- رأس بوقارون - لافتة الجزائر المتوغلة نحو الشمال
تخفي منطقة القل بولاية سكيكدة بين طبيعتها المتميزة وشواطئها غير المستكشفة واحدة من المعالم المرجعية العالمية عبر التاريخ، حيث يمثل «رأس بوقارون» أقصى نقطة تمتد فيها اليابسة الجزائرية نحو الشمال داخل البحر المتوسط، فيما تتوارى تحت مياهه العميقة آثار المئات من قصص الغرق والمعارك البحرية والقراصنة والحركة المتوترة التي ضج بها المتوسط دائما. النصر تنقلت إلى «رأس بوقارون» أو «أبو الرّياح»، الذي كان يوما ما الحد الفاصل بين القبائل النوميدية، وجمعت في هذا الروبورتاج صورا وقصصا مما علق في أذهان سكان المنطقة ذات التضاريس الصعبة من قصص حول سر التسميات المختلفة وظروف الحياة في بيئة ذات خصوصية عالية، يعدمون فيها الكثير من الوسائل البسيطة.
روبورتــــاج: سامي حباطي
قرى أمازيغية ما زالت محافظة على أسمائها
اخترنا لمسارنا الطريق الولائي رقم 132 للتوجه إلى «رأس بوقارون» عبر بلديتي الشرايع و قنواع ، حيث خرجنا من مدينة القل وسرنا في مرتفعات تنتشر فيها أشجار مختلفة، لندخل بعد ذلك الطريق الولائي رقم 7، بالقرب من المكان المسمى «وادي الجبل»، ونجد أنفسنا بعد قطع عدة كيلومترات داخل إقليم بلدية قنواع، المعروفة بالمنابع الطبيعية للمياه وبأشجار القسطل المحيطة بضفتي الطريق على طول المسافة التي تنتقل بين جبلين، ففي وجهة الذهاب يقابلنا على الجهة اليمنى جبل تظهر فيه بقية الطريق، الذي شهد جزء كبير منه عملية تهيئة، بينما ما تزال نقاط أخرى منه في وضعية متدهورة.
وعند الاقتراب من التجمع الرئيسي للبلدية يأخذ الطريق في الانحدار، لكن اللافتات التي تشير إلى القرى الصغيرة المنتشرة ما بين أشجار البلوط والقسطل تثير الانتباه بأسمائها الأمازيغية، على غرار قرية «أفنسو» و»آكّارون» و»تابلوط» و»زيوان» و»آزردز»، حيث أكد لنا بعض سكان المنطقة أنه لا جدل حول أصولهم الأمازيغية، معتبرين أن الإسلام قد عرب ألسنتهم، كما أوضحوا لنا أن الكثير من الكلمات المستعملة في لهجتهم باللغة الأمازيغية بالإضافة إلى العادات وبعض الممارسات الاجتماعية التي تعود جذورها إلى ماضٍ بعيد.
ولاحظنا نفس الأمر على باقي القرى في منطقة القل، لكن أسماء أخرى باللغة العربية أيضا. وقد حدثنا سكان قنواع عن شواطئ معزولة تابعة للبلدية ولا يمكن الوصول إليها بالسيارات، حيث أكدوا لنا أن المصطافين الشباب يقصدونها للتخييم ومنهم من يمكث فيها لشهرين، على غرار شاطئي «بوالنشم» و»زيوان»، فيما أكدوا أن المسير إليها يتطلب المشي عبر المسالك التي تشقها محافظة الغابات من أجل مواجهة الحرائق التي أتت على مساحات واسعة من عدة مناطق في السنوات الأخيرة.
منازل معلقة على المنحدرات الجبلية

وأضاف من تحدثنا إليهم أن سكان المناطق القريبة من «بوقارون» قد تأقلموا مع الطبيعة الصعبة والمنحدرة للمنطقة، رغم أنها لا تفتح أفقا واسعا للنشاط الفلاحي ، الذي يظل محصورا في بعض البساتين المحاطة بالغابة وبعض القطع الأرضية التي استغلت للزراعة، باستثناء إنتاج القسطل الذي اعتبره رئيس بلدية قنواع مزدهرا جدا في المنطقة، مشيرا إلى أن بلديته تعتبر الأولى في الإنتاج على مستوى الشرق، كما لاحظنا في الغابة أشجار جوز برية أيضا، وبعض قطعان الماعز والأبقار ونساء يحملن على رؤوسهن كلأ الحيوانات والأخشاب. وقد أشار مرافقنا إلى وحدات صناعية قديمة تعود إلى الحقبة الاستعمارية وصارت اليوم أطلالا، من بينها مصنع صغير للفلّين.
