التعــايــش جـعـلنــــا جـزائـرييــــن بمـلامـــح مـختلفـــة!

بعد حالة العزلة التي عاشها الشعب الجزائري خلال تسعينيات القرن الماضي، بدأت البلاد تستقطب مع انفراج الأزمة الأمنية، الشركات الأجنبية التي سمحت بتواجد العديد من الجنسيات بالجزائر، و منهم هنود، أتراك أفارقة و صينيون، ليبقى الحضور الأكثر تأثيرا والأطول مدة، لأصحاب الأعين الضيقة، وهو ما دفعنا للقيام بروبورتاج لمعرفة أسرار وخبايا تعايشهم في المجتمع الجزائري.  
روبورتــاج: حاتم/ب
«كولوكولو»، «سكر»، «بانين»، «غارو»، «واش الهالة».. قد لا يفهم قارئ من هذه المفردات شيئا، لكنها كلمات باللهجة الجزائرية يستعملها الصينيون المتواجدون في مختلف ولايات الوطن، بعد أن قضوا ما لا يقل عن 15 سنة في مختلف المناطق، فأصبحوا يتحدثون بلهجاتها المحلية، و يتعايشون مع المواطنين بشكل عادي، و منهم حتى من دخل الإسلام، و أحب الأكلات التقليدية، بل و صاروا يزورون مختلف المعالم الأثرية والمناطق السياحية.
يرقصون على أنغام الراي ويعشقون «الشخشوخة»
بعد الاندماج غير العادي لأبناء القارة الصفراء في المجتمع الجزائري، دفعنا الفضول للتنقل إلى الأماكن التي يتواجدون فيها من أجل معرفة معلومات عن كيفية التعايش والانسجام في مجتمع متعدد العادات والتقاليد، و قد كانت بداية جولتنا بأحد المواقع التي يتمركز بها الصينيون في حي زواغي، حيث يعملون لحساب شركة تختص في الترميم وإعادة تشييد البنايات والطرقات بقسنطينة.
مهمتنا هنا كانت سهلة في الالتقاء بالأجانب الآسيويين بتواجد أحد العاملين الجزائريين، حيث تحدثنا مع أحدهم و هو إطار في المؤسسة، فسرد لنا البعض من مغامراته في الجزائر عامة وبقسنطينة خاصة، و من بينها تفاصيل حضوره لأحد حفلات الزفاف، مؤكدا أن البعض من أبناء بلده يتقنون الرقص على أنغام الراي، كما أنهم معجبون كثيرا بالأغاني المحلية، حتى أنهم يقومون بحركات أثناء الرقص لا يتقنها إلا الجزائري.
و أكد محدثنا أنه أعجب كثيرا بالأطباق المقدمة على غرار الشخشوخة، ما دفعنا لنسأله عن رأيه في الأكلات الجزائرية، التي تختلف كثيرا عما يأكله في بلده، فأوضح أنه يحب كثيرا الأطباق التقليدية مثل الكسكسي و الشخشوخة و العصبانة، مضيفا أنه يغتنم أية فرصة من أجل تناولها أثناء تلقيه دعوة من أحد الجزائريين. و بعيدا عن منازل الضيافة، يحب الرعية الصيني كثيرا تناول المحجوبة والشواء، أما في ما يخص التحلية، فإنه يختار دائما قلب اللوز والجوزية التي تعجب كل من يتذوقها.
«أعجِبت بالجزائر فتزوجت منها»
و أكد لنا جزائري يعمل كسائق في نفس الشركة، أن العديد من الصينيين القاطنين بولاية قسنطينة، دخلوا في دين الإسلام، حيث يقومون كغيرهم من المسلمين، بتطبيق كل الفرائض من صيام و صلاة وزكاة، كما يحتفل بعضهم بالمناسبات الدينية على غرار عاشوراء والمولد النبوي الشريف.
واصلنا رحلة البحث عن أصحاب الأعين الضيقة، وإذا بنا نلتقي بصيني كان يرتدي بدلة رسمية ويظهر أنه مسؤول كبير في هذه الشركة، فحاولنا الحديث معه، لكن تبين أنه لا يتقن كثيرا اللغة العربية، بل يعرف كلمات منها فقط، و الغريب في الأمر أنه متزوج من امرأة قسنطينية ويقطن بالمدينة الجديدة علي منجلي، و هو ما أكده لنا صهره الذي يعمل في ذات الشركة كسائق.
سألنا المسؤول الصيني عن كيفية التواصل مع زوجته، فرد بأنهما يتقنان اللغة الانجليزية إضافة إلى أنه يفهم لهجتنا ولكنه يجد صعوبة في التحدث بها، أما عن مدة تواجده في عاصمة الشرق، فأكد أنه يزاول عمله بها منذ حوالي 12 سنة، لذلك فضل الزواج بجزائرية بعد أن أعجب بالثقافة الجزائرية عامة والقسنطينية خاصة، وهو ما يعني أن هذه العائلة ستعيش على وقع ثقافات وعادات متنوعة، ليشكل أبناؤها مزيجا من بلدين مختلفين، بل من قارتين مختلفتين، وأضاف السائق الجزائري أن صهره مسلم ويريد تعليم أبنائه الإسلام والعادات العربية، لأن المجتمع الذي يعيش فيه سيفرض عليه ذلك.
واصلنا التوغل داخل تلك الشركة، وطلبنا مقابلة المسؤول وهو ما كان لنا، حيث صعدنا إلى مكتبه ووجدناه من جنسية صينية، سألناه عن وضعه في الجزائر وكيف وجد الحياة في بلد عربي ومسلم، ليجيبنا ساخرا «ربما أعرف الجزائر أفضل من الصين»، وأضاف محدثنا أنه قضى عدة سنوات في هذا البلد وتأقلم سريعا مع عاداته وتقاليده، كما أنه مطلع جيدا على المناسبات الدينية، و الاقتصاد الجزائري وذهنية المواطن وغيرها من الأمور التي جعلت منه لا يختلف عن الجزائري إلا من حيث الشكل وفقط.
محدثنا أخبرنا بحماس كيف أطلق النار بـ»الفوشي» في أحد الأعراس الجزائرية، مؤكدا أنه أعجب كثيرا بهذه العادة التي وصفها بالفريدة من نوعها.
يتقن اللهجة القسنطينية ويعرف المدينة أفضل من أبنائها

