تحوّلت قرية قطار العيش التابعة لبلدية الخروب بولاية قسنطينة، إلى تشكيلة عمرانية غير متجانسة، بعد ظهور البنايات الفوضوية الفخمة نتيجة عمليات بيع الأراضي بعقود عرفية، لتتسبب هذه السكنات في مشاكل جديدة تضاف إلى تلك التي خلفتها الأكواخ القصديرية الواقعة في الضفة المقابلة من هذه القرية القديمة، التي كانت عبارة عن بلدية وقت الاستعمار، قبل أن تحاصر بـ «فيلات» التهمت الأراضي الفلاحية و بمنازل الصفيح التي أصبحت تباع بأسعار لا تقل عن 45 مليون سنتيم، فيما يبدو أن السلطات المحلية سلّمت بهذا الواقع من خلال قرار بالشروع في ربط بعض سكنات الحي بالكهرباء و الغاز.
روبورتاج: حاتم/ب
بنايات جديدة بعقود عرفية عند مدخل القرية
عند مدخل قرية قطار العيش شدت انتباهنا البنايات الجديدة التي أنشئت متراصة أمام بعضها في خط مستقيم، وكأن الأراضي الزراعية أنبتت بنايات إسمنتية، و قد التقينا هناك بإدريس صاحب الـ 30 سنة، حيث أخبرنا أنه يقوم ببناء منزل مجاور لذلك الكم الهائل من البنايات الجديدة، و ذلك على قطعة أرض مساحتها 180 مترا  مربعا  اشتراها بقيمة 60 مليون سنتيم قبل سنوات ، لكن بعقد عرفي، و ذكر إدريس أن الأثمان تختلف من مكان إلى آخر وذلك حسب موقع و مساحة القطعة ، حيث تتراوح القيمة ما بين 60 إلى 150 مليون سنتيم، مضيفا أن الأسعار ارتفعت كثيرا في الوقت الحالي و بأن هناك من اشترى أرضا مقابل 300 مليون سنتيم.
أما  زهير، و هو صاحب بناية أخرى قاربت الأشغال على الانتهاء على مستواها، فقال إنه اشترى قطعة أرض بعقد عرفي وقام بالبناء عليها، مضيفا أنه وفي حالة إتمام الأشغال على كل السكنات فإن واجهة القرية ستتغير بشكل كلي ، خاصة وأنها ستمنحها، حسبه، لمسة جمالية، من خلال نوعية البنايات التي هي في طور الانجاز حاليا.
وذكر زهير أن أصحاب البنايات الجديدة الذين قَدَّر عددهم بحوالي 300 شخص، يجدون «عراقيل» في ربطهم بالغاز والكهرباء لأن العقود التي اشتروا بها الأراضي عرفية، وهو ما جعلهم يطالبون بالتسوية، خاصة أنه تم إيداع ملفات في هذا الشأن لدى مصالح بلدية الخروب.
وتنقلنا بين تلك البنايات الفخمة التي شيدت في شكل منظم، من خلال وجود 5 منها في شكل مربع كبير، حيث كان جلها في طور الانجاز فيما بدت الجاهزة بحلة جميلة، تؤكد أن صاحبها انفق الكثير من الأموال من أجل بنائها، كما كانت المساحة بين البنايات كبيرة إضافة إلى أن الطريق متسع رغم أنه غير معبد.
قاعة حفلات من الطراز الرفيع.. أولى الاستثمارات
وقد لفت انتباهنا   مبنى كبيرا يظهر من خلال طابعه العمراني أنه شركة كبيرة، وعند الاقتراب منه اتضح أنه عبارة عن قاعة حفلات  ، حيث تحدثنا إلى مالكها وهو مستثمر قسنطيني معروف، قال إنه شيد البناء بطريقة قانونية، بعد أن تم إيداع ملف التسوية، مضيفا أنه ينتظر الحصول على التصريح من أجل كراء المرفق، موضحا أنه صاحب أول مشروع استثماري في قرية قطار العيش، ويتمنى أن يحذو حذوه رجال أعمال آخرون.
توجهنا بعد ذلك صوب الأكواخ القصديرية التي تشتهر بها القرية، وفي طريقنا إليها لاحظنا الكم الهائل من المحلات التي فتحت أبوابها مؤخرا فقط، ما جعل مدخل المنطقة يعرف حركية كبيرة ، فيما تعرف المقاهي تواجد العديد من الشباب البطال.
أكثر من 600 عائلة تقطن الحي الفوضوي
اقتربنا من مكان تموقع الأكواخ القصديرية التي يقطن بها حسب تقديرات السكان، أكثر من 600 عائلة، لنلقي عليها نظرة من مكان عال، ما جعلنا نشاهد منظرا فوضويا أوحى لنا وكأننا بأحد الأحياء الفقيرة في البرازيل، من خلال العدد الهائل من بيوت الصفيح المترابطة بطريقة فوضوية ، وسطوحها التي تعج بالهوائيات، والمنبعثة منها أضواء لامعة نتيجة انعكاس أشعة الشمس من الأسقف القصديرية.