ورغم بساطة السكنات الموجودة بالمنطقة، إلا أن هندستها مثيرة للدهشة، فسكان المنطقة قاموا بتشييدها في أماكن شديدة الانحدار متحايلين بذلك على «مكر الطبيعة»، حيث سألنا أحدهم إن كان لا يخشى من انزلاق الأرضية تحت منزله، فأكد لنا أن الأرضية الجبلية صخرية ويمكنها تحمّل ثقل البناء. ويمتد هذا النمط من «العمران» الجبلي المحتشم إلى غاية منطقة «بوقارون»، خصوصا بالقرب من ضفتي الطريق، في حين أخبرنا أحد السكان أن من عادة أصحاب هذه المنازل وضع سِلال على ضفة الطريق وكل سلة تحمل اسم صاحبها، حيث يأتي بائع الخبز في الصباح ويضع لكل منهم حصته في السلة، بسبب عدم قدرة شاحنته على السير في المسالك المنحدرة، لكننا بحثنا عن هذه السلال ولم نجدها في الأماكن التي زرناها.
أما البناءات التي ما زالت في طور الإنجاز، فإن أصحابها يضعون على إحدى جوانبها أنبوبا طويلا ومصنوعا من البلاستيك والمعدن من أجل التمكن من صب الخرسانة لإنشاء الأسطح وباقي الأجزاء التي تتطلب هذه المادة، حيث نبهنا محدثونا إلى أنه من غير المعقول أن يقضي البناؤون الوقت في نقل الأكياس ومواد البناء الأخرى إلى الأسفل للبناء ومواجهة كل ما يكتنف ذلك من مخاطر الوقوع، فابتكروا هذه الطريقة. وذكر لنا مرافقنا وهو من أبناء القل، أن بعض هذه المنازل أنجزت في إطار ملفات بناءات ريفية.
وتستوقف العدد القليل من ركّاب السيارات التي تعبر الطريق الولائي رقم 7 عبر المناطق المذكورة إلى «راس بوقارون» و»تمنارت» المنابع الطبيعية المنتشرة بكثرة في بلديتي «الشرايع» و»قنواع»، حيث غالبا ما تجوب شاحنات بيع مياه المنابع الطبيعية مدن عدة ولايات شرقية وهي تحمل خزّانات كتب عليها «مياه جبل قنواع»، لكننا لاحظنا سكانا من المنطقة يجوبون الطرق بين المنابع بحثا عن مياه الشرب والمياه المستعملة للغسيل، بالإضافة إلى المنطقة المحيطة بـ»رأس بوقارون»، أين يتردد السكان والمصطافون على مجموعة كبيرة من المنابع للحصول على المياه.
لغز السمكة المسبّبة للهلوسة والسردين القُلّي
في الطريق إلى وجهتنا توقفنا لتناول الطعام في مطعم صغير، فقدم لنا صاحبه مجموعة من السمك مع السردين، الذي أكد لنا أنه من القل وليس قادما من سواحل مدن أخرى، ما أثار استغرابنا، حيث أكد لنا مرافقونا من أبناء المنطقة أن سكان القل يحسنون تمييز السردين الذي يتم صيده في مياههم من غيره من خلال ألوانه، التي تكسو جسمه بسبب الطعام الذي يتغذى عليه. وأضاف محدثونا أن كميات كبيرة من أسماك السردين المعروضة في سوق مدينة القل قادمة من سواحل مدن أخرى ، مثل عنابة و سكيكدة، وتجري عمليات التبادل بين الصيادين داخل البحر، لأغراض تجارية.

