عـاصمــة الفــواكه بقسنطينــــة تُــزهِر مــن جديــد!
تعدّت شهرة منطقة حامة بوزيان، بالشمال الغربي من قسنطينة، حدود ثالث أكبر بلديات الولاية، بل وخارج حدود الجزائر، بالنظر للغلال والفواكه ذات الطعم المميّز الذي لا يزال المعمرون وأحفادهم يتذكرونه بنَهمٍ، خصوصا فاكهة الكرز والخوخ والمشمش من البساتين الغنَّاء، لتتراجع هذه السمعة في العقدين الماضيين، لأسباب عديدة من بينها زحف الاسمنت إلى الأراضي الخصبة، غير أنَّ قلب عاصمة الفواكه والخضر عاد لينبض بالبساتين الجديدة بمنطقة القنطرة الكحلة والمدخل الغربي للغراب، فأصبحت البلدية تغطي بحسب إحصائيات رسمية نسبة اكتفاء من الفواكه تصل إلى 90 بالمئة، رغم ما يشتكيه الفلاحون من نقائص.
روبورتاج: فاتح خرفوشي
يتوارث ساكنة قسنطينة الحديث عن خضر وفواكه حامَّة بوزيان بشكل مميز، منذ القدم، كون القرع والسلطة و»الڤناوية» وبقية الخضر، القادمة من الشمال الغربي للمدينة، لها مذاق خاص، وهذا راجع لخبرة الفلاحين هناك، وأيضا للمياه العذبة التي تسقى بها الحدائق الغنَّاء، فيما يبقى العناية وطبيعة الأرض عاملان آخر لتمييز غلال «حامة بليزانس»، كما سمِّيت في العهد الاستعماري، عن بقية الثمار والمنتوجات الفلاحية.
قادتنا السمعة ذائعة الصيت لفواكه وخضروات الحامة، ثم تقهقرها في الفترة الأخيرة، إلى إعادة النبش في هذا الموضوع، حيث أكد غالبية فلاحي الجهة الذين التقت بهم النصر اشتهار البلدية بنوع خاصٍّ لمذاق الفواكه، خصوصا «حب الملوك» كما يعرف محليا، إلى جانب «الدرّاق» والخوخ، فيما ضمنت الأراضي الغنَّاء بمناطق الضبابية والركاني و بشير وعين بن سبع قوت قسنطينة والولايات المجاورة، من الخضر، في الماضي، و هو أمر ما لم يعد قائما في يومنا هذا، بعد فتح الأبواب لزحف الإسمنت إلى أخصب الأراضي، وافتتاح ورشات النجارة، وهو عامل أدَّى لتراجع إنتاج غلال وفيرة و بنوعية ممتازة بالمنطقة.
وعاود الفلاحون، مؤخرا، الرجوع لخدمة الأرض ضمن استثمارات ضخمة تمتدُّ على عشرات الهكتارات، خصوصا بمحاذاة الطريق الوطني 27 نحو ميلة، أسفل حي الغراب، والقنطرة الكحلة، وعلى جنبات أحياء حامة بوزيان، على غرار بشير وعين بن سبع، و كذلك في الطريق نحو بلدية ديدوش مراد المجاورة. وتمتدُّ الخضرة على مدِّ البصر للأشجار المتراصفة ضمن استثمارات راجعة لفلاّحين خواص، رفعوا تحدي إعادة إحياء منتوجات الجهة، حيث انتشرت خلال السنوات القليلة الماضية أشجار الخوخ بأنواعه، والإجاص والتفاح والزعرور، والكرز، وعاود التُّجار التهافت عليها، نظرا للطلب الملحِّ عليها، وباتت استثمارات مربحة كما أكده لها أصحاب المزارع.
اقتربنا من إحدى المزارع المجاورة لواد الرمال، بمنطقة القنطرة الكحلة المركز الجديد لزراعة الفواكه، بحثا عن صاحبها، فوجدنا ستينيا يقوم بالعناية بالأشجار، حيث أكّد لنا أنه ورث استصلاح الأرض والفلاحة وغرس الأشجار المثمرة أبًا عن جد، بعدما كانت أرض العائلة بـ «بشير»، بمدخل الطريق الوطني رقم 27 المؤدي إلى جيجل، ليُكمل المسير ويقوم باستثمار خاص بالقنطرة الكحلة، عن حب.
زراعة تتطلّب يدا عاملة أقل بهامش ربح أكبر
بدأ الفلاح المدعو صالح بالحديث عن منتوجات الحامة المشهورة من الغلال، سواء قبل أو بعد الاستعمار، وامتداد سمعتها الطيّبة منذ زمن الحكم العثماني، حيث كان دايات وبايات الجزائر يزورونها للترفيه، والتمتع بالإخضرار والهدوء، والمياه العذبة الجوفية المتدفقة، وللحصول على الثمار طيبة المذاق سواء من الفواكه أو الخضار، مشيرا إلى معلومة يجهلها الغالبية اليوم، وهي تواجد طيور الكناري» بكثرة في البساتين الخضراء للبلدية، نظرا لوفرة الفواكه، من جهة، وكذا حبِّ هذا الطير الذي يحبُّ المناخ المعتدل للعيش للسلطة الخضراء.
