مهنة مقدسة تجاوزت 5 قرون من الزمن  
يتخذون مواقع لهم على بوابات المسجد الحرام بمكة المكرمة في نظام بديع، ينتظرون طلبات الحجيج و المعتمرين غير القادرين على أداء المناسك الشرعية، بسبب تقدم السن و المرض و العجز الحركي، لأن المهمة ليست سهلة بأكبر مسجد على وجه الأرض ، و خاصة خلال أوقات الذروة عندما تمتلئ مواقع أداء الشعائر، و تصبح الحركة غاية في الصعوبة حتى بالنسبة للزائرين الذين يتمتعون بالصحة و اللياقة البدنية.
روبورتاج: فريد غربية
بلباس موحد و كراسي متحركة و صبر جميل، يقابلونك بابتسامة و وجه بشوش رغم التعب و ثقل السنوات الطويلة ، إنهم طوافة المسجد الحرام الذين ورثوا المهنة المقدسة منذ أكثر من 5 قرون من الزمن، مدة طويلة تطورت معها مهنة الطوافة حتى وصلت إلى ما هي عليه اليوم من أطر قانونية تنظمها، و إمكانات مادية تسهل المهمة ، و تمد في عمر المهنة الشريفة التي تجمع بين العبادة و الرزق الحلال الذي يحفظ كرامة آلاف العائلات المكية التي تعتمد على مواسم الحج و العمرة لتأمين مصادر عيشها من التجارة و خدمة الزوار.  
هم متواجدون بالحرم المكي المقدس على مدار الساعة تقريبا ، لأن شعائر الطواف و السعي لا تتوقف ، فليل مكة كنهارها ، حشود بشرية كبيرة في تحرك دائم بين الحرم و الفنادق المحيطة به، و الحاجة للمطوفين مستمرة على مدار ساعات الليل و النهار.
200 ريال سعودي و مسيرة 10 كلم وسط  زحام شديد  
 عندما يتم الاتفاق بين المطوف و الحاج و المعتمر تبدأ الرحلة المقدسة و الشاقة أيضا، لأن مهمة رجال التحدي ليست سهلة كما يتصور البعض، فهي تجمع بين الجهد البدني المضني و أحكام الطواف و السعي، و العلاقة الإنسانية المميزة بين المطوف و زائر بيت الله الذي يأمل في أداء المناسك على أكمل وجه رغم المرض و العجز عن الحراك، فقد أجاز المشرع لهؤلاء أن يستعينوا بالمطوفين للقيام بالمهمة الصعبة و العودة بأمان إلى الفنادق و الديار البعيدة.    
و تعد الطوابق العلوية من المسجد الحرام المكان المخصص لعمل المطوفين، لأنه من الصعب إنجاز المهمة بالمطاف الأرضي حول الكعبة الشريفة نظرا لصعوبة استعمال الكرسي المتحرك بسبب الازدحام الشديد ، و خاصة عندما يمتلئ الصحن و يضيق بالآلاف من الطائفين .  
و تبلغ تكلفة الطواف و السعي بالحاج أو المعتمر الواحد 200 ريال سعودي، أي ما يعادل 11 ألف دينار جزائري ، و تقدر مسافة الطواف و السعي بنحو 10 كلم يقطعها المطوف في نحو ساعتين من الزمن في الحالات العادية ، لكن هذا الوقت قد يتضاعف عندما يشتد الزحام وقت الصلاة و بعدها ، حيث تضيق مسارات التحرك ، و يجد المطوفون صعوبة كبيرة في شق صفوف الحشود الكبيرة المتحركة بالمطافات العلوية ، و عندما يشتد الوضع تسمع عبارات «طريق، طريق» في كل مكان، حيث يطلب المطوفون من الناس فتح المسارات و عدم إعاقة الكراسي المدفوعة بقوة ، و من يقع في طريقها قد يسقط أرضا أو يتعرض لإصابات على مستوى الأرجل فيعتذر له المطوف و يساعده على الوقوف.  