وقدم لنا صاحب المطعم نوعا آخر من الأسماك يسمى «الشلبة»، حيث أخبرنا مرافقونا أن تناولها خلال الليل يسبب الهلوسة، فيما أخبرونا أن صيدها يتم عبر المنطقة، كما قال أحد مرافقينا أن تناول رأسها هو ما يسبب الهلوسة. وقد دفعنا الفضول إلى تجربة تناولها كاملة، لكننا لم نصب بأية هلوسة، بينما وجدنا من خلال بعض المراجع العلمية أن تسميتها اللاتينية هي sarpa salpa»»، حيث يلاحظ التشابه الكبير بين شقها الثاني والتسمية في اللهجة المحلية، كما أنها معروفة في البحر الأبيض المتوسط وتستهلك في الجزائر وتونس وفرنسا وإيطاليا.
ويعود مفعول الهلوسة في هذه السمكة إلى تغذيها على بعض الأعشاب البحرية التي تحتوي على مواد تحمل تأثيرا عقليا، لكن المراجع العلمية تؤكد أن هذا يحدث خلال فترات محددة من السنة فقط، فضلا عن أن استهلاك ما يوجد داخل بطن السمكة هو ما يؤدي إلى ظهور هذه الأعراض، التي تستمر لساعات طويلة وقد تكون سيئة جدا. وتذكر بعض المصادر أن الرومان القدماء كانوا يستخدمونها من أجل مفعولها المؤثر على العقل، بينما يستخدمها سكان منطقتين في المحيط الهادي أيضا في طقوس دينية.
صيادو قسنطينة يعرفون «بوقارون» خيرا من أبنائه
عند بلوغ محيط «رأس بوقارون» عدنا إلى بلدية الشرايع بعد أن سلكنا طريقا جبليا دائريا تقريبا، حيث قابلتنا منارة الرأس الشهير وهي تخترق البحر نحو أوروبا، لكن لم يكن من الممكن مشاهدتها بصورة واضحة من أعلى الطريق المتعرّج كجسم ثعبان، خصوصا وأنها مختفية خلف صخور عالية. عندما وصلنا إلى قرية «بوقارون» المطلة على المنارة، توقفنا لتجاذب أطراف الحديث مع بعض السكان، الذين لم يكن اللقاء بهم سهلا، فالقرية تبدو شبه خالية من الحركة، ولا يوجد فيها إلا بناء قديم كتب عليه «مقهى بوقاروني»، لكنه كان مغلقا وقت وصولنا بالإضافة إلى محل لبيع المواد الغذائية، بينما كنا محظوظين إذ وجدنا مجموعة من كبار السن مفترشين قطع كرتون وجالسين على الأرض متظللين بسور مدرسة تحمل اسم الشهيد العايب محمد.
تشعبت بنا المواضيع خلال الحديث مع السكان المذكورين، وبعد أن «أرهقناهم» بتساؤلاتنا الملحة، عبر أحد المعنيين عن استغرابه من جهلنا بالمنطقة رغم أننا قادمون من قسنطينة، حيث أوضح لنا أن خلجان «بوقارون» وشواطئه الصخرية لا تخلو من الصيادين القادمين من قسنطينة طيلة فترة الصيف وحتى في فترات أخرى، مشيرا إلى أنهم يمضون زمنا طويلا في استكشاف أعماق المياه وفي الصيد، لدرجة أنهم صاروا يعرفونها خيرا من أبنائها، في حين أكد لنا أحد الشيوخ الذين كانوا معنا، أن أبناء «بوقارون» لا يمارسون هواية الصيد إلا قليلا، وأغلب الصيادين يمارسونها كنشاط مهني، مثلما كان يفعل.
وقد أخبرنا شيخ آخر تحدثنا إليه، أن قدميه لم تطآ البحر منذ سنوات رغم أنه يقابله طيلة النهار والليل، في حين ذكروا لنا أن وزيرا سابقا من أبناء قسنطينة كان يقصد المنطقة لصيد السمك وقضاء موسم الصيف. وقد أوضح لنا محدثونا أن علاقة سكان القل بالقسنطينيين وطيدة، كما أن منهم من قرروا مغادرة قسنطينة والاستقرار بالمنطقة بصورة دائمة.
أسطورة القراصنة  وتضليل السفن
وكان السكان يحدثوننا بحفاوة عن تاريخ المنطقة، حيث أرونا المدرسة المسماة حاليا «العايب محمد»، وأشاروا إلى أنها كانت المنارة القديمة التي أنشأها المستعمرون سنة 1868 مثلما يؤكده اللوح الرخامي المعلق أعلى بوابتها، بالإضافة إلى شكلها الذي يشبه مكعبا يتقدم واجهته برج أسطواني كبير، تحول اليوم إلى خزان مائي للمدرسة، بينما كان يستخدم كمحطة لبث النور إلى السفن في الماضي بحسب ما يؤكده لنا محدثونا.