وتحوّلت «حامة الرفاهية» في العهد الاستعماري الفرنسي إلى الحديقة الخلفية لقسنطينة وحتى الشرق الجزائري على حدِّ تعبير محدثنا، ولا يزال المعمِّرون الذي سكنوا الجهة وحتى بالضواحي الأخرى يشتاقون للمذاق الطيب للخضر والفواكه الحاميّة، ويوصون بجلبها لهم من قبل السياح الذي يأتون لزيارة الجزائر صيفا، غير أنَّ جملة من العوامل جعلت البلدية تفقد هذا البريق، خصوصا بزحف الإسمنت على الأراضي الفلاحية الخصبة، وتوارث الأبناء لملكيات فردية شاسعة، غير أنَّ أموال بيع العقار أغرتهم بدل صنعة الأجداد وحفظ عِرض الأرض.
وتقول إحصائيات دراسة بيداغوجية أجريت العام 2017، إنَّ 61 بالمئة من ملكية العقار الفلاحي في بلدية حامة بوزيان تعود إلى خواص، بمساحة تقارب 3,8 ألف هكتار، بمجموع 519 ملكية، وهو ما جعل التصرّف في المساحات الشاسعة بقلب مدينة الحامة بيد قلة من الورثة، فيما برَّر ذات المتحدث هروب الأبناء من خدمة الأرض بصعوبة الأمر، ونقص الخبرة، وتراجع نسبة المياه الموجّهة للسقي، وغلاء تكاليف هذا النشاط و كذلك قلة اليد العاملة.
وأضاف صالح أنَّ العامل الإضافي وراء الرجوع إلى زراعة أشجار الفاكهة بأنواعها، هو تراجع مردودية زراعة الخضر والحبوب، عموما، فيما تتيح الأشجار المثمرة هامش ربح مرتفع مقارنة بالأولى، ويدا عاملة أقلَّ عددا، وحين تنضج الثمار اليانعة للزعرور والتفاح والتين والخوج و»النيكتارين» والعنب والإجاص، وحتى الزيتون والدراق، يتسابق تجار الجملة على شرائها وهي لا تزال تعانق الأغصان، وبالتالي إدخار المزيد من الجهد والوقت، بدل انتظار الزبائن ورحلة تسويقها، وإمكانية تلفها، حيث قام بالاستثمار على مساحة حوالي 4 هكتار، مطلِّقا العمل في المساحات الصغيرة لزراعة الخضر بأنواعها.
سر المذاق في الشتلة
و زبائن «في.آي.بي» يشترون المحاصيل!
وجهنا السؤال الملح بشدّة لدى عامة الناس، بخصوص الشيء الخاصّ في فواكه الحامة، على غرار حب الملوك والنيكتارين ، فأجابنا «ب. عصمان» أحد المستثمرين القدماء في هذا النوع من الفواكه الفاخرة أنَّ السرِّ يكمن في الشتلة، والاعتماد على فسيلة الأشجار التي زرعت في الحامة منذ قرون، حيث يقوم فلاحون ذوو تجربة خاصة بقطع أغصان شجرة الكرز «حب الملوك»، على وجه الخصوص، قبيل فصل الربيع، وإعادة زراعتها، أو الاعتماد على التشتيل، عبر زراعة نوى الفاكهة ونقلها بعد ذلك لغرسها، زيادة على توازن دقيق في ريِّ الأشجار العطشى، وعدم الإكثار من الماء، الذي يعتبر أساسا عذبا في هذه المنطقة من قسنطينة.
وأكد عصمان إقدام بعض التجار الذين يبيعون الفاكهة لأشخاص «في. آي. بي» على شراء كل محصول الكرز مسبقا، وحتى تقديم عروض باقتناء كل المنتوج لسنوات قادمة، وبأسعار تنافسية، بغرض تقديم مذاق متميّز وغير مألوف لدى متذوقين من نوع خاص، قد تمتدُّ الحدود الجغرافية لتشملهم في العاصمة والغرب، وحتى بالضفة الأخرى من البحر الأبيض المتوسط، من المستعمرين الفرنسيين وحتى اليهود، والمغتربين أيضا.
فاكهة جديدة تشبه الخوخ
واصلنا جولتنا عبر البساتين الرحبة التي استعادت جزءا من روحها الضائعة المسجونة بين جدران الطوب، وورشات النجارة التي باتت ديكورا ملازما للخضرة وأشجار الفاكهة، وتتهدَّدها، بعدما قضى غبار الإسمنت المتصاعد على عدد كبير منها، في السنوات الماضية، حيث التقينا بـ «الحاج»، أحد أقدم المستثمرين في زراعة أشجار الفواكه، منذ عقود، وصاحب مستثمرة فلاحية كبيرة بالحامة، ورغم اعتذاره بلطف عن البوح لنا بأسرار هذه الصنعة وعدم إجراء حديث معنا، إلا أنَّه أفرغ بعض ما في جعبته، باحتشام.