و يحاول المطوفون تفادي الحوادث قدر الإمكان ، لكنهم لا يجدون التفهم و المساعدة من الزوار المندفعين في كل الاتجاهات لحجز مواقع للصلاة أو البحث عن منافذ الخروج ، و في أوقات الذروة يتوقف الطوافة عن العمل ريثما يقل الزحام و تنفتح المسارات.  
و يعد الطواف بالأدوار العلوية أطول و أكثر صعوبة مقارنة بالطواف الأرضي الأقصر مسافة ، لكنه لا يستوعب العدد الكبير من الطائفين على الكراسي المتحركة.   و يعد الطواف الأكثر جهدا على المطوفين نظرا لطول مسافة الدور ، و الزحام الشديد ، لكن السعي بين جبلي الصفا و المروة يبدو سهلا نظرا لقصر المسافة و تراجع الزحام ، و من هنا ينهي المطوف المهمة و يسلم الحاج أو المعتمر لذويه، في انتظار عاجز آخر يبحث عن المساعدة.  
هذه هي شروط ممارسة المهنة
تفرض القوانين السعودية المنظمة لمهنة المطوف شروطا صارمة على المؤهلين لأداء المهمة، و في مقدمة هذه الشروط القدرة البدنية و العقلية و السلامة من الأمراض المعدية، و معرفة طرق أداء
شعيرتي الطواف و السعي كالدعاء و الهرولة و التوقف المؤقت عند الوصول إلى ركن الحجر الأسود، لبداية شوط جديد، و الصلاة بعد الطواف ثم التوجه إلى مشعر الصفا و المروة.  
و يعمل كل مطوف بترخيص من الهيئة المشرفة على الحرم المكي و إدارة الحج و العمرة، و يحمل رقما مميزا و مسجلا على قوائم المطوفين، و تعمل الهيئة على تجديد الرخص كل موسم، و يمكنها أن تستبعد بعض الطوافة ممن فقدوا الأهلية بسبب تقدم العمر و المرض، و غيرها من الأسباب الأخرى التي تسقط أهلية المطوف و تفقده مصدر العيش الوحيد.  
و يرى بعض المدافعين عن الطوافة بالمسجد الحرام بأنه مادام المطوف قادرا من الناحية البدنية فإنه من غير المقبول استبعاده بسبب تقدم السن، لأن مهنته حرة لا تخضع لقانون الوظيفة العامة ، و يمكنه مواصلة العمل ما دام يتمتع بالقوة البدنية و العقلية التي تسمح له بأداء المهمة بكفاءة.  
و يتعامل المطوف بالمسجد الحرام مع عدة جنسيات تتحدث لغات و لهجات مختلفة ، و هو غير مطالب بتعلم هذه اللهجات ، و اللغات المختلفة لأن مهمته تقتصر على نقل الحاج و المعتمر عبر مسارات محددة على كرسي متحرك ، و ما هو مطلوب منه فقط إنجاز الأشواط السبعة على المطاف ، و الأشواط السبعة بين الصفا و المروة ، و تلقين الحاج أو المعتمر بعض الأدعية و الآيات القرآنية التي تذكر بمواقع محددة خلال الطواف و السعي.   و ترتسم بين الحاج و المطوف علاقة إنسانية سامية تعتمد على الاحترام و تقديس المهمة و الشعائر الدينية ، و يعد موقع المروة آخر محطة في المهمة الشاقة، هنا تنتهي شعائر الطواف و السعي و يسلم الحاج أو المعتمر لذويه داخل الحرم أو على بواباته الخارجية، و أحيانا يوصله إلى الفندق مقابل مبلغ إضافي يتم الاتفاق عليه مسبقا.  