وذكر لنا شيخ كبير عندما سألناه عن سر تسمية الرأس بـ»بوقارون»، أن سكان المنطقة الحاليين لا يعلمون خلفية التسمية على وجه التحديد، لكن آباءهم رووا لهم أن القراصنة كانوا مستقرين بالمكان وينصبون الكمائن للسفن التي تعبر بالقرب من سواحل القل، حيث يصعدون إلى نقطة متقدمة من أعلى الجبل المطل على المنارة اليوم، ويشعلون نارا كبيرة خلال الليل، ما يوهم السفن أن اليابسة ما زالت بعيدة ويعتقدون أنها عبارة عن منارة، فيتقدمون إلى حتفهم لأن السفن تصطدم بالصخور المتوغلة في البحر وتتحطم، ليغير عليها القراصنة في الصباح ويقومون بسلب ركابها ما يحوزونه من ممتلكات وبضائع.
أما حطام السفن القديمة فأخبرنا محدثونا أنها غير مرئية من أعلى منارة بوقارون أو القرية القريبة منها، مؤكدين أن من يقوم بالغطس إلى أعماق كبيرة يمكنه أن يرى بعينيه بقايا معادن السفن وبعض تجهيزاتها، لكنهم نبهوا إلى أن المكان عميق جدا بسبب الانحدار الشديد لـ»رأس بوقارون» وقد يبلغ مائتي متر، ومن الصعب جدا الغوص إلى غاية القاع، بحسبهم، منبهين إلى أن بعض الزوار من الهواة يستكشفون هذه المنطقة سعيا خلف ما قد يعثرون عليه، في حين أخبرونا أن حطام سفينتين تعودان إلى الحرب العالمية الثانية ما يزال موجودا بمنطقة «خناق مايون» غير البعيدة عن «رأس بوقارون»، لكن الوصول إليها باستعمال السيارة مستحيل، ويتطلب إما قاربا عن طريق البحر أو المشي على الأقدام في مسالك غابية وعرة.
ورجح السكان أن تسمية «بوقارون» قد تكون تحريفا لكلمة «بوقرعون»، وهي التسمية المحلية لشقائق النّعمان، أو ربما يكون اسم أول شخص قطن في المنطقة، حيث أضافوا أن أساطير الأجداد تقول إنهم ينحدرون من منطقة أخرى واستوطن أسلافهم «بوقارون» بعدما غزوا من سبقوهم إليها، في حين لاحظنا في محدثينا الاختلاف الظاهر في لون البشرة والعينين، فاثنان منهم سمر وأصحاب عيون سوداء وبنية، بينما الثالث أبيض صاحب عينين زرقاوين، فيما جمع رابع المجموعة بين سمرة قاتمة وعينين بلون أزرق فاتح. وقد أكد لنا ساكن آخر بالمنطقة أن «بوقارون» استقطبت عبر التاريخ أجناسا مختلفة جعلت من قاطنيها مزيجا من ثقافات مختلفة انصهرت كلها اليوم في بوتقة واحدة.
سلسلة بشرية لمنع الرياح من حمل الأطفال بعيدا

ومن الصعب على من يزور «رأس بوقارون» خلال فصل الصيف أن يتخيل أن قوة الرياح في هذا المكان قد تصل إلى حد حمل طفل صغير من الأرض، رغم ما لاحظناه من رياح عليلة منعشة في الموقع في عز الصيف، لكن السكان المقيمين بالقرب من المنارة أكدوا لنا أن سرعة الريح قد تبلغ 150 كيلومتر في الساعة خلال الشتاء، بالإضافة إلى الأمطار الشديدة والسيول التي تؤدي أحيانا إلى غلق الطريق، كما رسموا لنا مشهدا مرعبا عن ارتفاع مياه البحر والأمواج الضخمة التي ترتطم بالجدار الصخري لجبل «بوقارون» محدثة دويا يصم الآذان. وقد أكد محدثونا أن الرياح العاتية هي سبب اشتهار المنطقة بتحطم السفن فيها، لارتطامها بالصخور.
