الإهمال يغرق رحبة الصوف و مبانيها تتعلّق بقشة التجارة
تقود كل الدروب و الممرات و الأزقة و السلالم في قسنطينة القديمة إلى رحبة الصوف، تحت جناحها تحتمي روح المدينة القديمة، هربا من شبه الهجران، بعدما سرقت منها المدينة الجديدة علي منجلي، غالبية سكانها و تجارها، عدا بعض الأوفياء أو أولئك الذين أسقطتهم قوائم الترحيل، و لا يزالون متعلقين بقشة التجارة الناشطة نوعا ما في الدكاكين وعلى طاولات الأرصفة، بينما تغرق البنايات والمنازل في الإهمال و تعريها فصول الشتاء المتعاقبة، التي تسقط شرفاتها يوما بعد يوم، منذ 161سنة، أي منذ آخر عملية تهيئة حظيت بها الرحبة سنة 1857 .
روبورتاج: نورالهدى طابي
رحبة السوق
تغزو الرحبة اليوم طاولات الباعة ممن يعرضون كل شيء ، عدا الصوف وهو المنتج الذي ارتبط اسمه بالمكان، سألنا بعض سكان الحي عن السبب،  فوجدنا روايات متضاربة، القليلون ممن يملكون خلفية عن تاريخ الحي، أكدوا بأن تسمية رحبة الصوف محرفة، و هي في الأصل «رحبة السوق»، فالمنطقة كانت و لا تزال عبارة عن سوق متشعبة، عرفت قبل سنة 1857، بكثرة دكاكين البرانيس و بعض محلات الصوف وصناعة المفروشات، أو كما يعرف بالعامية القسنطينة « الطراحين»، فضلا عن انتشار باعة خيوط الذهب و الحرير و مستلزمات الخياطة، خصوصا على مستوى ممرات زنقة مقيس، لذلك كانت الرحبة مقصدا للنساء ، بينما يفضل الرجال رحبة الجمال، وعليه فقد سميت الرحبة بسوق النساء، كما أخبرنا أحد أبنائها وهو الحاج عبد الوهاب شريط.
محدثنا أشار إلى أن رواية أخرى تقول بأن المنطقة التي تعد امتدادا للحي العربي، كانت تتوسطها منصة كبيرة ينشط فيها الباعة صباحا،  و تعرف نشاطات ترفيهية و استعراضات بعد الظهر،  و قد عرفت بالسوق العربي، رغم وجود العديد من اليهود الذين سكنوا المنازل القريبة منها و مارسوا التجارة في دكاكينها، بينما اشتهرت نساؤهم بصناعة المعجنات التقليدية، إذ كن يجلسن، كما قال، عند عتبات منازلهن ليحضرن «الجريتلية» خلال مساءات الصيف الحارة.
و تعد الفرضية الثانية الأقرب للتصديق، حيث تتدعم بوصف لرحبة الصوف في كتاب « قسنطينة رحلة و إقامة»، للكاتب الفرنسي لويس ريجي،  وقد جاء فيه، بأن منصة حجرية كانت تتوسط الرحبة وكانت تعرف بسوق العرب، و أن المكان كان يشهد بعض الاستعراضات من حين إلى آخر، وقد كانت أشهر نشاطاته بيع الخضر والفواكه و تخزين القهوة ، بالإضافة إلى صناعة الفضة و تجارة الذهب و عدة الخياطة، و بيع ماء الورد و ماء زهر البرتقال، و الأقمشة و غيرها من النشاطات.