حفاة بصبر جميل من أجل زوار بيوت الرحمان  
تعد الطوافة بالحرم المكي و حتى المزورون بالمسجد النبوي الشريف بالمدينة المنورة جزءا من مسيرة الحج و العمرة، و ذكرى جميلة يعود بها الزوار إلى ديارهم، و من غير الممكن أن يكون الحج و العمرة بدون مطوفين و خدم و رجال خفاء لا نراهم، لكنهم يعملون ليل نهار في مختلف أقسام الحرم المكي المقدس لضمان الخدمات المختلفة كالتهوية و الإنارة و الصوت، و البث الحي، لكن الطوافة هم الأقرب إلى الزائر و الأكثر اتصالا به عبر مسارات الطواف و السعي، فهم يساعدون المرضى و يرشدون التائهين، و ينقذون الناس من مخاطر الزحام، و هذه ليست مهمتهم بالطبع، لكنهم يضحون في كل مرة لأنهم أهل البيت الذين أصبحوا جزءا من التجمع الديني الكبير.  
و يمتاز الطوافة بخفة الحركة و القدرة على التحمل و الصبر وسط الزحام الشديد، لكنهم يواجهون أحيانا تعنت بعض الحجاج و المعتمرين الذين يعيقون عمل المطوف عندما يعترضون طريقه و لا يسمعون نداءاته و توسلاته بفتح المسار.  
و في كل مرة تتكدس فيها الكراسي المتحركة هنا و هناك بسبب الزحام يتدخل أمن المسجد الحرام بسرعة لمساعدة المطوفين و فتح الطريق أمامهم، و إبعاد الحشود الكبيرة التي تتنقل عبر المطافات العلوية و في كل الاتجاهات.    
و يعمل المطوفون حفاة كالحجيج و المعتمرين تماما، فهم داخل المسجد المقدس و لا يمكنهم ارتداء الأحذية مهما كان نوعها، و لتفادي العواقب الصحية على القدمين يرتدي بعض الطوافة ما يشبه الجوارب الجلدية السوداء التي تساعدهم على السير فوق أرضية من الرخام الأبيض باستمرار دون الشعور بالألم ، لأن المهمة الشاقة قد تمتد سنوات طويلة لخدمة زوار المسجد الحرام و الحصول على مصادر العيش من أشرف مهنة بالبقاع المقدسة إلى جانب مهن أخرى لا تقل أهمية بينها الأمن و السقاية و التنظيف و الإرشاد الديني و تنظيم الحركة داخل الحرم و خارجه.  
5 قرون و نصف من التطوّر  
و حسب ما هو متداول حول طوافة الحجيج بالبقاع المقدسة فإن مهنة  المطوف ظهرت سنة 884 هجري الموافق لسنة 1463 ميلادي على يد القاضي إبراهيم بن ظهيرة، و تم الاعترا ف بها كمهنة في عهد الملك عبد العزيز، و ظلت هذه المهنة المقدسة تتطور على مدى 5 قرون و نصف من الزمن، حتى وصلت إلى ما هي عليه اليوم من التنظيم و الإمكانات المادية المتاحة.  و مع مرور الزمن ظهرت مؤسسات الطوافة و أصبح العمل أكثر تنظيما و دعما لمواسم الحج خاصة، أين يكثر الطلب على خدمات المطوفين من قبل العاجزين و كبار السن غير القادرين على أداء ركني الطواف و السعي بالمسجد الحرام. و من النادر أن ترى مطوفا غاضبا رغم التعب و المضايقة و الزحام الشديد، و ليس المطوفين وحدهم من يتحلون بالصبر و الهدوء و التسامح و الأخلاق العالية، فالحال كلها هكذا داخل الحرم و خارجه الكل منشغل بالعبادة و اغتنام فرصة تواجده بأقدس مكان فوق الأرض لزيارة المواقع المقدسة و التواصل مع المسلمين من مختلف أنحاء العالم.
و يعد المطوفون أول مستقبل لزوار المشاعر المقدسة منذ أمد بعيد، و لذا نشأت بين المطوف و الزائر علاقة مميزة مازالت صامدة في وجه التحولات الاجتماعية التي انتقلت بمهنة الطوافة من العمل الخيري التطوعي إلى المهنة المنظمة التي تجمع بين الكسب الحلال و القداسة و خدمة ضيوف الرحمان القادمين من مختلف أصقاع الأرض  تلبية للنداء الخالد.
ف.غ                

الرجوع إلى الأعلى