وأضاف محدثونا أن أبناءهم لا يتجهون في الاضطرابات الجوية الشديدة إلى المدرسة فرادى، وإنما يقوم مرافقوهم بتشكيل سلسلة بشرية يتمسك كل من فيها بالآخر وعلى الطرفين شخصان بالغان ليشدا الأطفال جيدا ويحرصا على سلامتهم، وما إن يدخلون المدرسة لا يسمح لهم بالخروج منها أبدا إلا بنفس الطريقة بعد حضور مرافقيهم البالغين، خوفا عليهم من أن ترفعهم الريح وتلقي بهم إلى الهاوية الصخرية المطلة على البحر، خصوصا بعدما قلصت أشغال إعادة تزفيت الطريق من ارتفاع السور المطل على الواجهة البحرية، حتى صار لا يتعدى حوالي أربعين سنتيمترا، بحسب ما أكده لنا محدثونا ولاحظناه.
ونبهنا السكان إلى أن التسمية القديمة لـ»رأس بوقارون» هي «بورياح»، أو «أبو الرياح»، بسبب ما يعرف على المكان من قوة الرياح التي تصطدم على سطحه، كما أن بعض القدماء كانوا يسمون المكان بـ»السبع روس» أو «الرؤوس السبعة»، في إشارة إلى الخلجان الممتدة في البحر نحو الغرب والشرق، حيث اعتبر محدثونا الذين خبروا البحر لعقود من الزمن أن جميع المناطق الواقعة في محيط هذا الرأس البحري امتداد له.
«إصبعان» لمرور السفن بين  رأس بوقارون  والأفق
وشدد السكان في حديثهم إلينا، أننا لن نتمكن من رسم تصور في أذهاننا عن «رأس بوقارون» إلا من خلال مشاهدته من قارب من البحر، حيث روى لنا أحدهم أنه عمل صيادا طيلة حياته، ولم يسبق أن رأى أمرا مماثلا في أي مكان، مثلما قال، فعند التوجه نحو منطقة «مرسى الزيتونة» التي تبعد بضعة كيلومترات نحو الغرب، لا يبقى من المسافة بين «بوقارون» والأفق إلا مقدار إصبعين بحسب ما يشاهده من ينظر إلى الرأس، لدرجة تجعله يتساءل عن كيفية مرور البواخر الضخمة منه، بحسب ما يروي لنا محدثنا، الذي اعتبر الأمر من عجائب الطبيعة وخدعها البصرية الغريبة.  
وقد أشار محدثونا إلى جهة الشمال الغربي وأخبرونا أن مرسيليا تبعد مسافة 900 كيلومتر عن «رأس بوقارون»، بينما تقع إيطاليا نحو الشمال الشرقي، كما تمكننا من مشاهدة طيف جبل إيدوغ بعنابة نحو جهة الشرق، رغم الضباب الكثيف الذي كان يخفيه، في حين أكد لنا السكان أنه يمكن خلال الليل مشاهدة ضوء منارته.
وجعلت خصوصية موقع «رأس بوقارون» منه قبلة للمهاجرين غير الشرعيين، حيث حدثنا المواطنون عن بعض حالات الهجرة التي تسجل في السنوات الأخيرة من محيط الرأس، في حين يقذف البحر من حين لآخر بالكثير من الأشياء التي تعلق بالصخور البحرية الممتدة من «بوقارون»، ومنها المخدرات التي يتخلص منها المهربون في عرض البحر أحيانا بعدما يفرون أو ينكشف أمرهم.  
شباب يغامرون بالنّزول إلى الشواطئ الصخرية   
غادرنا محيط السكان وتوجهنا نحو منارة «بوقارون» راغبين في الاطلاع عليها عن كثب، حيث لا يمكن الدخول إليها بالسيارة، ما جعلنا نترجل ونواصل طريقنا مشيا عبر مسلك ترابي منحدر يستغرق قطعه، عليه آثار انزلاق كبير أدت إلى انهيار جزء ضخم من سور الدعم الذي شيده المستعمرون فضلا عن أنه اقتلع بعض الأشجار الضخمة من جذورها. بعد حوالي عشر دقائق من السير بلغنا بوابة المنارة المغلقة، حيث طرقنا عدة مرات دون أن يرد علينا أحد، فهتفنا لعل حارسها يطل من النافذة أو من إحدى الكُوى ، لكن دون جدوى ، في حين مر بنا شابان خلال تواجدنا أمام مدخل المنارة، ألقيا التحية ثم تسلقا السور الصغير المطل على الهاوية ونزلا في الصخور، حيث أخبرنا أحدهما أن هناك مسلكا يؤدي إلى الشواطئ الصخرية.