و قد لفت انتباهنا أحد المسؤولين بالشركة التي زرناها، بأنه يتقن جيدا اللهجة المحلية وكأنه جزائري، حيث كانت أول كلمة قالها، «سلام عليكم واش الهالة»، في البداية تفاجأنا ولكن مع مواصلة حديثه أيقنا أنه يجيد كل الكلمات الأخرى، بعد أن سألنا «واش تشربوا»، وهنا كان لا بد لنا أن نسأله، كيف له أن يتقن جيدا لهجتنا المعقدة والتي تعتبر مزيجا من عدة لغات، فأجاب أن مكوثه في قسنطينة ساعده على ذلك، كما أكد أنه يعرف كل أحياء المدينة بل مخارجها ومداخلها المختصرة، وخص بالذكر حي زواغي، المدينة الجديدة علي منجلي، شارع بلوزداد، سيدي مبروك وبوالصوف وغيرها.
لكن المفاجأة كانت في معرفته الجيدة بزاويا حي الكدية بوسط المدينة، بعد أن ذكر اسم «الصباط» وهو عبارة عن سلالم تؤدي من الحي السالف ذكره إلى شارع آخر يطلق عليه محليا اسم «لاريبانجي» و الذي لا يعرفه العديد من أبناء المدينة، وهنا تيقنا أنه قسنطيني بملامح صينية.   
«تعايش المجتمع الجزائري مع الأجانب أشعرني أني في بلدي»
أثناء مرورنا بمختلف أقسام الشركة الصينية وجدنا شابا جزائريا وهو في حالة هستيرية من الضحك برفقة أحد العمال الأجانب، حاولنا التقرب قليلا ليعم الهدوء على المكان، ثم علمنا من ذلك الشاب أنه كان يستمع إلى عامل صيني أثناء ترديده لكلمات جزائرية ولكن بلكنة صينية، ما جعلها تبدو مختلفة ومضحكة في نفس الوقت.
ونظرا للعلاقة المتينة التي علمنا أنها تميز الثنائي، سألنا الجزائري الذي يشتغل هو الآخر كسائق في الشركة، عن سر هذه اللحمة والانسجام، فرد بأنه يسافر كثيرا مع صديقه الصيني لمختلف ولايات الوطن، كما أنه يقضي عطلته في الصين ولمدة لا تقل عن شهر، حيث يتكفل بكل تكاليف الإجازة، هذا الرجل الصيني الذي يقوم بضيافة أحد العمال في كل عطلة، حتى أنه يجلب له هدايا ثمينة كلما أتيحت له الفرصة وهو ما جعل العلاقة بينها تتوطد، وكأنهما أصدقاء منذ الطفولة، على حد تعبيره.
في المقابل أوضح الصيني المرح، كما يلقبه زملاؤه، أنه أصبح يشعر وكأنه جزائري، نظرا للفترة الطويلة التي قضاها في بلادنا، مؤكدا أنه عاش هنا أكثر مما أمضاه في بلده الحقيقي، كما أوضح أنه يعيش على الطريقة المحلية و بأنه اندمج جيدا في المجتمع، رغم الصعوبات التي وجدها في البداية، ليخلص في الأخير إلى أن المجتمع الجزائري تقبل فكرة التعايش مع الأجانب بمرور الوقت، حتى أصبح يحس وكأنه يعيش في بلده ووسط عائلته وأصدقائه.
تاجرة صينية تعامل الزبائن على الطريقة الجزائرية
و يعرف كل من سكان وسط مدينة قسنطينة، سيدة صينية تملك محلا في شارع بلوزداد لبيع الألبسة والأحذية الصينية، حيث قررنا دخول المحل على أننا زبائن، ثم حملنا أحد المنتجات بين أيدينا واستفسرنا عن سعره فردت باللهجة الجزائرية أن ثمنه 2400 دج، عقب ذلك جلسنا وقمنا بتجريب حذاء وبعد أن وجدناه مناسبا، طالبنا بتخفيض السعر قليلا، وهنا كانت الصدمة عندما ردت علينا بطلاقة قائلة «والله مافيهاش، هاديك هي السومة»، وكأنك تتحدث إلى تاجر جزائري، فحتى المعاملات وطريقة الرد أصبحت نفسها. ورغم إلحاحنا، إلا أن التاجرة أصرت على عدم تخفيض السعر، وهو ما جعلنا نفهم السر من وراء نجاح أبناء القارة الصفراء في نشاطهم التجاري بالجزائر.
«جزائريون بملامح صينية معا للتعايش بسلام»، بهذا الشعار أنهينا رحلتنا وكلنا سعادة بما عرفناه عن تواجد الصينيين في بلادنا، و تأقلمهم مع المجتمع الجزائري الذي أحسن استقبالهم و ضيافتهم لعدة سنوات.
 ح/ب

الرجوع إلى الأعلى