يعود شهر رمضان، ليكون الضيف الكريم على بيوت الجزائريين، في وقت تغيب سهراته المميزة، و تحجب معها عادات أصيلة و موروثات ثقافية، تتقدمها لعبة «البوقالات»، الأكثر شعبية في الجزائر العاصمة، لتعوضها السهرات الانفرادية أمام التلفاز، أو الافتراضية في عالم لم يعد فيه مكان «للفأل الحسن»، و إن كان من باب التسلية و السمر في أجواء لن يكررها الزمن.
روبرتاج: إ.زياري
«البوقالة» أو «التقصيرة»، مهما اختلف اسمها، ففحواها واحد، فهي تلك اللعبة الشعبية النسوية، التي لطالما زينت جلسات نساء الجزائر العاصمة، خاصة حي القصبة العتيق و بعض الأحياء التي تتميز  بالقصور و الدويرات كحي بلكور، و التي تزداد شعبيتها ، كلما حل الشهر الكريم، لتكون زعيمة القعدات، و جامعة شمل النساء في وسط الدار، من أجل السهر و الاستمتاع بقضاء أوقات إستثنائية، يصنع فيها «الفأل الحسن» الحدث الذي تنتظره النسوة اللائي يحرصن على الاستعداد لها بكل شغف.
«النافخ» يعلن عن المغامرة
السيدة شهيرة قويدر تحدثت للنصر عن «البوقالات» بتأثر شديد، «يا حسراه على أيام زمان، إنها  أروع ما كان يميز القعدة العاصمية لسنين طويلة، خاصة في ليالي رمضان، حيث كانت النسوة تسرعن للانتهاء من غسل أواني الإفطار و تزيين أنفسهن بالحلي و الملابس الجميلة، من أجل الخروج و الالتقاء بالنسوة من جاراتها و قريباتها و صديقاتها في وسط الدار، فتنطلق المغامرة في عالم مليء بالخيال و مشبع بأعذب الكلام، حيث تنتقل النسوة إلى سطح المنزل من أجل إشعال «النافخ» ، و هو نوع من الأواني الطينية المخصصة للبخور.
وبعبارة «بخرتك بالجاوي، جيبيلنا الخبر من لقهاوي، بخرتك بالحنة، جيبيلنا الخبر من مزغنة، بخرتك بالرتاج، جيبيلنا الخبر من عند الحجاج»، تنطلق المغامرة لتبخير «البوقال» الذي يقول البعض بأن اسمه مشتق من اللغة الفرنسية، بينما أكدت الأبحاث أنه كلمة عربية قحة نابعة من عمق المجتمعات العربية التي كانت تستعمله في القديم، و الدالة على إناء طيني لتبريد و شرب الماء.
بعد ذلك تنزع النسوة أية قطعة حلي كن يرتدينها ويضعنها في الماء الموجود في «البوقال» الذي يغطى بقماش من الشاش، على وقع عبارة ترددها قائدة القعدة التي غالبا ما تكون سيدة كبيرة في السن « باسم الله بديت، و على النبي صليت».
البوقالة فأل النسوة دون استثناء
أوضحت السيدة شهيرة بأن «البوقالة» عبارة عن استخبار وأقوال موزونة قريبة إلى الشعر، و هي عكس ما يعتقده الكثيرون، ليست موجهة للشابات العازبات فقط، بل كل النسوة كن معنيات بها، خاصة و أن العديد من النساء الجزائريات قديما كان أزواجهن يسافرون بعيدا من أجل العمل، لهذا كن يتهافتن  للاطلاع على «الفأل» الذي قد يطمئن قلوبهن، في ظل غياب وسائل التواصل مع الغائبين.
و يشترط للعب «البوقال» ربط الوشاح الذي ترتديه كل سيدة ، و عادة ما يكون عبارة عن «محرمة الفتول» التقليدية، حيث تنوي أن يخصص فألها لشخص معين، قد يكون زوج المستقبل أو الزوج الغائب، كما قد يكون أحد الأقارب كالوالدين أو الشقيق ، حسب ما استقيناه من بعض السيدات المسنات.