ولجنا أحد المداخل المؤدية إلى الأكواخ ، وكلما اقتربنا لاحظنا قلة الحركة بالمكان، و كأن أغلب البيوت غير مأهولة ، و أثناء توغلنا وسط تلك المسالك الضيقة التي لا يزيد عرضها عن متر واحد، صادفنا العديد من الأطفال الذين كانوا يجلسون بالقرب من منازلهم، فيما وجدنا صعوبة في تفادي الكم الهائل من الملابس و الزرابي المعلقة على الحبال.
في قلب متاهة الصفيح!
و قد كان الدخول إلى ما بين الأكواخ سهلا، لكن الخروج كان صعبا، ما أشعرنا وكأننا دخلنا متاهة، لنستنجد بأحد الأطفال و يتم إخراجنا من تلك «الدوامة»، وهنا التقينا بأحد السكان ، وبعد تبادل أطراف الحديث معه وافق على إدخالنا لكوخه الذي يقع بمحاذاة واد، حيث وجدنا أنه يتكون من غرفة واحدة فقط تستعمل كمطبخ و كصالون و كمكان للنوم، فيما استعانت ربة البيت بسلال بلاستيكية لوضع الأواني ، كل ذلك وسط درجة حرارة عالية بحكم أن سقف المنزل عبارة عن قصدير ، ما جعلنا لا نحتمل المكوث فيه لدقائق و دفعنا إلى التساؤل عن حجم المعاناة التي تواجهها العائلة خلال فصل الصيف.
«كوخ بغرفة واحدة كلفني 45 مليونا»
فضلنا الحديث مع رب العائلة في الخارج ، حيث قال عزو صاحب الـ 46 سنة، إنه اشترى قطعة الأرض منذ 8 سنوات مقابل 15 مليونا ، ثم قام ببناء الكوخ عليها ما كلفه إجمالا حوالي 45 مليون سنتيم، حيث يقيم فيه حاليا مع زوجته وخمسة من أبنائه، مضيفا أنه مجبر على عيش حياة قاسية داخل غرفة لا تكفي حتى لفردين، في ظل انعدام الغاز والكهرباء، كما طرح غياب مؤسسات تربوية قريبة تسمح لأولاده بالتمدرس بصفة عادية. عزو أخبرنا أنه من العائلات المرحلة من حي «نيويورك» القصديري ببلدية قسنطينة قبل سنوات ، باتجاه علي منجلي ، لكن ضيق الشقق هناك دفعه ، حسب تعبيره ، إلى الانتقال لقطار العيش.
وأبلغنا بعض الجيران أن غياب متوسطة وثانوية في قرية قطار العيش ، يدفع أبناءهم للنهوض في ساعات مبكرة من أجل التنقل لمسافة 13 كيلومترا إلى مدينة الخروب و مزاولة دراستهم هناك ، حيث يغادرون الأكواخ في جنح الظلام ويعودون إليها في نفس الظروف، ما يجعلهم يتعبون كثيرا ويعجزون عن مراجعة دروسهم مساءً.
جرذان تهدد حياة الأطفال و مياه الوادي خطر آخر
و أوضح أحد القاطنين في الأكواخ الواقعة بمحاذاة الوادي ، أنه يصطاد يوميا عشرات الجرذان والثعابين التي تتوغل إلى داخل الغرف ، بحثا عن الطعام أو الدفء، وهو ما يعرض حياة أبنائهم الصغار للخطر ، كما أخبرنا أنه و قبل أيام ، لسع ثعبان من النوع الكبير طفلا لا يتجاوز عمره 7 سنوات ، ما أجبر والده على نقله إلى المستشفى لتلقي الإسعافات الأولية.
كما تعيش تلك العائلات حالة طوارئ كلما تساقطت الأمطار، حيث يرتفع منسوب مياه الوادي لتداهم الأكواخ، وهو ما حدث مؤخرا، حيث هرعت العائلات إلى وجهات بعيدة خوفا من الغرق، فيما وجدت أخرى صعوبة كبيرة في الخروج من مساكنها.
«غرباء يشترون الأكواخ للاستفادة من السكن»
أرباب العائلات طرحوا مشاكل أخرى تتمثل في غياب الغاز ، ما يدفعهم يوميا لنقل قارورات البوتان من مكان بيعها في القرية وقطع مسافة طويلة من أجل إيصالها للأكواخ، خاصة وأن المسالك الضيقة و لا تسمح بدخول أي مركبة قرب المباني الفوضوية، وأضاف المتحدثون أن الآونة الأخيرة أصبحت تشهد قيام العديد من «الغرباء» بشراء أكواخ بقيمة تتراوح ما بين 60 و80 مليون سنتيم، بهدف الاستفادة من السكن الاجتماعي ، مؤكدين أنهم أتوا من بعض المناطق المجاورة على غرار عين فكرون و سكيكدة و جيجل وحتى من ولاية المسيلة.