« لابلاس دي غاليت» قصة البيتزا و خبز الدار
من زار الرحبة لا بد وأنه وقف يوما أمام إحدى طاولات البيتزا المطهوة على الجمر،  أو ما يسميه القسنطينيون « خامج و بنين»،  لكونها معروضة في العراء، وربما تذوق قطعة منها،  أو من خبز الدار و الشريك اللذين يعرضان ابتداء من الظهيرة. والسر في انتشار تجارة هذه الأطعمة التي تعد قوت التجار و الباعة و الزوار و نكهة الحي الخالصة، يكمن،  حسب  عبد الوهاب شريط، في كون الرحبة كانت تتوفر سابقا على عدد من الأفران المختصة في تحضير و طهي الخبز التقليدي أو « الكسرة» التي تشبه إلى درجة قريبة تلك الأفران التي تصورها الدراما الشامية في المسلسلات، ولهذا فقد أطلقت فرنسا الاستعمارية على رحبة الصوف سنة 1857 ، اسم « لابلاس دي غاليت « أو ساحة الكسرة، عقب إعادة تهيئتها لتتخذ شكلها الحالي، مع تغييرات بسيطة، و أما أشهر من صنع بيتزا رحبة الصوف،  فهو المدعو بوعكاز، بينما اشتهرت الهريسة الحلوة على يد عمي بوجديان، واليوم أحلى ما في الرحبة زلابية عمي رابح.
 يقول السيد بن لمنيعي و هو أحد الصاغة القدماء بزنقة مقيس، « فرنسا أعادت تهيئة الرحبة وهي تحافظ اليوم على المخطط العام الذي ضبط لها، ما اختفى هو مفتشية الشرطة التابعة للقطاع الحضري الثاني التي كانت قرب درب الرصيف، و أغلقت سنة 1956 ، بعد مقتل مسؤولها المفتش «كوس سان مارسوليه»،  كما اختفى مسجد رحبة الصوف الذي أزالته فرنسا، و شيّدت على عقاره المستشفى المدني الذي تم افتتاحه سنة  1855، إضافة إلى مضخة البترول التي كان يمتلكها أحد اليهود و تحولت الآن إلى بازار يعرف ببازار المنارة، ويوجد على بعد خطوات قليلة من مركز سوق الخضر،  وهو اليوم «ساباط» يبيع مستلزمات الطرز و الخياطة، أما المفرغة القديمة فكانت على يمينه.
«الجزوة» نوستالجيا الزمن الجميل
يواصل محدثنا الحديث عن الزمن الجميل لرحبة الصوف، فيخبرنا بأن ما بقي منه هو خيط رائحة ينبعث من «مقهى الجزوة» ،  والتي يمكن اعتبارها أول مقهى استوعبت الفن والفنانين في النسيج الاجتماعي القسنطيني أيام حكم صالح باي  من   1770 إلى 1792 ، و الجزوة هي القهوة التركية السوداء التي تحضر من البن الخالص و تطهى مباشرة مع السكر، و قد كانت رحبة الصوف تتوفر على ثلاثة مقاهي،  أشهرها عبد العزيز بو اللبن المتواجد في ساباط «باشتارزي» قرب حمام بن ناصف ، إضافة إلى مقهى حباطي و مقهى الجزوة بوشريط، قرب متوسطة محمد الزاوي، الوحيد الذي لا يزال يمارس هذا النشاط اليوم.
من جهته تحدث عبد الوهاب شريط، عن شتاء و صيف الحي قديما، فقال « في فصل الشتاء كان المكان  يجمع بائعي الكستناء و البطاطا الحلوة والبلوط و الحلويات الشعبية ، التي عشقها تلاميذ المدارس. أما الربيع فهو موسم زهر البرتقال و تقطير الورد ، وخلال الصيف لا أزال أذكر أكشاك المثلجات و باعة  «السيطرو»  المشروبات المنعشة المبردة ، مع كتل الجليد، في الوقت الذي لم تكن فيه ثلاجات».