الحاج قال إنَّ فواكه بساتين بلدية حامة بوزيان باتت حاليا مطلوبة بشكل خاص لنوع معيَّن من الزبائن وليس الجميع، إن صح التعبير، حسبه، وبالتالي لم يعد لها بعدٌ تسويقي تتنافس فيه الكميّة على حساب النوعية، وإنما نوعية فاكهة النيكتارين والخوخ والمشمش والتين والكرز هي مربط الفرس، وميزة يمكن استغلالها عبر إجراء البحوث الخاصة والحفاظ على شتلة الفواكه الخاصة ذات الطعم المميز، متأسفا لعدم وجود صنف من أصناف الفواكه المذكورة يحمل إسم الحامة لتوضيح خصوصيتها، معترفا في الوقت ذاته بتطوير الفلاحين لنوع من الخوخ يشبه النيكتارين إلى حدٍّ بعيد، لكنَّه ذو مذاق مختلف تماما.
أمَّا عن كيفية تجسيد هذه الاستثمارات، فردَّ الشاب رضوان، و هو فلاح يستغل قطعة أرض بالمدخل الغربي لحي صالح باي «الغراب» في جزئه التابع إداريا لحامة بوزيان، أنَّ العمل جاء من ماله ومال شركائه وعائلته الخاصّ، ولم تقم الدولة بتقديم أي مساعدة لهم، حيث قرَّر بالتشاور مع العائلة إنجاز هذا المشروع للأشجار المثمرة بدءا من العام 2017، بعدما كان نشاطهم يقتصر على زراعة الحبوب، وتحديدا القمح، حيث عمل بجدّ إلى غاية زراعة أشجار الإجاص والخوخ واللوز والزيتون، وبعض الفواكه الأخرى، وجلب الماء لها، بعد مدِّ شبكة السقي بنظام التقطير.
وصرح هذا الشاب بإمكانية توفير الفواكه لكل الولاية، وحتى الولايات المجاورة، في حال كانت الاستثمارات المماثلة جادَّة، واتسم العمال بالنشاط والاجتهاد للعناية بالأشجار، منتقدا نقطة غياب الدعم الخاص سواء بالعتاد، أو توفير نظام السقي بالتقطير، وحتى تقديم تراخيص لحفر آبار لسقي مزروعاتهم وأشجارهم المثمرة، حيث توجد طلبات تمَّ إيداعها منذ ثلاث وأربع سنوات ولم تأخذ بعين الاعتبار، على حد تعبيره.
رئيس بلدية حامة بوزيان، عبدالرزاق فيلالي
لدينا أزيد من 140 مستثمرة وسندعم الفلاحين الحقيقيين
رئيس المجلس الشعبي بحامة بوزيان، عبدالرزاق فيلالي، أدلى بتصريح بخصوص عودة الاستثمارات الفلاحية بقوة إلى بلديته، بالقول أنَّه وبقية المنتخبين سيعملون على الوقوف مع المستثمرين «الحقيقيين» من الفلاحين الذين سيعيدون للحامة اخضرارها.
و أكد فيلالي للنصر أنه ستتم تصفية من وصفهم بالانتهازيين من بين أصحاب 140 مستثمرة موزّعة عبر الأحياء الـ 28 بالبلدية، على أن تعُود المستثمرات التابعة ملكيتها للدَّولة إلى أصحاب المهنة الراغبين في ضمان الاكتفاء الذاتي ومساعدة الاقتصاد الوطني.
رئيس مصلحة الإنتاج بمديرية الفلاحة، جمال بن سراج
بلدية حامة بوزيان تحقق نسبة اكتفاء بالفواكه تصل إلى 90 بالمئة
من جهة أخرى، صرَّح رئيس مصلحة الإنتاج والدعم التقني بمديرية الفلاحة لولاية قسنطينة، جمال بن سراج، أنَّ مسؤولي القطاع يولون اهتماما بالغا للاستثمارات التي بدأت بالتزايد بشكل مضطرد، منذ العام 2003، ومتابعة الفلاحين وتقديم يد الماعدة لهم، والنصائح الواجب اتخاذها، رغم بعض العراقيل، معتبرا وفرة الإنتاج ببساتين بلدية حامة بوزيان هائلة، وتبلغ نسبة اكتفاء تصل إلى 90 بالمئة من الفواكه في الولاية، كما تباع بولايات أخرى.
وأضاف بن سراج أنَّ الكثير من المستثمرات تشهد عوائق ونقائص، أكد أنه يجب على مالكيها التقدم إلى مختلف مصالح مديرية الفلاحة لحلها، نظرا للمجهودات المبذولة لتسهيل عملهم سواء مع المديرية نفسها، أو المديريات الأخرى التي يتقاطع عملها مع الفلاحة، على غرار الريّ، وقضية تراخيص حفر الآبار لسقي المحاصيل.
ف/خ

الرجوع إلى الأعلى