وأثناء جلسة وسط الدار المميزة، المزينة بصينية الحلويات التقليدية المتنوعة التي تحضرها النسوة مع إبريق الشاي، تبدأ الجالسات في سرد البوقالات التي تحفظنها، بالتناوب، و مع كل بوقالة، تقوم رئيسة الجلسة بسحب خاتم أو أي قطعة حلي من «البوقال»، فيكون فأل صاحبته التي عادة ما تنتظر لبرهة من أجل سماع الفأل القادم من الخارج، سواء  كان زغاريد نسوة في بيت آخر، أو المناداة باسم رجل ما، فتبدأ التفاعلات مع ما يسمع، مما يبعث جوا من المرح و الاستبشار بغد جميل و مستقبل أفضل، و إن كان مجرد آمال ليست مؤكدة، فهي، كما تقول خالتي فاطمة، تريح النفس و تبقي النسوة في شوق يومي للقاء *البوقالات*بعد الإفطار.
«ناس دزاير حديث ومعاني»
عن سر الكلام الموزون، تقول السيدة شهيرة بأن نساء العاصمة يمتلكن «ثقافة الكلام»، مشيرة إلى طريقة حديثهن حتى في يومياتهن، فأغلب تعاملاتهن كانت بالمعاني و الكلام الموزون الذي يتميز بالسجع و استعمال مصطلحات عربية أصيلة حفظتها البوقالات من الاندثار، موضحة بأنه كان يقال عن سكان العاصمة «ناس دزاير حديث و معاني»، في إشارة إلى أنهم كانوا يستعملون كلاما منمقا للتعبير عن حالاتهم، فحتى في الخصام، يعتمدون على المعاني و التلميح لإيصال رسائل لمن يتخاصمون معه.
و قد ساهمت البوقالات التي كانت تحفظها النسوة عن ظهر قلب ، رغم أن أغلبهن غير متعلمات، في حفظ التراث الشعبي العاصمي بقدر كبير، بينما تنادي الكثير من الجمعيات اليوم لجمعه و حفظه في كتب متخصصة للأجيال القادمة، خاصة و أن من تحفظن البوقالات بتن قليلات جدا، بعد أن حلت قصاصات الورق مكان عقول تملؤها أرقى أنواع الكلام الذي يستذكر عراقة نسوة العاصمة ، النابعة عن أصالة النساء الأندلسيات الراقيات.
التلفاز و الهواتف الذكية تعوض سهرات البوقالات
يجمع أهالي القصبة أن البوقالة كلعبة كانت تحظى بشعبية واسعة في ليالي رمضان قد زالت، و اندثرت كليا ، و أكدت لنا السيدة حورية بأنها تفتقد تلك اللمة المميزة، فكل البيوت بالقصبة مغلقة، و الأسطح منهارة، فأين يشعل «النافخ؟ تساءلت المتحدثة، معربة عن أسفها الشديد لغياب موروث لطالما جمع شمل ساكني البيت من شابات و ربات بيوت، فاللعبة غابت كليا بداية من سنوات الثمانينيات، حيث بدأت الأسر في الانقسام و الانغلاق على أنفسها.
و ترى السيدة شهيرة أن شاشات التلفاز و الهواتف الذكية عوضت البوقالات، فحتى من يرغب في سماع فأله، يمكنه أن يجده في مواقع التواصل الإجتماعي، فلا داعي للجلوس في مجالس خالية على عروشها اليوم.
علما أن البوقالة تحولت إلى موضة في الأعراس، حيث تكتب في قصاصات و توزع على المدعوين، في حين تحافظ قلة قليلة من العجائز على العادة و تمارسنها مع حفيداتهن و بناتهن و كناتهن، عندما تتاح لهن الفرصة.
                                              إ.ز

الرجوع إلى الأعلى