديما مكانا لتربية الأسود البربرية.
وفي أعلى مرتفع من القرية تظهر بناية كبيرة، جدرانها منجزة بالحجارة، بينما لا سقف لها، لكنها تحمل عبارة “بلدية تبردقة” بحروف كبيرة باللغة الفرنسية، وغير بعيد عنها توجد بقايا مسجد قديم يعود إلى الحقبة الاستعمارية وبُني بالحجارة لكنه نصف مهدم اليوم ومهجور أيضا. وقد أوضح لنا مرشدنا بأن تبردقة كانت هي عاصمة البلدية وليست ششار، مضيفا بأن الوصول إلى المسجد والبناية القديمة للبلدية يستغرق وقتا طويلا من المشي، في حين نحتت الطبيعة خلف البنايتين من الحجارة شكلا يشبه السفينة، ويمكن رؤيته من بعيد.
بعد الجولة بين المنازل توجهنا إلى ركن من القرية يوجد فيه ضريح لسيدي راشد، وقد أخبرنا مرشدنا بأنه سيدي راشد  الموجود في قسنطينة، لكن هذا الضريح مدون اسمه بحروف عربية ثم بحروف لاتينية وتحتهما تاريخ “ماي 1915”، وتعلوه قبّة صغيرة أسفلها حجر حفر بداخله فراغ مكعب من أجل وضع الشموع. ويوجد خلف الضريح منزل حجري يشغله سكان من القرية.
منازل قديمة ومزارع مهجورة
واصلنا تقدمنا نحو الجنوب تاركين قرية تبردقة خلفنا، حيث سرنا لمسافة قصيرة وبلغنا المنطقة المسماة ايمزَيّنْ، ثم واصلنا سيرنا بين الجبال الصخرية التي بدت تربتها كلسية بيضاء وخالية من الأشجار، قبل أن يعود اخضرار المزارع وأشجار التين والزيتون والعنب والرمان وغيرها من الفواكه الموسمية عند اقترابنا من القرية المسماة تاغيت. وقد أخبرنا بعض من تحدثنا إليهم بأن اسم القرية يختلط على كثيرين مع اسم منطقة تاغيت بولاية بشار.
في الطريق طلب منا مرشدنا التوقف ليرينا إحدى المزارع الموجودة على منحدر ينتهي إلى مجرى مائي، حيث دخلنا البيت الذي يعلو المزرعة فوجدناه مهجورا، فيما أخبرنا بأنه يعود لأقربائه، لكن لا يأتي أحد إلى المكان إلا نادرا. أما المزرعة فكانت غنية بعدة أنواع من الفواكه. وقد أخبرنا المعني بأنه جاء إلى البيت في إحدى المرات، فوجد بداخله عائلة جاءت من ولاية بسكرة وشغلته، مشيرا إلى أن كثيرا من العائلات الصحراوية تسافر شمالا هربا من الحر، ويتوقفون في هذه البيوت المهجورة للراحة، وأحيانا يقضون أياما بداخلها.

ويُلاحظ بأن البيوت المذكورة تعود إلى العهد الاستعماري أو قبله، بالنظر لهندستها البسيطة، كما أن أصحابها يقومون بتكديس الحجارة تحتها وفي العديد من النقاط الأخرى من المزارع المنحدرة من أجل منع التربة من الانزلاق. وعند عودتنا أدراجنا لمغادرة المزرعة مررنا ببيت آخر غير الذي دخلنا منه، وكان شاغرا أيضا، غير أننا لاحظنا آثارا للحياة فيه، فضلا عن أن وضعيته أحسن من الأول.
ويوجد بداخل البيت المذكور مرحاض تقليدي، ليس إلا عبارة عن ثقب في الأرض، بينما يتوسط البيت فضاء يبدو بأنه مستعمل لطهو الطّعام، ففي داخل الفجوة المخصصة لإشعال النار ما تزال بقايا فحم ورماد، في حين كُدست حزمة من الأخشاب اليابسة من أجل إشعالها، كما أن الغرفة الأساسية من البيت كانت مغلقة بالمفتاح، ما يؤكد بأن شخصا ما يزوره من حين لآخر.
قرية الزاوية يحميها ضريح سيدي مسعود الشابي
بعد منطقة تاغيت وصلنا إلى قرية الزاوية، وهي تحمل هذا الاسم نسبة إلى زاوية سيدي مسعود الشابي، وهناك أمضينا وقتا أطول في التجول في الموقع لما يحتويه من أشياء مثيرة للدهشة، فعند مرورنا بالسيارة لاحظنا على الجدران كتابات حائطية وردت فيها عبارة “الزاوية أمانة” و”المحافظة على الزاوية أمانة”، لكن من تحدثنا إليهم أكدوا بأنها ليست أكثر من عبارات تعود إلى الانتخابات المحلية الأخيرة. وقد وقفنا على عبارات أخرى تحث على الانتخاب على قوائم أحزاب معينة.