ويقوم كل صاحب كوخ ببيعه مقابل مبالغ مالية معتبرة ، مباشرة بعد استفادته من سكن اجتماعي، ما يجعل العائلة التي تخلفه تطالب بسكن اجتماعي آخر، فيما يقوم البعض الآخر ببيع قطع أرضية تخصهم واستغلال تلك الأموال من أجل بناء اكواخ ، و بهذه الطريقة تضاعف  أعداد قاطني بيوت الصفيح في قطار العيش.

وبطلب من سيدة عن طريق ابنها   دخلنا   كوخا  أوسع بكثير من سابقه، كما كان مختلفا في الشكل ولكن متشابها من حيث قسوة الظروف ، من خلال الحرارة الشديدة المنبعثة من السقف القصديري لمنزل لم تكن بداخله سوى بعض الأفرشة ، فيما اضطرت ربته إلى وضع الملابس في أكياس بلاستيكية.
وأكدت صاحبة الكوخ أنها تقطن بالمكان منذ حوالي 10 سنوات، بعد احتراق منزلها السابق الكائن بحي الثوار،  مضيفة أنها أودعت ملفا رفقة زوجها سنة 2005 بغية الحصول على سكن اجتماعي، ولكن احتراق وصل الإيداع خلال الحادثة، جعلها تُحرم، حسبها، من الاستفادة .
عائلات تجني الملايين من
«بيع الكهرباء»
واصلنا طريقنا داخل المسالك الضيقة، وإذا بنا نجد عمودا كهربائيا يعتبر الممون الرئيسي لكامل القرية، و يتصل به حوالي 100 كابل مربوطة بسطوح الأكواخ التي يستغل أصحابها التيار بطريقة غير قانونية ،  وأخبرنا سكان أن الكهرباء تنقطع عن كامل القرية في عديد المرات بسبب الاستغلال غير العقلاني لها، من خلال تزويد أكثر من 300 كوخ، وهو ما خلف خسائر مادية معتبرة لبلدية الخروب.
وأكد أحد المواطنين الذين يستغلون الكهرباء بطريقة غير قانونية ، أن بعض العائلات تضطر لدفع ما قيمته 5000 دج لأحد الجيران الذين يزودهم بالتيار بحكم أنه «من السكان القدامى في القرية»، وهو مبلغ كبير يحصل عليه من طرف عشرات الأسر ، وبالتالي تحولت العملية إلى تجارة ، حتى أن دخله يتراوح بين 10 و 15 مليون سنتيم عند كل موعد تسديد الفاتورة.
وأضاف محدثنا أنه يقبل بتسديد الأموال التي لا تخضع لأي مقاييس تحدد حجم الاستغلال، لأن كوخه يبعد بمسافة طويلة عن مركز التزويد، وبالتالي فإن شراء كابل كهربائي طوله يتجاوز 100 متر سيكلفه الكثير، وبالتالي هو مجبر على الرضوخ لطلبات «بائع الكهرباء».
وأوضح المصدر ذاته أن أحد المزودين للأكواخ بالكهرباء يقطع التيار عن كل من لا يقوم بتسديد المبلغ ، وهو ما حدث أثناء احتجاج عجوز تجاوز سنها  سبعين سنة، بعد أن طالبت   بتخفيض المبلغ،   لتضطر فيما بعد إلى الاعتذار له . وحسب بعض سكان القرية، فإن عائلات قديمة بالمكان استفادت من الكهرباء منذ سنوات ، أصبحت تتاجر بهذه المادة الضرورية، حتى أن العديد من أربابها توقفوا عن العمل ، بحكم أنهم يملكون دخلا معتبرا جراء بيع التيار.
لجنة بلدية لدراسة ملف الربط بالغاز والكهرباء
و أكد مصدر مسؤول من بلدية الخروب للنصر، أنه تم عقد اجتماع خلال الأيام القليلة الفارطة، جمع مندوبي علي منجلي، وممثلين عن لجنة أحياء قرية قطار العيش، من أجل  دراسة كل حالة على حدة ، بغية تزويد بعض السكنات بالغاز والكهرباء، ويشمل هذا الإجراء أصحاب البنايات التي أنشئت على أراضي بيعت بعقود عرفية.
و ذكر رئيس لجنة أحياء قرية قطار العيش أن الاجتماع من شأنه أن يعود بالفائدة على سكان المنطقة ، مضيفا أنه تم الحديث عن وضعية بعض السكنات التي لم تزود لحد الآن بالغاز والكهرباء ، والتي تخص بعض البيوت القديمة إضافة إلى أصحاب العقود العرفية.
ح.ب

الرجوع إلى الأعلى