منطقــة العلـمــة مهـد ثــان للبشريـــة

أثارت نتائج الدراسة التي نُشرت أول أمس الخميس، في الدورية العلمية الأمريكية «ساينس» حول عمر آثار الأدوات الحجرية المكتشفة بمنطقة عين بوشريط بدائرة العلمة في ولاية سطيف، والمقدر بمليوني و400 ألف سنة، وسائل الإعلام والباحثين عبر العالم، فقد فتحت الباب واسعا أمام فرضيات جديدة وتساؤلات عن مهد ثان للإنسانية في شرق الجزائر، بعد أن كان يُعتقد إلى غاية نشر المقال، بأن سلسلة إنسان الهومينين الذي بدأ في استعمال الأدوات الحجرية تنتهي إلى ما اكتشفه العلماء في منطقة غونا بإثيوبيا وتعود إلى مليوني و600 ألف سنة.
جمع وترجمة: سامي حباطي
اعتبر العلماء من قبل الآثار الحجرية المكتشفة في منطقة عين لحنش بدائرة العلمة، وغير البعيدة عن حيز عين بوشريط، الأقدم في شمال إفريقيا، حيث تعود إلى مليون و800 ألف سنة، بفارق زمني مقدر بحوالي 600 ألف سنة مقارنة بالآثار المعثور عليها في إثيوبيا. وجاء في مقدمة المقال الذي نشره فريق البحث عن أقدم تعمير بشري لشمال إفريقيا الذي أنجز الدراسة بإشراف المختص في الآثار، محمد سحنوني، أن «معظم علماء الأنثروبولوجيا القديمة يعتقدون بأن إنسان الهومينين ساح في شمال إفريقيا في وقت لاحق جدا، فيما مدّد البحث على مستوى موقعي عين لحنش والخربة بشرق الجزائر تاريخه إلى 1.8 مليون سنة، لكننا استكشفنا، مؤخرا، موقع عين بوشريط القريب وتوصلنا إلى دلائل من خلال الأدوات الحجرية لحقبة الأولدوان وآثارها على العظام الأحفورية المستخرجة من طبقات خاصة ويقدر عمرها بما بين مليون و900 ألف سنة إلى حوالي مليوني و400 ألف سنة».

إنسان عين بوشريط الأول قطّع الزرافات والفيلة بفؤوس حجرية
وأضاف أصحاب المقال بأن «عمر الأدوات المستخرجة من موقع عين بوشريط قد حُدّد بالاعتماد على التصوير المغناطيسي الطبقي والرنين الإلكتروني المحوري وكرونوبيولوجيا الثديات»، حيث شرح المعنيون المختصون في كل من علم الآثار والجيولوجيا والأنثروبولوجيا، الطريقة التي توصلوا عبرها إلى تحديد عمر هذه الآثار بدراسة الموقع من عدة جوانب من بينها الجيولوجية. وتعود العظام المجمعة من طرف العلماء المذكورين إلى حيوانات منقرضة في المنطقة على غرار الفيل وفرس النهر ووحيد القرن والزرافات، بالإضافة إلى الخنازير والأحصنة، حيث استعملها الباحث المختص في التاريخ القديم جان فان دير ماد من المتحف الوطني للعلوم الطبيعية بمدريد من أجل تثبيت التواريخ التي حددت من خلال التأريخ المغناطيسي، ودراسة آثار التقطيع الناجمة عن الأدوات الحجرية والموجودة عليها.
ولفت المختصون في المقال إلى أن الأدوات الحجرية المستخرجة من عين بوشريط قد صنعت من الحجارة الكلسية والصوان المتوفرة في المنطقة وحولت إلى فؤوس صغيرة متعددة الوجوه وشبيهة بالكرة، بالإضافة إلى أدوات ذات حواف حادة، استخدمت لتقطيع جثث الحيوانات. وأكد المختصون بأن هذه الأدوات تعود بشكل قطعي إلى تكنولوجيا الفترة الزمنية المعروفة بالأولدوان، التي عرفت في مواقع أثرية بشرق إفريقيا ويقدر عمرها بما بين مليون و900 ألف سنة إلى مليوني و600 ألف سنة، رغم تأكيدهم في المقال على بعض الاختلافات التي تميز الآثار المستخرجة من منطقة عين بوشريط.

ويقول البروفيسور محمد سحنوني في هذا الشأن أن «الصناعة الحجرية في عين بوشريط، والتي تشبه المكتشفة في منطقتي غونا بإثيوبيا وأولدواي بتنزانيا، تظهر بأن أسلافنا قد انتشروا في مختلف أرجاء إفريقيا، وليس في شرقها فقط. الدلائل المستخرجة من الجزائر تلغي تصورنا السابق عن شرق إفريقيا بأنها مهد البشرية، بل كل القارة الإفريقية، في الحقيقة، هي مهد البشرية». ونقل موقع مجلة «ساينس دايلي» تعليق الباحثة إيزابيل كاثيريس المشاركة في الدراسة، بالقول «إن استعمال الأدوات ذات الحواف الحادة في عين بوشريط يرجح بأن أسلافنا لم يكونوا مجرد آكلي جثث، فليس من الواضح إلى الآن إن كانوا يصطادون، لكن الدليل يظهر بشكل واضح أنهم كانوا يتنافسون مع آكلات اللحوم».  