تقدمنا إلى أعلى القرية بين المنازل الحجرية الضاربة في القدم، إلى أن وصلنا إلى مكان عال فيها، وهناك وجدنا المسجد. عندما دخلنا إليه استقبلنا واحد من أحفاد الشيخ مسعود الشابي وهو القيّم على الجامع، كما أنه من أقرباء مرشدنا. دخلنا المسجد ومنه ولجنا إلى الجامع القديم الملاصق للمسجد الجديد، وفي أقصى ركن منه يوجد ضريح الولي الصالح. كانت الأرضية موحلة بسبب الأمطار الطوفانية التي عرفتها المنطقة قبل أيام فقط من تنقلنا إليها، كما أن السقف كان مخربا قليلا ولم يكن قادرا على حماية المكان، فقد تعرضت الزاوية قبل حوالي عشر سنوات إلى التخريب من طرف سلفيين، بحسب ما أكده لنا القيم عليها، في حين رأينا شاهد الضريح موضوعا على الأرض، كما نبه محدثنا بأنه يجري ترميم المعلم في الوقت الحالي.
دخلنا إلى الغرفة التي يوجد فيها قبر الولي، فوجدنا بأنه مغطى بستار أخضر، وعندما رفعناه لاحظنا غطاء خشبيا قديما عليه رسومات أزهار ونباتات، كما لاحظنا مجموعة من الشموع فوقه، بينما كان الضريح يعبق برائحة العنبر المتسربة من المسجد. وقد أوضح لنا محدثونا بأن هذا الغطاء الخشبي يعود إلى حوالي قرنين منذ وفاة الشيخ الشابي عام 1828.
وبجوار القبر المذكور يوجد قبر آخر، بينما يرقد في زاوية من نفس الغرفة شخص لم يكن اسمه على الشاهد. وبُنيت قبور أخرى بنفس المكان في غرفة مجاورة، حيث يعتقد السكان بأنهم سبعة أشخاص ويسمونها “السّبعة رقود”، كما غمرت الأتربة قبورا في المدخل أيضا.
وأدان من تحدثنا إليهم عملية التخريب التي طالت الضريح قبل سنوات، مضيفين بأن الشيخ المذكور جاء إلى منطقة تبردقة من مدينة توزر بتونس، وظل أتباعه يحجون إلى الزاوية طيلة عقود من الزمن، لكنهم اليوم لم يعودوا إلى زيارة المكان إلا نادرا. وأوضح قيم الزاوية بأن أتباع الشيخ في تونس أرادوا في وقت مضى نقل رفاة سيدي مسعود الشابي إلى توزر، لكن القائمين على الضريح في خنشلة رفضوا بشكل قاطع.
جدران القرية تحمل ندوب معركة العصفور ضد الاستعمار
بين يومي 24 و25 فيفري من سنة 1956، وقعت معركة كبيرة بين جيش التحرير الوطني والجيش الفرنسي في الجبل المسمى بالعصفور، وقد كانت تحت قيادة عباس لغرور، وهو مكان غير بعيد عن قرية الزاوية، كما أن عباس لغرور ومن معه من المجاهدين مروا بالزاوية خلالها، بحسب ما أخبرنا به السكان. وما زالت جدران الزاوية تحمل ندوب تلك المعركة، فقد أرانا قيّمها واحدة من الرصاصات الكبيرة ما زالت مغروسة في صخرة.
كما أن مرشدنا المنحدر من القرية قادنا إلى حديقة منزله، أين توجد إلى اليوم قنبلة لم تنفجر، بعد أن ألقتها طائرة فرنسية على القرية خلال نفس المعركة. وعلّم المعني مكان سقوط القنبلة بحجرين، في حين أوضح لنا بأنها مدفونة في الأرض إلى غاية اليوم.
قصص لصوص اغتنوا من نهب الآثار
تنام قرية الزاوية على المنازل الرومانية القديمة، ومن المرجح أنها كانت في القديم مدينة قائمة بذاتها، ففي مدخل الضريح توجد صخرة كبيرة مستطيلة الشكل نقشت عليها فقرة كاملة باللغة اللاتينية، بالإضافة إلى الكثير من أجزاء الأعمدة وتيجانها الموضوعة على الأرض، كما أن ضريح سيدي مسعود الشابي، مشيد بالأعمدة الرومانية القديمة. وحال جميع أجزاء القرية لا تختلف عن الضريح، فجدران وأساسات جميع المنازل الحجرية تحتوي على الأحجار الرومانية، ومنها ما يحمل أشكالا وزخارف، بينما الأخرى عادية. وحتى داخل المدرسة الموجودة في القرية يوجد عمود عليه تاج مزين بأشكال معقدة.