وتغري هذه الشواطئ الصخرية لـ»رأس بوقارون» بالسباحة فيها وصيد الأسماك، بفضل صفاء مياهها الشفافة، حتى أن الواقف أعلى الجبل يستطيع رؤية الأسماك الضخمة في حال مرورها بالأسفل، في حين كانت أصوات مجموعة من الشباب تصل آذاننا من الأسفل. وبعد أن تسلقنا السور، دلفنا إلى الجهة الخلفية من المنارة وجدنا أن النزول إلى أحد هذه الشواطئ يتم عبر سلالم قديمة تؤدي إلى أسفل، رغم أنها شديدة الانحدار وقد يؤدي تعثر بسيط بمن يمر عليها إلى الوقوع، فيما لاحظنا بابا خلفيا لمغادرة المنارة نحو السلالم مباشرة. وروى لنا بعض السكان أن تموين حراس المنارة كان يتم عن طريق البحر في وقت سابق، قبل أن يشق المسلك المؤدي إليها.
تسميات مختلفة وتاريخ طويل مع الغرق

وما زالت منارة «رأس بوقارون» تقف شامخة في وجه البحر على الموقع الأكثر توغلا نحو الشمال في السواحل الجزائرية، حيث انتهى المستعمرون من تشييدها مطلع القرن العشرين بعد أن تعطلت أشغالها لحوالي أربعين سنة، وقد كانت مدرسة القرية مستغلة كمنارة إلى غاية ذلك التاريخ، في حين وجدنا أن «رأس بوقارون» قد ورد ذكره في العديد من المصادر عبر مئات السنين بتسميات مختلفة، فالمؤرخ الفرنسي روبيرت مونتران، يرى أن الأميرال العثماني الرايس محي الدين بيري قد ذكره باسم «رأس القردة» في مؤلفه الضخم المسمى «كتاب البحرية» الذي ألفه سنة 1521، في حين يرد في مصادر أخرى تحت اسم «السبع روس». أما الإغريق فقد أطلقوا عليه تسمية «رأس تريتون» (تعني الرأس المحفور) بحسب المؤرخ الإغريقي سترابو، الذي يذكره ستيفان غزال في الجزء الأول من كتابه «التاريخ القديم لشمال إفريقيا»، ويؤكد أنه كان يمثل الحد الجغرافي بين قبائل الماسيل و الماسيسيل النوميدية.
وقد عثرنا على مجموعة من نسخ المواضيع الصحفية القديمة التي تتحدث عن غرق سفن بمحيط «رأس بوقارون»، على غرار عدد الأول من ديسمبر من أسبوعية «صليب الجزائر وتونس» الذي نُقل فيه خبر عثور قبطان باخرة تسمى «نوتردام دي لورد» خلال رحلة بين الجزائر العاصمة و سكيكدة ، على مجموعة من الصناديق وعوامة على بعد ستة أميال بحرية مقابل رأس بوقارون ، وتبدو أنها مترتبة من غرق سفينة ما، دون أن يتمكن من استرجاع الأكياس بسبب الظروف الجوية السيئة ما حال دون تعريف السفينة، كما ذكرت جريدة «لو بتي جورنال» في عددها الصادر يوم الأربعاء 29 أفريل 1914 أن باخرة يونانية تسمى «بينيلوبي» كانت قادمة من البحر الأسود وغرقت خلال الليل مقابل نفس الرأس.
وقد وقعت على مستوى «رأس بوقارون» واحدة من أكبر المعارك في الحرب العالمية الثانية، عندما هاجمت القوات الجوية النازية أسطولا بحريا للحلفاء مكونا من 26 سفينة نقل ترافقها 15 سفينة حربية، حيث أدت المعركة إلى سقوط ست طائرات ألمانية وغرق ست سفن للحلفاء، و يرجح أن الحطام الذي يتحدث عنه السكان بالقرب من «خناق مايون» يعود إلى هذه الحادثة.  
س.ح

الرجوع إلى الأعلى