صانع الأدوات الحجرية ما يزال مجهولا
وتختتم المجلة مقالها عن الاكتشاف بالسؤال عن الإنسان الذي قام صنع هذه الأدوات الحجرية المكتشفة في الجزائر، حيث أوردت بأنه لم يعثر إلى اليوم على بقايا إنسان الهومينين، أول من صنع الأدوات الحجرية، في شمال إفريقيا، كما لم يُحدَّد أي رابط وثيق بين الهومينين والأدوات الحجرية التي وجدت في شرق إفريقيا. ومع ذلك، فإن اكتشافا أخيرا في إثيوبيا أظهر تواجد إنسان الهومو، وهو الإنسان الأول الذي تفرعت منه الأنواع الأخرى ولم يبق منها إلا الهوموسابيان أو الإنسان الحالي، في حين يعود عمر هومو إثيوبيا إلى مليوني و800 ألف سنة ويرجح بأنه صاحب الأدوات المكتشفة في شمال وشرق إفريقيا.
ويقول الباحث سيليشي سيماو المشارك في تحرير المقال بدورية «ساينس»، «إن بشر الهومينين المعاصرين للوسي قبل 3 ملايين ومائتي ألف سنة، قد جالوا في الصحراء، فيما يرجح أن «مسؤولية هذه المتاهة التي قبضنا على طرف منها في الجزائر تقع على عاتق ذريتهم، وهم معاصرون تقريبا لنظرائهم في إفريقيا الشرقية».  وقد فُتح الباب واسعا أمام هذه التساؤلات بعد أن دحض اكتشاف نوعين من الهومينين، يعود أولها إلى سبعة ملايين سنة والثاني إلى حوالي 3.3 مليون سنة في صحراء تشاد، نظرية أن يكون أصلهم من «وادي الصدع العظيم» بإفريقيا الشرقية.
اختلاف حول أصل تقنيات صناعة الأدوات الحجرية
وقد أكد محمد سحنوني رئيس فرقة البحث بأن الدراسة ستركز مستقبلا على البحث عن عظام بشرية بالقرب من المواقع الأثرية للحقب المذكورة، سعيا إلى العثور على صانعي هذه الأدوات، وحتى عن أدوات أقدم منها في المنطقة.
ونقلت مجلة «الطبيعة» بأن فريق البحث قد قضى ثمانية أعوام في عملية استخراج هذه الآثار من موقع عين بوشريط، كما أوردت تصريح المختص في التطور الإنساني بالمتحف الوطني في لندن، كريس سترينغر، حيث قال «يبقى أن نحدد ما إذا كان هناك اتصال مباشر بين هومينينيي شمال وشرق إفريقيا قبل مليوني و400 ألف سنة، أو إذا كانوا يزدهرون بشكل مستقل»، لكن الباحث إيغناسيو دي لا توري، من كلية لندن الجامعية، يعطي رأيا أقل تحمسا، حيث يشير إلى الأدوات الحجرية المعلن عن اكتشافها في سنة 2015 في كينيا على مستوى موقع لآثار العصر الحجري يعود إلى ثلاثة ملايين و300 ألف سنة، ويقول «إذا تأكد الاكتشاف الكيني فإن ذلك سيعيد نظرية أن تكنولوجيا الحجارة قد ظهرت من شرق إفريقيا أولا».

ويؤكد فريق البحث الذي يرأسه محمد سحنوني في ختام مقالهم بدورية «ساينس» بأن شمال إفريقيا والصحراء قد يكونان خزانا لمزيد من المواد الأثرية، فرغم المسافة الفاصلة بين المنطقة وشرق إفريقيا، إلا أن دلائل عين بوشريط، بحسبهم، تشير إلى انتشار سريع لصناعة الأدوات الحجرية من هناك إلى باقي أرجاء القارة، أو سيناريوهات متعددة حول أصل الهومينين وتقنياته في شرق وشمال إفريقيا. وأضاف المعنيون أنه «اعتمادا على ما تحتوي عليه عين بوشريط والأحواض الرسوبية الأخرى»، فإنهم يرجحون بأن «مستحثات للهومينين وأدوات من عصر الأولدوان، لا تقل قدما عن المسجلة في شرق إفريقيا، قد تكتشف في شمال إفريقيا أيضا».
ونقلت وكالة الأنباء الجزائرية بأن الجزائر العاصمة احتضنت ندوة للإعلان عن الاكتشاف الأثري أول أمس، حيث كرم وزير الثقافة ووزير التعليم العالي والبحث العلمي أعضاء فريق البحث الاثني عشر وهم ينتمون إلى معاهد وجامعات ومراكز بحث في كل من الجزائر وإسبانيا والولايات المتحدة الأمريكية وأستراليا وإيطاليا، كما جرت الندوة بحضور السفير الإسباني ومستشار رئيس الجمهورية محمد علي بوغازي.
س.ح

الرجوع إلى الأعلى