وشاهدنا في جولتنا بالقرية أيضا بئرا تعود إلى الحقبة الرومانية وما تزال مستعملة من السكان إلى اليوم، بالإضافة إلى حجر أخرجته السيول من تحت الأرض في إحدى الحدائق، حيث يحتوي على شكل النصف العلوي من جسم رجل وتحته كتابة باللغة اللاتينية، فيما يبدو بأنه شاهد لقبر. وأخبرنا سكان القرية بأن السيول غالبا ما تجرف الأوحال وتؤدي إلى ظهور قطع نقدية من العهد الروماني وكانت مدفونة تحت الأرض.
ويتداول الكثير من السكان في هذه المناطق قصصا عن أشخاص استحالوا أثرياء بعد أن عثروا على الذهب وكنوز أخرى من الحقب الغابرة على غرار التماثيل، كما أنّ الكثير منهم يعتقدون بأنّ مَردة الجنّ يحرسون هذه الأشياء الثمينة، لذلك يستعين ناهبو الآثار بالسحرة أو الرقاة لطردها من المكان. ويتجلى هذا الوضع في الكثير من الحفر التي لاحظنا وجودها، وهي من مخلفات أشخاص ينبشون الأرض لنهب تاريخ شعب بأكمله مقابل بعض المال، حتى أنّ أحدهم استعمل ثاقب الأرض لتحطيم صخرة كبيرة اعتقد بوجود كنوز بداخلها، في حين حفر آخرون حفرة يفوق عمقها الخمسة أمتار. وقد أشار السكان إلى أن المعنيين يستخدمون جهاز الكشف عن المعادن في بحثهم.
أشجار زيتون من العهد الروماني
وتمثل أشجار الزيتون الضخمة واحدة من الأشياء العجيبة الموجودة في هذه القرى، وقد لاحظناها في قرية الزاوية، حيث يسميها السكان بـ”الزيتون الروماني”، لأنهم يعتقدون بأنها تعود لفترة الرومان، بينما لاحظنا بأن إحدى هذه الأشجار قد تمكنت من رفع صخرة كبيرة عن الأرض بقوة جذورها الممتدة في الأعماق.
واتجهنا إلى مكان قريب من الزاوية، فوجدنا فيه شجرة أخرى تعد الأكبر في المنطقة، حيث يصل قطرها إلى عدة أمتار، وهي موجودة في مزرعة قديمة تقع بالقرب من مزارع أخرى، لم نجد فيها إنسانا، إلا سيدة عجوز كانت ترعى قطيعا صغيرا من الغنم، واختفت بين الأشجار عند رؤيتنا. وقد أخبرنا مرشدنا بأنه علينا الحذر من الخنازير البرية في المنطقة.
وما زال السكان ينتهجون أساليب قديمة جدا في عصر الزيتون، حيث يضعون معصرة مصنوعة من الأحجار، وتعمل بقوة الإنسان، إذ يجلس على جانبيها شخصان ويقومان بدفع حجر على شكل أسطواني بقدميهما لعصر الزيتون. كما لاحظنا صخرة كبيرة تعود إلى حقبة غابرة وكانت تستعمل في عصر الزيتون، ونُحت عليها مجرى للسوائل ينتهي إلى حفرة محفورة باليد ليتجمع فيها الزّيت، وربما تكون استعملت لعصر النبيذ من العنب أيضا.
بيوت معلقة في الجبال تُنسج حولها الأساطير
من الزاوية إلى تاغيت، توجد في الجبال بيوت منجزة في تجاويف الصخور، حيث بنيت جدران صخرية فيها نوافذ، لكن لا يستطيع أحد الوصول إليها لانعدام مسلك يمكن المشي عليه. وقد استطعنا التقاط صور لها باستعمال العدسة المُقرّبة لآلة التصوير انطلاقا من قرية الزاوية. وأخبرنا أحد سكان القرية بأنه تسلق إليها عندما كان شابا، ووجد بأنها مقسمة إلى غرف تتسع لشخصين وأخرى لشخص واحد، لكن لم يجد بداخلها شيئا.

انتقلنا إلى تاغيت بحثا عن صورة أقرب لهذه البيوت، فوجدنا أحد السكان أخبرنا بأن أهل هذه القرى يعتقدون بأنها تعود إلى عصور كانت تنتشر فيها الوحوش في المكان، ما دفع البشر إلى السكن في الجبال اتقاء شرّها. وروى لنا المعني نفس قصة الغرف المقسمة إلى صنفين، في حين قال إنه عثر حينها على نصف جرة تفوح منها رائحة زيت الزيتون.