ماكياج يغطي شحوب بنايات تتهاوى
رحبة الصوف لا تستيقظ باكرا، و الحياة فيها لا تبدأ قبل الساعة العاشرة صباحا، وإن حدث و مررت من هناك قبل ذلك، ستصدم لحجم الخراب الذي حل بالمباني، و سيعتريك شعور بالاغتراب، فالمكان لا يشبه نفسه، هدوء الصباح و وحشته يعريان الحي و يكشفان عن بشاعة الوضع الذي آل إليه، فجل المنازل آيلة للانهيار و هندستها الجميلة مشوهة، نوافذها الخشبية أزيلت و أغلقت و استبدلت بالآجر و الإسمنت، الزخرفات اليهودية عند مدخل مقعد الحوت بقيت وحدها شاهدة على جمال الهندسة العامة للحي، بالمقابل انهارت بعض المنازل ذات التاريخ الثوري كدار «الرواشي» بشارع بن يمينة، أين كان المجاهدون و الفدائيون يتجمعون و يختبئون، الجمعية القرآنية « فتح الله» المتواجدة عند مدخل مقعد الحوت و التي علمت الأجيال، أغلقها الورثة وهي « حبوس» حاليا ، أما زنقة «العظامة» أو باعة البيض و العصافير،  فلم يعد لها وجود.
إحساسك بأن الخراب يحيط بك، يبدأ في التلاشي تدريجيا،  بمجرد أن تدب الحياة في دكاكين و محلات الذهب و الأقمشة و تعود طاولات الباعة الفوضويين المنتشرة وسط الحي للنشاط، و تبدأ أصوات باعة الأحذية الصينية و مواد التجميل المقلدة و «الشريك» و القناوية و  عجين القطائف أو الشعرة و البيتزا في التعالي، لتعود و تندمج مجددا في نمط الحياة السريع الصاخب و تغطي ضوضاء التجارة شحوب العمارة المتهالكة، التي لم تسلم منها سوى بعض المنازل و الحمامات القديمة التي حولت إلى بازارات عصرية، تختص ببيع الملابس النسائية و الأحذية.

رحبة الأحياء و قلب المدينة النابض
خلال جولتنا في رحبة الصوف و سؤالنا للكثير من التجار و السكان عن تاريخها، لاحظنا بأن الحي يعيش غربة حقيقية،  فمن النادر أن تجد من لا يزالوا يتذكرون ماضيه أو يعرفون شيئا عنه، فغالبية أبنائه رحلوا إلى المدينة الجديدة، أما كبار السن فرحلوا إلى الأبد.
يقول السيد عبد الوهاب، الرحبة كانت و لا تزال قلب المدينة النابض كل الدروب تصب هنا،الحي توسع و أصبح يضم جهتين، الأولى سفلية تبدأ من حدود مدرسة «جول فيري»، إلى غاية الساحة الرئيسية ، أين كان سوق الخضر و الفواكه قديما و تضم زنقة مقيس و ساباط باشتارزي، أما الرحبة العلوية، فتبدأ من السوق العربي، مرورا بمقعد الحوت،  نزولا إلى الشارع، وصولا إلى ربعين الشريف.
القادمون من شارع فرنسا يصلون دوما إلى الرحبة، و إليها أيضا يحج القادمون من شارع العربي من مهيدي أو طريق الجديدة، هي تماما كطائر يفرد جناحيه، لها تاريخ كبير ، فقد عرفت بمسجدها الكبير و زاويتي باشطارزي وبن عبد الرحمان، إضافة إلى مدارسها، على غرار مدرسة علي خوجة التي أصبحت تعرف بمدرسة ولد علي، وهي أيضا حي العائلات الكبيرة من أشراف قسنطينة الذين تطلق ألقابهم اليوم على بعض الدروب و الساباطات، فعائلة بن شريف عرفت في ميلة الصغيرة، و اشتهر سيدي بوعنابة باسم عائلة بلبجاوي، أما البطحة، فهي حي عائلة بن الشيخ لفقون، و قد استوطنت عائلة بن السقني في سيدي جليس.
يضيف محدثنا، قبل سنوات قليلة كانت الرحبة محاطة بما يشبه السياج، و لها أبواب تفتح بعد الفجر و تغلق بعد صلاة العصر مباشرة، أما اليوم فقد استباح الإهمال و أصبحت مهددة بالزوال كليا، خصوصا إذا ما نفذ قرار وقف النشاط التجاري في المنطقة.               
هدى طابي

الرجوع إلى الأعلى