وأخبرنا السكان بأن البيوت المعلقة المذكورة منجزة بخشب العرعار المعروف بقوته، حتى أنهم يتداولون عبارة تقول “إن العرعار يبقى حيّا بعد قطعه بأربعين سنة”، في حين ألصقت صخورها بحشوة من التبن والطين، التي كانت تستعمل قديما قبل اكتشاف الاسمنت والخرسانة. ولا تختلف طريقة بناء هذه البيوت المعلقة، عن الدّور التي يقطنها سكان القرى المذكورة، وتعود إلى ما قبل العهد العثماني.
ولاحظنا هذه الطريقة في البناء داخل تجاويف الصخور على طول الطريق، لكن في مناطق منخفضة، حتى أن بعض السكان ما زالوا يستعملون هذه الأماكن. وتوجد أسفل المنازل المعلقة بتاغيت مزرعة مشيدة بنفس الطريقة. وقد مررنا في طريقنا إلى آخر نقطة من رحلتنا على مكان يدعى “ياطوس”، وهو عبارة عن صخور كوّمتها الطبيعة فوق بعضها، في حين بني تحتها جدار لمنزل، يقال إن سيدة سكنت فيه ثم تزوجت وغادرت. وفي الجبل المقابل للمكان توجد صخرة على شكل خريطة الجزائر، أوضح لنا مرشدنا بأنه من قام بطليها بألوان العلم الوطني، لكنها انمحت بفعل عوامل الزمن.  
في هذا المكان كنا أعلى وادي بجّر، حيث شاهدنا بعض النسوة يقمن بغسل الملابس وسجادة كبيرة ويتبادلن الأحاديث، لكنهن كنّ بعيدات عنا كثيرا، كما لاحظنا نسوة أخريات يقمن بنفس العمل في نقطة أخرى من الوادي.
انعدام المياه يفتك بالفلاحة
واصلنا سيرنا نحو قرية العامرة، آخر نقطة من رحلتنا داخل ما يسميه أهل المنطقة بـ”دوار تبردقة”، لكن كلمات قيم مسجد الزاوية بقيت تتردد في أذهاننا، حول هجرة السكان بسبب انعدام التنمية، حيث أخبرنا بأن مدرسة القرية كانت تضم أكثر من 136 طفلا، ولم يعد فيها اليوم إلا حوالي 10 تلاميذ. عندما بلغنا قرية العامرة المعروفة بالشاي، توقفنا عند بائع، لنلتقي بأحد أعيان المنطقة.
وأخبرنا المعني بأن قرية العامرة لم تعد عامرة كما يدل عليها اسمها، حيث أرانا آثار فيضان الوادي والزرع الذي أهلكه، مشيرا إلى أن المشكلة الأساسية والوحيدة لسكّان المنطقة تكمن في انعدام الماء. وأضاف محدثنا بأن الكهرباء متوفرة كما أن الطريق الرئيسية معبدة، لكن النشاط الأساسي لسكان المنطقة هو الفلاحة، التي تضررت كثيرا بفعل انعدام المياه. وقال نفس المصدر إن السكان طالبوا عدة مرات من قبل بإنجاز سد أو بمساعدتهم على إنجاز أنقاب على مستوى أراضيهم ليتمكنوا من السقي، لكن هذا الأمر لم يتحقق إلى اليوم، مضيفا بأن السقي من وادي بجّر صار مضرا بمحاصيلهم، بعد أن حولته السلطات إلى مصب لمياه الصرف الصحي لدائرة ششار.
ونبه نفس المصدر بأنها ليست المرة الأولى التي تغمرهم فيها مياه الوادي المذكور، حيث أشار إلى أنهم يعيشون دائما بهذا الهاجس، ولا يمكن حل المشكلة إلا بإنجاز سد تنتفع منه المنطقة ومناطق أخرى، على حد قوله. من جهة أخرى، أكد لنا المتحدث بأن قرية العامرة، كانت تستقطب السياح الأجانب في الماضي، لكنها غدت اليوم تضيق بأهلها، حتى أن الكثيرين قد غادروها، ولم يبق فيها إلا بعض أصحاب البيوت الذين يزورونها لقضاء بضعة أيام، أو من الفلاحين الذين ما زالت أشجارهم صامدة. وتنعدم المسالك المُعبّدة بين بيوت هذه القرى المذكورة، حيث يمشي سكانها فوق أرضية ترابية، لكن القاطنين بها أخبرونا بأن قنوات الصرف الصحي موجودة في البعض منها.
س.ح

الرجوع إلى الأعلى